معنى الصوم
ومن المعاني الأساسية للصوم في روحانيتنا الأرثوذكسية، إننا في حالة تحضير وتوقع يتأسس على ما سيأتي بالانفتاح للفرح الآتي، لذا نجد في التقليد الطقسي للكنيسة هذا الصوم الكلى في التهيئة الأخيرة لعيد الأعياد، والذي نجده قبل كل شيء في الصوم الإفخارستي وهي الطريقة الأساسية لتهيئتنا للعشاء على مائدة المسيح في ملكوته.
إن الغاية من الصوم هي تحرير الإنسان من عبودية الجسد، من الاستسلام للشهوة التي هي النتيجة المأسوية لخطية الإنسان الأصلية، ولا هدف للكنيسة إلا أن تجعل حياة الإنسان في شركة ع الله، شركة مع الثالوث القدوس.
وكما أن الطعام في هذا العالم يحقق غايته فقط عندما يهضم ويتحول إلى حياة كذلك حياة العالم الذي سيأتي تعطى لنا بواسطة وسائط النعمة حيث الكنيسة التي لا خلاص لأحد خارجها.
انه من الضروري استعادة الوجه الحقيقي للصوم وروحانيته، وهذا لا يتم إلا بفهم أصيل للطقس الصيامي وللعبادة بكل ما تحتويه من قراءات ومردات وقطع والحان، ويشبه الآباء عادة الصوم كرحلة الأربعين سنة التي قضاها الشعب المختار في الصحراء، لتكون الغاية النهائية من الصوم هي الفصح (أرض الموعد)، أي ملكوت الله بالقيامة.
: كلمة آية "قَدِّسُوا صَوْمًا"(سفر يوئيل 1: 14؛ 2: 15)
ومن الضروري أن نجعل هذه الحياة بجملتها تذوقا مسبقا وتهيئة للملكوت، وان نجعل من إعمالنا علامة وتثبيتا ورجاء بالعالم الذي "سيأتي".. ملكوت الله الذي هو فيما بيننا والذي أيضًا سيأتي، هذا الملكوت الذي نترجاه ونقول:
(ليأت ملكوتك يا ربي وروحك القدوس
يملأ قلبي، هذا رجائي وطلبي، يا أبانا الذي في السموات)
وان كان صومنا في هذه الأيام، لم يعد تهيئة للموعوظين من أجل المعمودية، ولكن بالرغم من أننا معمدون وممسوحون أمازلنا موعوظين؟ أما زلنا نعود إلى هذه الحالة كل سنة؟ ألا نبتعد عن السلوك بحسب الدعوة التي دعينا إليها؟ ألا نحتاج في غربتنا إلى هذه العودة السنوية إلى جذور إيماننا ولنذر معموديتنا بالتوبة التي هي معمودية ثانية، والى المعنى الحقيقي للحياة المسيحية وصليبها لنتمتع بملكوت الله داخلنا.
ويرى القديس كيرلس الكبير "أولئك الذين استناروا بحكمة المسيح طوعا لا كرها بالعمل والتقشف، فأنهم بهذا ينالون غفران ذنوبهم ونوال النعمة وقتل ناموس الخطية القاتلة للنفس والجسد".
لذلك ينبغي أن نعي وندرك ماهية الصوم بفهم جديد يليق بالعهد الجديد لأنه "ليس احد يخيط رقعة من قطيعة جديدة على ثوب عتيق" (مز 2: 21)، "وليس أحد يجعل خمرًا جديدًا في زقاق عتيقة". ومن ثم نقول انه لن يكون لصومنا معنى إلا بممارسة التوبة بكل أعمالها في القلب داخليا في ندامة ومطانيات وصراخ انه الثوب الجديد والزقاق الجديد، وممارسة العبادة بفكر وذهن جديد، وبالجملة يقودنا الصوم إلى تحرير النفس وإنعاش القلب في الداخل بالتحلي بكل الفضائل السليمة والسجايا العالية، مميزين بين الأعمال العتيقة والجديدة محتفظين بالثوب الجديد الذي ألبسه إيانا الرب في المعمودية.
ونحن في الصوم نطل على الحياة الأبدية بجسد مائت عن كل شهوات العالم الحاضر، نجوع ونعطش صائمين عن كل شهوات الجسد وأهواء النفس وعيوننا شاخصة نحو الملكوت في انتظار البر الأبدي، لنشبع من دسم الخيرات غير المنظورة التي للحياة الأبدية، علينا أن نصوم لان العريس قد رفع، نجوع ونعطش إليه، وهذا هو مفهوم الصوم "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24)،لان محبة الله تحصرهم، إذن علينا أن نهتم بما فوق لا بما على الأرض، ونطلب أولًا ملكوت الله وبره، فالصوم عمل من أعمال الخليقة الجديدة في الإنسان الذي تغير عن شكله بتجديد ذهنه، مختبرًا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة كدرع واق، وإذ نصير هكذا مجهزين، عندما يقترب منا الشيطان ننتصر عليه، فنربح كل شيء.
ويوصينا القديس ديديموس الضرير المبصر "كما هو مفيد أننا نتعفف عن أكل لحوم الحيوانات، التي هو التعاليم الفاسدة، والعقائد الخاطئة، كذلك من المفيد والمفضل أن نرفضه ونهرب من "جفنة سدوم" (تث 32: 32)، وكذا أيضًا الخمر المُسْتَخْرَج فيها، فإذ نكمل الصوم بهذه الطريقة يجب أن نستمر فيه بروح النوح (أي قرع الصدر) الممتزج بالتنهدات، فالصوم مرتبطا ارتباطًا صميمًا بالصليب والقيامة والصعود، وكأنه طريق صاعد إلى فوق نحو السماء فإذا علمنا ان المسيح هو الطريق، تمكنّا أن ندرك كيف مهد بحياته الطريق إلى الملكوت بالإقتداء به.
لذلك يعتبر الصوم فعل توبة ورجوع، وفعل محبة بالدرجة الأولى وجزء لا يتجزأ من اختبار الصليب ومدخلا لطريق الحياة "لان من يهلك نفسه من أجلى فهذا يخلصها" (لو 9: 12)، وعندما نشترك سريا في الجسد والدم في القداس الإلهي، بل ونشترك في حياة سرية مبذولة وجسد تدرب بالصوم والنسك على الآلام، ومن له أذنان للسمع فليسمع!!
وهذه هي بعينها العقيدة الأرثوذكسية التي تسلمتها الكنيسة من جهة الجهاد والانسكاب والحرارة والرجولة الروحية والإيمان العامل "لان الله هو العامل فيكم وان تريدوا ان تعلموا" (فى 2: 13).
والمسيح إلهنا الذي احتمل الجوع والصوم، لكي يكون لنا بداءة خلاصنا ونموذجا لحياة لا عيب فيها، يجعل صومنا أيضًا بداءة احتفالاتنا المقدسة، لكي نعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (1كو 5: 8)، وان حفظنا نفوسنا أطهارًا وأنقياء ملازمين بثبات أسلوب حياة ترضى الله، فإننا مثل العبيد الأمناء سوف نسمع في الوقت المناسب هذه الكلمات:
"نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير" (مت 25: 23).
لان الذين يترجون الله لن تضيع ثمار صومهم، ولن يسمعوا قط تلك الكلمات المخيفة التي قيلت لليهود "أمثل هذا يكون صوما اختاره يقول الرب".
لأنه هكذا يشكوهم عن حق في كلمات إشعياء النبي "تصومون وبصومكم تضربون المسكين، فما هو صومكم لي؟" (اش 58: 4).
والمجد والإكرام للذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة بسر لا ينطق به، رئيس الكهنة الأعظم إلى الأبد، أبانا الذي في السموات نعترف له بالقيثارة في كنيستنا التي أسسها ليمنحنا سلامه الذي يفوق كل عقل، ولا يطرحنا على يساره مع الجداء الخطاة، اطرد الشيطان عنا لنكمل بسلام لأنه ليس لنا سواك واجعلنا مستحقين نعمتك أيها المخلص في هذه الأيام، ونحن بلا خطية مع صوم نقى واجعل أبواب الكنائس مفتوحة لنا وكملنا في الإيمان المستقيم، واحفظ لنا وعلينا حياة حبيبنا البابا شنودة الثالث لأنك تسمع الصلاة ويأتي إليك كل بشر.