في الشوق إلى الحياة الأبدية، وفي كثرة الخيرات الموعود بها المجاهدون
1 – المسيح: يا بني، إذا شعرت بالشوق إلى السعادة الأبدية، يفاض عليك من العلاء، واشتهيت الخروج من مسكن جسدك، لتستطيع أن تشاهد بهائي من غير ظل تحول، فاشرح قلبك، واقبل بكل رغبتك هذا الإلهام المقدس.
أد أوفر الشكر للصلاح السامي، الذي يعاملك بمثل هذا الانعطاف، فيفتقدك بحنو، ويستحثك بشدة، ويرفعك بقدرته، لئلا تهوي بثقلك الذاتي إلى الأرضيات.
فإنك لست بتفكيرك واجتهادك تحصل على ذلك، بل بفضل النعمة العلوية وحدها، وحسن التفات الله إليك، لكي تتقدم في الفضائل، وفي تواضعٍ أعظم، وتستعد للجهادات المستقبلة، وللاتحاد بي بكل رغبة قلبك، وتجتهد في خدمتي بإرادةٍ مضطرمة.
2 – يا بني، في الغالب عندما تتقد النار، لا يتصاعد لهيبها بدون دخان.
كذلك بعض الناس يضطرمون شوقًا إلى السماويات، وهم مع ذلك غير محررين من تجربة الأهواء الجسدية.
فلذلك لا يبتغون مجد الله خالصًا، في ما يسألونه بشديد الإلحاح.
ومثل ذلك هي في الغالب رغبتك، التي زعمت أنها ملحةٌ جدًا.
فإنه ليس بطاهر ولا كامل، ما قد أفسدته المصلحة الذاتية.
3 – لا تلتمس ما هو لذيذٌ أو نافعٌ لك، بل ما فيه مرضاتي ومجدي، لأنك، إن حكمت بالصواب، وجب عليك اتباع تدبيري، مفضلًا إياه على رغبتك أنت وعلى كل رغبة.
”إني عالمٌ برغبتك وقد سمعت كثرة تنهداتك″ (مزمور 37: 10).
تود لو كنت، منذ الآن، حاصلًا على “حرية المجد التي لأبناء الله″ (رومانيين 8: 21)!وقد أخذ يلذ لك، منذ الآن، المنزل الأبدي، والوطن السماوي المفعم فرحًا!
بيد أن تلك الساعة لم تأت حتى الآن، بل أمامك بعد زمانٌ هو زمان حرب، زمان تعبٍ وامتحان.
إنك تتوق أن تمتلئ من الخير الأعظم، لكنك لا تستطيع الآن إدراك ذلك.
أنا هو ذلك الخير، فانتظرني -يقول الرب- “حتى يأتي ملكوت الله″ (لوقا 22: 18).
4 – لا بد لك أن تختبر بعد على الأرض، وتتمرس بمحنٍ كثيرة.
قد تعطى لك التعزية بين حينٍ وآخر، لكنك لن تمنحها بوفرةٍ تشبع رغائبك.
”فتشدد إذن وتقو″ (يشوع 1: 6)، في عمل، كما في احتمال ما يعاكس الطبيعة.
ينبغي لك أن “تلبس الإنسان الجديد″ (أفسسيين 4: 24)، ”وتنقلب رجلًا آخر″ (1ملوك 10: 6).
عليك أن تعمل غالبًا ما لا تريد، وأن تترك ما تريد.
ما يلذ للآخرين يلقى نجاحًا، وما يلذ لك أنت لا ينجح.
ما يقوله الآخرون يصغى إليه، وما تقوله أنت يحسب كلا شيء.
يطلب الآخرون فينالون، وتطلب أنت فلا تحصل على شيء.
5 – يعظم الآخرون في أفواه الناس، أما أنت فليس من يأتي بذكرك.
يعهد إلى الآخرين في هذا العمل أو ذاك، أما أنت فتحسب غير صالحٍ لشيء.
قد يشق ذلك أحيانًا على الطبيعة، ويكون أمرًا عظيمًا أن تحتمله بصمت.
فبهذه المعاكسات وكثيرٍ مثلها، يختبر الرب، عادةً، عبده الأمين: كيف يستطيع أن ينكر ذاته، ويكسر إرادته في كل شيء.
فإنك قلما تجد أمرًا تحتاج فيه إلى إماتة نفسك، بقدر ما تحتاج إلى ذلك عندما ترى وتحتمل ما يعاكس إرادتك، ولا سيما إذا أُمرت بعمل أُمورٍ تراها غير مناسبةٍ وقليلة الفائدة.
ومن حيث أنت مرؤوسٌ لا تجسر على مقاومة سلطةٍ أعلى، فإنك تستثقل السير بحسب إشارة غيرك والتخلي عن كل رأيٍ ذاتي.
6 – ولكن اذكر، يا بني، ثمرة هذه الأتعاب وسرعة زوالها، وما لها من “أجرٍ عظيمٍ جدًا″ (تكوين 15: 1)، فلا تجد فيها مشقة من بعد، بل تعزيةً عظمى لتقوية صبرك.
فإنك بدلًا من هذه الرغبة اليسيرة، التي تتخلى لي الآن عنها طوعًا، سيكون لك في السماء دوام تحقيق مشيئتك.
هناك تجد كل ما تريد، وكل ما تستطيع أن تبتغي.
هناك تتمتع بجميع الخيرات، دون خوفٍ من فقدانها.
هناك تكون إرادتك واحدة مع إرادتي على الدوام، فلا تبتغي شيئًا خارجًا عني أو خاصًا بها.
هناك ما من أحدٍ يقاومك، ولا أحدٍ يتشكى منك، ليس من يعوقك، ولا ما يعترضك، بل كل ما تشتهي يكون متوفرًا لديك في آنٍ واحد؛ فيشبع جميع رغائبك، ويملأها حتى الجمام.
هناك أُكافئ على الإهانات بالمجد، وعلى “الاكتئاب بحلة التسبيح″ (أشعيا 61: 3)، وعلى المحل الأخير، بعرش الملك إلى الأبد.
هناك تظهر ثمار الطاعة، ويفرح بمشاق التوبة؛ والخضوع المقرون بالتواضع يكلل بإكليل المجد.
7 – فانحن الآن إذن بتواضعٍ تحت أيدي الجميع، ولا تكترث لمن قال هذا الشيء أو أمر به، بل فليكن جل همك، إذا أُمرت بشيءٍ أو رغب إليك فيه -سواءٌ كان ذلك من قبل رئيسٍ أو مرؤوسٍ أو عديل- أن تتأول كل شيءٍ تأولًا حسنًا، وأن تجتهد في تتميمه بنيةٍ خالصة.
ليطلب الواحد هذا الشيء والآخر ذاك، وليفتخر الواحد بهذا الأمر والآخر بذاك، ولينالوا ألف ألف مديح، أما أنت فلا تفرح بهذا ولا بذاك، بل باحتقار نفسك، وبإرضائي وإكرامي أنا وحدي.
هذا ما يجب أن تتوق إليه:”أن يتمجد الله فيك دائمًا، سواءٌ بالحياة أم بالموت″ (فيليبيين 1: 20).