رسائله
تقدم لنا رسائل ثيؤفان الحبيس رؤية عميقة لروحانيته، إذ هي مملوءة بالنصائح والإرشادات.
في إحدى رسائله، يقدم ثيؤفان مقالًا رائعًا عن الصلاة فيكتب:
"الصلاة هي رفع العقل والقلب إلى الله في التسبيح والشكر والتوسل لأجل الصالحات الروحية والمادية التي نحتاجها"، لذلك جوهر الصلاة هو ارتفاع وصعود الذهن إلى الله، فالعقل يقف في وعى تام أمام الله، وإذ هو مملوء بالتكريس اللائق، يبدأ يفتح له قلبه، وهذه هي الصلاة العقلية، وكل صلاة يجب أنْ تكون هكذا، فالصلاة في الكنيسة أو في البيت إنَّما تقدم فقط كلمات وشكل الصلاة، لكن كل إنسان لديه جوهر الصلاة في قلبه وعقله، وكل ترتيب الصلوات الطقسية والسواعي مملوء بتوسل العقل إلى الله.
لقد أوصانا المخلّص بأنْ ندخل مخدعنا الداخلى ونصلى لله الآب في الخفاء، وإذا كان المخدع يعنى القلب، إذًا بالتالي، وصية الرب تعلّمنا أنْ نصلى في قلبنا إلى الله، وهذه الوصية للمسيحيين جميعهم، والرسول بولس يوصى بنفس الأمر قائلًا أنَّنا لابد أنْ نصلى في الروح كل حين (أف 18:6) فهو يوصى بالصلاة الروحية للمسيحيين جميعهم بلا استثناء، وهو أيضًا يوصيهم أنْ يصلوا بلا انقطاع (1تس 17:5) ولكن الصلاة بلا انقطاع مستحيلة إلاَّ في القلب، وقد يظن البعض أنَّ الصلاة بلا انقطاع مستحيلة، لكن ما دامت ضرورية ووصية حتمية لكل المسيحيين إذًا لابد أنْ تكون أيضًا ممكنة لأنَّ الله لا يوصى بالمستحيل، أمَّا كونها صعبة فهذا أمر صحيح، لكن كل صلاح بصفة عامة صعب، وإنْ كانت الصلاة أصعب فما ذلك إلاَّ لأنَّها مصدر كل صلاح والحافظة له.
إذا سأل أحد "كيف أصلى؟" تكون الإجابة ببساطة "خاف الله" فخبرة مخافة الله تثير الانتباه والوعي في القلب وتغصبه على الوقوف بتكريس أمام الله، وهذا الوقوف الروحي العقلي أمام الله هو الصلاة، وطالما تظل مخافة الله في القلب، يستمر الوقوف العقلي أمام الله ولا يختفي من القلب، وهذه معونة عظيمة في الصلاة العقلية، ولو قال أحد: "الأعمال تشتتني" يجيبه ثيؤفان بأنَّ مخافة الله ليست فيه، لأنَّ الأعمال ليست عائقًا عن الوقوف العقلي أمام الله، ولا عن تذكر الله.. اَخرج من حياتك كل شيء رديء وخاوي ولا تترك إلاَّ ما يجب عليك بحسب وصية الإنجيل، وسوف ترى أنَّ أعظم ضرورياتك والتزاماتك لا تفصل عن الله بل على العكس، ستجد أنَّها تجذب قلبك إليه.
عندما تستيقظ في الصباح، قف بثبات أمام الله في قلبك أثناء صلاة باكر، وبعد ذلك اِمض إلى العمل المعيَّن لك من الله، ولكن اِبق مع الله داخل وعيك وداخل مشاعرك، وعندئذ سوف تنجز عملك بقدراتك الجسدية، بينما تظل في الله في الذهن والقلب.
إنَّ مَنْ يظنون أنَّه لكي نمارس الصلاة لابد أنْ نجلس في مكان ما في الخفاء، ونتأمل في الله، لا يعرفون معنى الصلاة، فنحن لا نحتاج إلى مكان خفاء بل إلى قلبنا، فيجب أنْ نقف هناك ونتأمل في الله.
يقول الناس أنَّ الوحدة تساعد كثيرًا على النمو في الصلاة ولكن هذا مستحيل إلاَّ للرهبان لأنَّ المؤمنين في العالم يعيشون في أعمال لا تنتهي لذلك ليس لديهم وقت للصلاة، وهنا يقول ثيؤفان ردًا على ذلك، أنَّه صحيح أنَّ الوحدة نافعة وضرورية، لكن هناك نوعيْن من الوحدة، النوع الأول هو الوحدة الدائمة الكاملة عندما يخرج الإنسان إلى البرية ليحيا في وحدة تامة، والنوع الثاني هو وحدة جزئية مؤقتة، وإنْ كان النوع الأول غير مناسب لمَنْ يعيشون في العالم، لكن النوع الثاني يناسبهم تمامًا ويمكنهم أنْ يمارسوه، فكل إنسان لديه كل يوم بعض الدقائق التي يختلي فيها مع نفسه حتى لو لم يحاول أنْ يرتب لنفسه بضعة ساعات من الخلوة، وهذا الوقت يمكن أنْ يستخدمه الإنسان لينمو في الصلاة العقلية والوقوف القلبي أمام الله، وبالتالي لا يستطيع أحد أنْ يجد لنفسه الأعذار ويقول أنَّه ليس لديه وقت لممارسة الصلاة العقلية "اِبحث عن ساعة واِفحص نفسك، اِترك عنك كل الهموم وقف عقليًا في قلبك أمام الله واِفتح له نفسك" هذه هي نصيحة ثيؤفان الحبيس.
ويشرح ثيؤفان فكرته عن الخلوة الداخلية بقوله أنَّه بجانب الخلوة الخارجية هناك أيضًا الخلوة الداخلية، فخارج الإنسان، يمكن أنْ يكون هناك نهر معتاد من الاهتمامات البشرية، لكن في نفس الوقت يمكن أنْ يكون هناك مَنْ يقف في القلب دون أنْ يلاحظ ما يحدث حوله، فالجميع يعلمون أنَّه عندما ينشغل الإنسان بالحزن لا يرى ولا يسمع مهما كانت الضوضاء حوله، إذ أنَّه وحده في قلبه منشغلًا بحزنه، وكلنا يعلم ذلك من الخبرة الشخصية، فإذا كان الأمر هكذا في الحياة الطبيعية إذًا يمكن أنْ يحدث أيضًا في الحياة الروحية، فعندما يبدأ الإنسان يحزن في قلبه، سوف يستطيع أنْ يُثبت وعيه وتركيزه في قلبه، وهكذا يكفى أنْ تجاهد لأجل نوال تلك الحالة الداخلية كىّ تكون في خلوة على الدوام أيًا كان المكان الذي أنت فيه، وهذا ليس أمرًا صعبًا، فقط اِقتنى مخافة الله وسرعان ما ستحزن وينسحق قلبك، عندئذ تُثبت انتباهك على الشيء الواحد الذي تحتاجه: كيف يجب أنْ تظهر أمام وجه الله؟ هذه هي الخلوة.
وفى إحدى رسائله، يكتب ثيؤفان عن صلاة يسوع وكيف أنَّها تُقال شفاهة وعقليًا وقلبيًا، وفي حديثه عن الصلاة الشفاهية يقول:
"في صيغتها المختصرة، تُقال هذه الصلاة كما يلي "يا ربي يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ" وفي صيغتها الكاملة تُقال هكذا "يا ربي يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ" ورغم أنَّ هذه الصلاة تُقال في البداية بِتَغَصُّب، إلاَّ أنَّه بعد بعض التدريبات وغصب النفس، إذا كان هناك عزم ثابت على ضبط أهوائنا الكثيرة عن طريق الصلاة والمعونة، تُخمد هذه الصلاة الأهواء بسبب الممارسة وتزداد سهولة وحلاوة".
في الصلاة الشفاهية لابد أنْ نبذل كل جهد لنثبت العقل والذهن على كلمات الصلاة ونقولها ببطء مُركزين انتباهنا كله على الأفكار المتضمنة في هذه الكلمات، وعندما يشرد العقل في أفكار غريبة، يجب أنْ نُثبّته فورًا في كلمات صلاتنا مرة ثانية، وتُعطَى للعقل نعمة عدم التشتت بعد وقت طويل، ليس عندما نريد نحن، بل عندما نتضع ويهبنا الله إياها.
لقد قال رب المجد "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" (مت 24:16) إذا طبقنا هذه الكلمات على الصلاة، نجدها تعنى: مَنْ يُريد أنْ يدرب نفسه على الصلاة، يجب أولًا أنْ ينكر نفسه ومشيئته الخاصة وأحكامه ويحمل صليبه، أيّ العمل الجسدي والروحي الضروري والحتمي لهذا التدريب، وعندما نسلم ذواتنا تمامًا للعناية الإلهية الساهرة دومًا، يجب أنْ نحتمل باتضاع وبسرور العمل لأجل الصلاح الحقيقي الذي يهبه الله في الوقت المناسب لإنسان الصلاة الحارة، عندما يضع الله بنعمته حدودًا لذهننا ويُثبّته بلا تشتت في تذكره لله وفي صلاته.
وفى رسالة للأم ماجدالين Magdalen من دير زنامنسكى Znamensky Eletsky وهي راهبة "استلمت الطقس الملائكي العظيم" يكتب ثيؤفان عن أعلى قامات الصلاة التي اختبرها هو بنفسه فيقول أنَّه في البداية عندما يتوب الإنسان ويتحول نحو الرب، تكون الصلاة أول تدريباته، ويبدأ يذهب إلى الكنيسة ويبدأ يصلى في مخدعه سواء بكتاب الصلوات (الأجبية) أو بدون كتاب، لكن طوال الوقت توجد أفكار تجول وتطوف في ذهنه وتشتته، ومن المستحيل أنْ يضبطها، لكن مع استمرار التدريب في الصلاة، تبدأ أفكاره تثبت وتصير صلاته أكثر نقاوة.
وفى رسالة أخرى يقول ثيؤفان أنَّ الإيمان المسيحي ليس مجرد نظام عقيدي، بل هو وسيلة وطريقة لاستعادة الإنسان الذي سقط، بموت الإله المتجسد وبنعمة الروح القدس "انظر أيّ من هؤلاء الذين تبعوا الرب وسترى أنَّه قليلًا قليلًا ينمو في الروح ويصير عظيمًا"، والأب سيرافيم (أيّ سيرافيم ساروفسكى) هو مثال لذلك، لقد كان بسيطًا غير متعلم، لكن مع ذلك إلى أيّ علو قد ارتقى؟!
وكان ثيؤفان يؤكد دومًا على أهمية الحياة الكنسية وعلى أنَّه لا خلاص لأحد خارج الكنيسة، فيقول:
"لا يمكن لأحد أنْ يخلص وحده، لأنَّ الرب قد صنع جسدًا واحدًا من المؤمنين جميعهم، فلا أحد يخلص إلاَّ في الكنيسة أيّ في الاتحاد الحي مع جماعة المؤمنين كلهم في الكنيسة، ومع الرب نفسه كرأس لها".
ويؤكد على وحدة الكنيسة فيقول أنَّ الرب قد دعَى الكنيسة "كرمة" وهو نفسه الساق، والمؤمنين كلهم هم الأغصان، فالكنيسة في جميع أعضائها هي كلٌ واحد لا ينقسم متحد بحياة الرب نفسه، وكما يذبل الغصن ويجف متى نُزع من الشجرة، كذلك فإنَّ كل مَنْ يفصل نفسه عن كنيسة الله، وبالتالي عن الرب، لا تعود له حياة، ويوضح القديس بولس هذا الاتحاد الحيوي الأساسي بين المؤمنين مع الرب خلال الكنيسة بأنْ يُسمِّى الكنيسة "جسد المسيح"، فنحن المؤمنون جميعًا جسد المسيح، والمسيح الرب هو رأس هذا الجسد،وكما هو الحال في أجسادنا، كذلك لا يعيش العضو لنفسه بل في حياة مشتركة مع الجسد كله، وما أنْ ينفصل عن الجسد حتى يموت ويفسد، والمؤمن لا يعيش في عزلة وانفصال بل في شركة مع حياة الكنيسة كلها، وإذا انفصل عنها يموت روحيًا وهكذا يهلك.
وفى اقتباس واضح بتعليم القديس كبريانوس أسقف قرطاچنة الشهيد، يقول ثيؤفان الحبيس:
" إنَّ الكنيسة هي أمنا، وهؤلاء الذين ليست الكنيسة أمًا لهم، لا يكون الله أبًا لهم".
ويُقدس ثيؤفان تقليد الكنيسة الأرثوذكسية المُسلم من الرسل والآباء القديسين، لذلك لا يَعتبر الطوائف البروتستانتية أعضاء في جسد المسيح، لأنَّ الذي أسس هذه الطوائف ليس الرسل بل أناس بإرادتهم الخاصة وبتدبير من وضعهم.
وعن التدبير السرائرى للكنيسة المقدسة، شرح ثيؤفان كيف أنَّ سرىْ التوبة والتناول يهبا للنفس نعمة التبرير والتقديس، وبحسب وصية الرب، يقدم جسده ودمه في كل مكان على الأرض على الدوام لأجل غفران الخطايا، لذلك، بحسب ثيؤفان، كىّ نشترك في مراحم الرب هذه، لابد أنْ يكون لنا شركة حية دائمة مع كنيسته بأنْ نعيش ونحيا هذه الأسرار.
كما أكد على أنَّ نوال نعمة الميلاد الثاني تتطلب أيضًا من المؤمن جهادًا وعملًا طويلًا يستمر طوال الحياة، وذلك أنْ يجاهد لينقى الروح والجسد ويحررهما تمامًا من كل ميل ردdx وكل شهوة، وأنْ ينمى الاشتياقات الصالحة في نفسه، وقد رتبت الكنيسة الأصوام وجعلتها قوانين للمؤمنين كىّ تُخضع الجسد وتُطفئ شهواته، وأعمال المحبة التي وضعتها، إنَّما لكي تزيل الحركات الشهوانية من النفس وتغرس بدلًا منها الأفكار والمشاعر الصالحة، كما رتبت الكنيسة الصلوات الطقسية المنظمة لكي تهذب النفس وتدخلها في اتحاد مع اللامنظور.
فكانت الكنيسة بالنسبة لثيؤفان تحتضن كل الإنسان طوال حياته، فما أنْ يُولد حتى تأخذه في أحضانها وتسافر معه طوال حياته، وترافقه في جهاده ثم تصحبه إلى العالم الآتي:
ويُشبّه ثيؤفان هؤلاء الذين يظنون أنَّ لهم خلاص خارج الكنيسة بالمثال التالي:
"تخيل نهرًا واسعًا وعميقًا، وهناك جسور مُقامة عليه، وتوجد وسائل أخرى لعبوره كالقوارب، وكل مَنْ يريد أنْ يعبر إلى الضفة الأخرى يسير على الجسر أو يجلس في القارب ويعبر، ولكن الآن جاء "أناس حكماء!!" ظنوا أنَّه لا الجسور ولا القوارب ضرورية لهم، وظنوا أنَّ روحًا سوف تأخذهم وتعبر بهم إلى الضفة الأخرى، فجلسوا بغرور على شاطئ النهر دون أنْ يتحركوا، بل ابتسموا وهم يشاهدون الآخرين يعبرون ودعوهم عديمي العقل.
تُرى هل سيعبر هؤلاء إلى الشاطئ الآخر؟ كلا بالطبع، بل سيظلون في موضعهم طوال حياتهم". [القوارب والجسور هي أنواع الجهاد القانونية والتي تصل بالإنسان إلى ميناء ملكوت السموات، ومَنْ يرفضون الجهاد القانوني هذا، لا يكون لهم أبدًا بلوغ إلى ملكوت السموات].