الحنان في زمن الحرب
بين العاطفيّة والحنان فرق. العاطفيّة تأتي، أساساً، من البَشَرة. كل قلب
ينوجع على مَن قست عليه الأيّام، على المظلوم والمجروح والمعطوب في جسده
أو في نفسه. وحدة الطبيعة الإنسانيّة تصنع هذا. الشعور المشترَك من
الطبيعة الواحدة. لكنْ ليست العاطفيّة، بعد السقوط، على صفاء.
تعتريها
الأهواء. يتخلّلها الزغل. في أسفل السلّم، تطالعنا العاطفيّة كشعور طفيف،
كتيّار داخلي خافت.
هذا يحدث متى كان صاحبها مأخوذاً، بالكليّة، بأموره الخاصّة. العاطفيّة،
إذ ذاك، حسّ عابر، مجرّد كلمة، ثمّ يتحوّل صاحبُها إلى غير شأن وكأنّ
الأمر لديه، مهما كان، لا يستأهل اهتماماً أكبر.
وقد تغلِّفُ العاطفيّةَ
مصلحةٌ شخصيّة أو خباثةٌ أو غواية. لذا ليست العاطفيّة، واقعاً، من دون
عَطَب. لا علاقة للعاطفيّة بالحبّ. العاطفيّة خروج على الحبّ. في الحبّ
امتدادُ عطفٍ لا عاطفيّة.
أما الحنان فعطف ورفق وصفح واحتضان.
الابن الشاطر أبوه تحنّن عليه (لو 15). يسوع تحنّن على الأبرص ولمسه (مر
1). ابن الله تحنّن على الجموع وقد كانوا منزعجين، منطرحين كغنم لا راعي
لها (مت 9). وشفى مرضاهم (مت 14).
في الحنان غصّةُ قلب ودمعةٌ، حركةٌ والتزامٌ لموضوع الحنان. الحنان أصفى
لأنّ فيه خروجاً من النفس وانعطافاً. لذلك لا يأتي الحنان من طبيعة بشريّة
ساقطة وإن كان بعضُ ما فيه من الطبيعة. الحنان يأتي من الحبّ، من نقاوة
القلب.
الحنان تُبدعُه المحبّة متى استقرّت فيك. لا يأتي عفواً. يأتي من
تعب، من بركات الله. ينسكب في القلب بعد تنقية. والتنقية أن تصفو من عشقك
لذاتك، من غرورك، أولاً، حين تمسي الوصيّةُ الإلهيّة إليك إيقونة تحييها
في نفسك، حين تعصمك كلمةُ ربّك عن الخطيئة إليه.
متى ارتضيت ألا تحيا
بالخبز وحده بل بكل كلمة تخرج من فم الله، إذ ذاك تجد سبيلك إلى جديدٍ في
القلب يأتيك بقمع الجسد واستعباده لله (1 كو 9: 27). والجديد الآتيك يكون
الحنان من جوف الله وينسكب في جوفك. من الحشا إلى الحشا. إذ ذاك حنوّك
كشفٌ، لَطَفٌ إلهي. وحدها العِشرة الإلهيّة تُلطِّف. فيما عدا ذلك أنت في
القسوة مهما تمسكنت.
في الحرب تحتفّ بك القسوة من كل صوب، من الداخل ومن الخارج. التجربة
الكبرى في الحرب أن تكون مع هذا على ذاك. تُجيَّش المشاعر في صفّ هذا دون
ذاك. تُثار الأحقاد. تصير أنت المبرَّر في عين نفسك.
كلّ الظلم يبدو لديك
من عدوِّك. لا تعود لك عينان ولا أذنان بل عينٌ واحدة وأذنٌ واحدة. لذا
تقسو. تقع في الفخ. كل السياسة قائمة على شحن النفوس والتفريق فيما بينها
وتسييرها في هذا الاتّجاه أو ذاك. لذا لا أقرب إلى الشيطان من السياسة.
هنا يتعاطى إبليس السلطة على النفوس بمعناها الأوسع.
يتحمّس الناس، في السياسة، للموت كما لا يتحمّسون في غير مجال. حقدهم
الآتي من هوس أنانيّاتهم الجماعيّة، من تلاقي مصالحهم يُعميهم. لذا لا
تعود عاطفيّتهم تشمل إلاّ خاصتهم. تتسيّس. تقع في المحاباة. كأن ما يجري
في عروق مَن تحسبهم منك دمٌ وما يجري في عروق مَن هم لسواك ماء.
وبالنتيجة يتهلّل الناس على الأشلاء ولهم في الموت نصرٌ. منه يصنعون بطولاتهم!
كل الناس مساكين. كلّهم ضحايا مَن يصنعون الحروب. والحرب مَن يصنعها؟
التسلّط والغرور والأحقاد والانتقام والسعي إلى الربح... لا علاقة للحرب
بالحقّ لأنّ الحقّ ينبثق من الحبّ. كل هذه أدوات الشيطان للناس في هذا
الدهر! لهذه يتحمّس الناس حين تخلو نفوسهم من الإنسانيّة الحقّ!
الحنان، في زمن الحرب، أن تعرف أنّ الناس مخدوعون، موجوعون، أنّهم مجعولون
إمدادات حرب. الحنان في زمن الحرب، أن ترتفع عن الضغائن، أن تعي أن عدوّ
الخير يصوِّر لهم كلاً للآخر إبليس وهو المتلبِّس فيهم. الحنان، متى سالت
الدماء، ألاّ تلوم إنساناً أو تدين إنساناً. الشيطان هو المُلام.
أن تنقّي
نيّتك من نحو الجميع. أن ينعصر قلبك على مَن باعدت الأحقاد فيما بينهم. أن
تضمّهم إلى صدرك ولو على بُعد. أن تبكيهم. أن تئنّ من أجلهم. أن تصوم
وتصلّي. أن تصمت صمت مَن أخرسه الألم. أن تفترش الأرض. أن تقيم على رُكبك.
أن ينطفئ عنك اللهو والمرح.
أن تطعم الجائع مما لديك وتأوي الشريد في ما
لك وتعين الجريح مما عندك وتسعف المريض. الحنان، في زمن الحرب، أن تجمع
إلى ربّك، في الدعاء، ما فرّقه عدوّ الخير، أن تسعى لتجمع قلوب الناس إلى
الناس. وهذا تنجح فيه إذا ما نجحت في مساعدة الناس على معاينة كلٍّ ما ليس
نقيّاً فيه هو.
الإنسان الجديد بأن يعرف نفسَه. بقدر ما تدخل في سلام مع
نفسك تدخل في سلام مع أخيك.
وبقدر ما تطلق العنان للحقد فيك والغضب وتلزم جانب البرّ الذاتي بقدر ما
تلقى نفسك في عداوة مع الآخرين. الإنجيل هو أنا وأنت. الإنجيل تجسّد لا
نظريّة. لم يكن يسوع وديعاً حنّاناً كإله فقط بل كإله وإنسان معاً.
وهو
صار إنساناً ليكون لك أن تتعلّم منه كيف تصير إنساناً جديداً. هذا يتحقّق
بنعمة مجّانية من عنده. لكنّك أنت تساهم بالشوق والإرادة والصبر.
ثمّ الحنان، في زمن الحرب، رجاء. الرجاء أن تعاين لا ما يُرى بل ما لا
يُرى، أن تعلم علم اليقين، أنّ لك ما وعدك ربّك به في أوانه. الرجاء غير
الأمل. الأمل تمنٍّ والرجاء يقين. فقط عليك أن تُسلِم نفسك، أن ترضى بما
سمح به ربّك، مهما كان مؤلماً. كل ما يحدث لك، إذ ذاك، متضمَّن في تدبير
ربّك لخلاصك، لفرحك، للحياة.
وأنت تدخل غرفة العمليات الجراحيّة تعرف أنّ
ما سيحصل لك، الجرحُ والدمُ والألمُ والغثيانُ، كلّه كائن لشفائك.
المؤمن ينظر إلى العافية الآتية من ربّه فيتشدّد على الآلام والضيقات، لا
بل يفرح بها لأنّها تدنيه مما هو راغب فيه ومشدودٌ إليه. بلى خير مكان
يقيم فيه الفرح هو الألم. ولادة إنسان جديد تأتي بعد مخاض. قوّة الصليب في
المسيح يقينُ القيامة.
الحنان، في زمن الحرب، يلقاك مكتئباً لكن غير
متضايق، متحيِّراً لكن غير يائس، مضطهَداً لكن غير متروك، مطروحاً لكن غير
هالك، حاملاً في الجسد كل حين إماتة الربّ يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً
في جسدك.
فإنّنا نحن الأحياء، على كلمة الرسول المصطفى بولس، "نُسلَم
دائماً للموت من أجل يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت" (2
كو 4).
ولعلّك تقول كل ما يقع علينا في زمن الحرب قاسٍ فهل يُعقَل أن يستحيل
حناناً؟ كيف بإمكاننا أن نتعاطى الحنان وكل ما من حولنا ولا أقسى؟
هذا
لأنّ يسوع الحنان ارتضى أن يقيم في قسوة خطيئة الناس. عِشرته، صحبته،
حضرته هي تُحيل النار ندى والقسوة طراوة والموت حياة. هذا إن صرت شفّافاً
لحضرة ربّك صار لك. خبرتَ الفرح رغم كل شيء، الفرح الذي ليس من هذا العالم
وليس مَن ينزعه منك.
ليس كالحنون مَن يعطف ويلوي على آلام الناس. ولكن ليس
نظيرَه، أيضاً، مَن يعكس الرجاء لا اليأس والفرح لا البؤس. كل الملكوت
يأتيك فيه ومن خلاله. تشعر كأنّه من غير طينة الناس، لكنّه من لحمك ودمك.
فقط فيه نفحة من ربّك. تأنس إليه كما لا تأنس إلى مخلوق. تلقاه على عذوبته
ولا اصلب وعليه ترتاح أن تتّكئ. يُخرجك من دوّامة الإثم وردّات الفعل.
يخلّصك من الحقد والانتقام والإحباط. يعلو بك على لعبة الموت وحبّ الموت.
يجعل قُبساً من نور ربّك يبزغ فيك فتستبين الظلماتُ فيك، إذ ذاك، ولا
أحلك.
يبقى الحنانُ في زمن الحرب شهادةَ كنيسة المسيح وعِطرَها فيما تنبعث رائحة
الموت والدخان والغبار من كل صوب. هكذا يسلك أحبّة الربّ وهكذا يَمثُلون
"كمضلِّين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا،
كمؤدَّبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن دائماً فرحون، كفقراء ونحن نُغني
كثيرين، كأنّ لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6).
لأنّ الله "سيمسح كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون
حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد..." (رؤ 21)، لأنّه آتٍ نبقى على الرجاء
ونقيم في الحنان مهما قست الأيّام. نَفَس أنوفنا مسيحُ الربّ!