الصوم ومعالم الطريق للملكوت
وروحانية الصوم والنسك الجسدي في صوره المتعددة، هي احد الركائز الضرورية اللازمة لتبعية المسيح، وبالصوم نقدم أجسادنا ذبيحة مقدسة مرضية عند الله (رو 12: 1)، وبه نبلغ مجد التجلي المعد للأبرار، فيمتلئ كياننا بالروح القدس، والجسد الحيواني الذي يزرع في الأرض، يبذل وينفق ويهلك في شكله الخارجي لكي يقوم كيانا روحيا، وصومنا هذا يضرم فينا الموهبة الإلهية لتأتى بثمر أكثر فيجعلنا نحيا ونشهد بكل كياننا جسدًا وروحًا عن سر الموت والقيامة الذي يعمل فينا، ونخلع عنا جزئيا طبيعتنا الحيوانية، فنأخذ عربون الثياب النيرة التي أعدت لنا، وكل صور التعفف والنسك والأصوام تجعل لباس أرواحنا التي هي أعضاء جسدنا تنال قوة الطهارة والضياء السماوي كمثال للقيامة من الأموات.
وقد كتب العظيم الأنبا أنطونيوس مشيرًا أن النسك والصوم يؤهل كل الجسد للتغيير ويخضعه لسلطان الروح القدس، ويجعله ينال نصيبا من الجسد الروحي المزمع ان يكون عليه في قيامة الأبرار(1).
وتبعا للتقليد الإنجيلي نجد أن أساس النسك هو الصوم (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) {مت 4: 4}، فنشهد في صمونا على غلبة العالم وان الروح القدس الذي فينا قد روض الجسد وبدل طبيعته الحيوانية البهيمية إلى طبيعة ملائكية سمائية نورانية فعالة، والصوم أيضًا يروض أجسادنا ويحول شهيتنا من الأطعمة الجسدية إلى جوع حقيقي للشبع الإلهي والصوم فعل إرادي نشارك فيه بمحض إرادتنا وحريتنا في هذا التحول الروحي الذي لن يكتمل إلا في المجيء الثاني "باروسيا". أنه لقاء الشبع الروحي، لقاء رفضنا للأطعمة الأرضية لكي نؤهل إلى شركة الثالوث القدوس المحيى، فنكون مدعوين خلال فترة الصوم إلى الجهاد الروحي القانوني بالتوبة "الميكانيا"، وأيضا نكون مدعوين إلى الشبع بكلمة الله "كريجما" التي لنا فيها حياة أبدية باعتبار أنها رسالة الله لخليقته وأنها أيقونة الله،ويربط الآباء بين الصوم والصلاة برباط محكم سواء الصلوات الفردية أو الصلوات الجماعية "ليتروجيا" حتى يكون صومنا ثابتا، قربانا مبذولًا من جهتنا نقدمه بكل كياننا روحا وجيدا، فيصير صومنا ذبيحة وشهادة "مارتيريا" لمحبتنا للذي صام عنا ومن أجلنا، ولما كانت محبتنا عرضة لان تصبح مجرد أفكار نظرية وأحاسيس عاطفية غير حقيقية أو واقعية، لزم في أصوامنا أن تقترن بأعمال الرحمة والمحبة والبذل والانسكاب وخدمة الأعضاء الجروحة "الدياكونيا"، والصوم المقبول أيضًا لا يتم إلا من خلال حياة الشركة "الكينونيا" κοινωνία شركة الثالوث الممجد، شركة القديسين ومعية السمائيين، وشركة المؤمنين في "الأسرار - التعليم - الأغابي"..
والصوم أيضا حالة تجلى، وقد اختار السيد المسيح معه في التجلي اثنين من الصوامين موسى وإيليا، ليرينا أن كبيعتنا ستتجلى في الأبدية بفعل الصوم، لأن السيد المسيح صام (مت 4: 2)، وموسى النبي صام (حز 4: 2)، وإيليا النبي صام (أمل 19: 8)، من أجل ذلك تجلت طبيعتهم النورانية، ونحن بصومنا ننال جزء من هذا الجسد النوراني الممجد ونتذوق جسد القيامة، فنعود للحياة الفردوسية.
والصوم أيضا عمل من أعمال الخليقة الجديدة في الإنسان الذي تقبل تجديد الروح وتغير عن شكله كما يقول القديس كيرلس عمود الدين "إن الذين لم يتقبلوا بعد تجديد الروح، لا يستطيعوا أيضًا أن يختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" أي أنهم عبثا يصومون ويصلون فتكون عبادتهم "ذاتية استعراضية" أنها رقعة جديدة في ثوب عتيق وخمر جديدة في زقاق عتيقة.
_____