محبة حتى الموت
ما أعجب أن تسند رأسك على الصليب وتسلم روحك ساكبا إياها بنفسك في يد الآب لأنه ليس أحد يأخذها منك بل أنت تضعها بسلطانك. وما أعجب أن يقال أنك سلمت الروح بدلا من أن يقال أنك مت، لتضع لنا بداية وأساس الرجاء الثابت. فنحن نؤمن أن نفوس القديسين عندما تفارق أجسادها الترابية وأساس الرجاء الثابت. فنحن نؤمن أن نفوس القديسين عندما تفارق أجسادها الترابية تسلم في يدى الآب المحب، ولا تكون مثل نفوس الأشرار التي تسلم إلى عذاب لا نهاية له أي الجحيم.
ما أعجب أن يأتى يوسف الرامى ذلك الرجل البار الصالح والمثير الشريف الذي ينتظر أن يقدم على هذا العمل العظيم والجرئ عندما تخلى الكل عن المصلوب، فتقدم بشجاعة يطلب الجسد المقدس ونال هذه الكرامة العظيمة. وما أعجب أن حجر الزاوية المختار الكريم يرقد قليلا خلف حجارة القبر بينما هو صخرة الخلاص الكلية. وما أعجب أن تدفن في بستان يا رب لأن ذلك خلاص لآدم الذي مات موت الخطية في بستان، فندفنك أيها السيد في بستان مثيله كان لتزيل تبعة الجناية عنا ولتردنا إليك ثانية.
ما أعجب أن تضع ذاتك وتأخذها بسلطانك وبحسب الوصية التي قبلتها من أبيك، حتى أنك قلت "قد أكمل" ونكست الرأس وأسلمت الروح لكي بدم عهدك تطلق الأسرى الذين في الجب، وترجع إلى الحصن أسرى الرجاء (زك 9: 11) وتضم الذين سباهم الشيطان وتصعد فوق جميع السموات لكي تملأ الكل ولكي تشفى لعنة الأرض.
ما أعجب إنشقاق حجاب الهيكل إلى إثنين من فوق غلى أسفل، فقد حدث هذا ليكون لنا ثقة في الدخول إلى الأقداس بدمك بعد أن كرست لنا طريقا حيا بالحجاب أي جسدك (عب 10: 19). إنه إنفتاح قدس الأقداس. فبموتك انفتح باب السموات للمرة الأولى لكي بدالتك ندخل قدس الأقداس الإلهية خلال إتحادنا بك، بعد أن فارقت نعمة الله الهيكل القديم لتفتح لنا باب الهيكل الجديد.
ما أعجب أن تسلم روحك لله أبيك لكي بهذا تحسن إلينا، لأن نفوس الناس في القديم كانت ترسل إلى المواضع السفلية المظلمة لمى تملأ سراديب الموت، لكن منذ أن سلمت الروح فقد افتتحت لنا هذا الطريق الجديد، فإننا لن نمضى إلى الجحيم بل بالحرى سنتبعك في هذا ايضا، بعد أن نكون قد استودعنا نفوسنا للخالق الأمين (1 بط 4: 19) في رجاء الخيرات العتيدة وأنت ستقيمنا جميعا.
ما أعجب أن موتك كان سريعا (مر 15: 45) إذ أنك سلمت الروح عندما وجدت أن كل شيء قد أكمل، لأن روحك لم تنزع منك بل أنت الذي تنفستها خارجا. لقد لفظت النفس الأخير وسلمت الروح لتكمل عقوبة الموت بالجيد معنا وعنا كفارة عن خطايانا.
ما أعجب أن ترفع وتبيد في الحال حكم الموت، لأنك أعلى من الجميع: كلمة الله، فإذا قد صرت إنسانا حققت إبادة الموت وقيامة الحياة. وما أعجب موتك لأجل الجميع ليعيش الجميع، إذ أنك العظيم الأبدى الذي خلق الإنسان على غير فساد، وبموتك أعطيتنا الخلود لأنك صورة الآب، وجئت إلى عالمنا لتجدد الإنسان المصنوع على صورته، كواحد قد ضل، وبك وحدك نقضت كل أعمال إبليس (1يو 3: 8).
ما أعجب أن تموت بسرعة تعجب لها بيلاطس، وما أعجب أن يأتى يوسف عضو السنهدرين والذي كان تلميذا لك، والذي لم يكن راضيا عن إدانتك وصلبك، وقد نال تصريحا ليقوم بواجب دفنك ومعه نيقوديموس، وقد أحضروا معهم الكتان ومزيج من المر والعود ليكفنوك كعادة اليهود.
ما أعجب أن يحملك يوسف الرامى ونيقوديموس بينما أنت الذي تحمل المسكونة كلها على مفك، وما أعجب نزولك من على خشبة الصليب بينما أنت الذي تعلق الأرض كلها على لا شيء، وما أعجب أن يحملوك بينما أنت الذي تحمل الكل فيك وتجمع الخليقة كلها في شخصك. وما أعجب أن يأتوا إليك بالطيب والحنوط بينما أنت منبع كل الأطياب والعطور والذي تجعل البحر كقدر عطارة.
ما أعجب ما صنعته في نفوس اللص اليمين وقائد المئة وبيلاطس وكذلك نفوس يوسف ونيقوديموس اللذين ذهبا ليطلبا جسدك ولم يخافا من بطش بيلاطس وإنتقام اليهود. وما أعجب ما صنعاه: حملا الجسد وذهبا إلى البستان حيث القبر الذي نقره يوسف. ويالكرامة هذين الشيخين اللذين لمست أيديهما جسدك المصلوب ومسحت دمك المسفوك بإكرام جزيل وسخاء وحب شديد.
ما أعجب نزولك من على الصليب وانتزاع المسامير والأشواك المغروسة في جسدك بواسطة يوسف الرامى ونيقوديموس اللذين مسحا دمك الذكى الكريم وكفناك وطيبا جسدك بالعطور والأطياب.
ما أعجب نزولك من على الصليب، إذ عندما رأى قائد المئة ما كان معك، مجد الله وشهد بالحقيقة أنك بار وأنك ابن الله، فبينما شاهد من قبل كثير من المصلوبين يموتون، كان موتك فريدا يهز أعماق القلوب، خاصة وأنك ناديت بصوت عظيم "يا أبتاه في يديك استودع روحي" وأن جموع الذين كانوا مجتمعين رجعوا بعد صلبك وهم يقرعون صدورهم،ما أعجب انتحاب الطبيعة وإنشقاق حجاب الهيكل وقت نزولك من على الصليب. فعظيم هو سلطانك أيها المصلوب. (الشمس أظلمت والأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت وحجاب الهيكل إنشق).
ما أعجب انزال جسدك من على الصليب في اليوم السادس ووقت الغروب، لأنه يوم الاستعداد ولأنك صنعت الخليقة في ستة أيام وفي اليوم السابع استرحت. ما أعجب أنك لم تسمح بأن يكفنك تلاميذك حتى لا يقوم الاتهام بأنهم سرقوك دون دفنك، بل كفنك رجل شريف وبار، وقد تأكد الكل من دفنك عندما ختم القبر.
وما أعجب ما قاله قائد المئة "حقا كان هذا ابن الله". فلقد ارتفعت يا رب لتجتذب إليك الجميع، لتجتذب هذا القائد وكثيرين ممن كانوا معه ولتجتذب اللص ديماس.
ما أعجب الظلمة التي سادت على وجه الأرض في وقت صلبك. وما أعجب إنقباض الدرارى فلا نهار ولا ليل، نعم إنتحبت الطبيعة ذاتها لموت رب الطبيعة، إلا أن الساعات الثلاث التي سادت فيها الظلمة تحولت إلى نور يكتسح إلى الأبد، وصارت نصرة لسلطان النور. وما أعجب عتابك للكهنة والجند والشيوخ الذين مدوا عليك الأيادى في ساعة الظلمة بينما كانوا يلتقون معك في الهيكل كل يوم ليتمتعوا بأشعة برك وإشراقات محبتك والحكمة التي كانت تخرج من فمك.
ما أعجب رأسك التة نكستها إذ أنه لم يكن لك أبدا أين تسند رأسك، وأخيرا سندتها على الصليب، كمن يستسلم للنوم، ثم اسلمت الروح، لأن روحك لم تؤخذ منك كأى بشر، بل أنت تسكبها بنفسك وبإرادتك، تسمبها في يد الآب، كمن يستودع وديعة. وما أعجب قبرك الذي دفنت فيه الفساد والظلمة، وتركته منيرا فارغا تفوح منه رائحة أطياب وعطور الحياة.