العذراء مريم كمثال للعذارى
بعد أن أوضح القديس أمبروسيوس في الكِتاب الأوَّل عِظَم موهِبة البتولية، وضع كِتابه الثَّاني ليشرح فيه كيف تسلُك العذارى، ولم يُقدِّم في كِتابه هذا تعاليم مُباشرة -كما قال هو نفسه ذلك- بل قدَّم أمثلة عديدة ”لأنَّ الأمثِلة تُحقِّق تقدُمًا أفضل خاصَّة عندما نرى سهولة الأمور التي تمت، وحتّى تتوقَّد غِيرتنا فنسلُك سُلُوك السابقين“.
المِثال الأوَّل: العذراء مريم
يدعو القديس أمبروسيوس العذارى لأن يتخِذنَ من حياة العذراء مريم مِثالًا لهُنْ، لأنَّ من حياة العذراء القديسة تنعكِس صورة العِفة وسِمات الفضيلة كما من مرآة، وليس هناك مثال أعظم منها، لأنه ”مَنْ أعظم من أُم الله؟ مَنْ أمجد أو أبهى من هذه التي اختارها المجد ذاته؟“.
ويأخُذ في ذِكْر فضائِل القديسة البتول، وهو إنما يفعل ذلك لكي يحِث العذارى على السير في خُطاها والإقتداء بها في كلّ فضيلة، لقد كانت عذراء لا في الجسد فقط بل وفي الفِكْر الذي لم يتدنس قط، كانت وديعة القلب، وقورة الحديث، حكيمة التفكير، قليلة الكلام، دَؤوبة القِراءة، ويمضي أمبروسيوس قُدُمًا في تِعداد فضائِل أُم الله البتول التي تتعلَّم منها العذارى أن لا يضعنَ رجاءِهِنْ في الغِنَى الباطِل ولا في الأغنياء بل في صلوات المساكين والفُقراء، وأن يكُنَّ أمينات في العمل مُتضِعات في الحديث، تطلُبنَ الله في حياتِهِنْ ليحكُم ويضبُط كلّ أفكارِهِنْ، لا يُؤذِينَ أحدًا، يُظهِرنَ مشيئة الخير نحو الجميع، يُوقِّرنَ كِبار السِنْ... لا يحسدنَ قَرِيبَتَهِنْ، يتجنبنَ المديح، يسلُكنَ بحكمة، لا يحتقرنَ البُسطاء ولا يُهمِلنَ المُعوزين، عِيونِهِنْ تتسِمْ بالهدوء، وكلماتِهِنْ بالرِّقة وأفعالِهِنْ بالاعتدال وسُكناتَهِنْ بالحِكمة، خطواتِهِنْ محسوبة وأصواتِهِنْ تبعث على السكينة... على مِثال العذراء مريم التي كانت كلّ هذه الفضائِل موجودة ومرئية فيها... فقد كانت البتول مريم ناسِكة قليلة الأكل، كثيرة الخَدَمات، تقضي مُعظم أيامها صائِمة، وإن نامت استيقظت نفسها واستيقظ قلبها يتأمَّل فيما قرأته...
ويحِث القديس أمبروسيوس العذارى على الحِشمة والاتضاع مُقتديات بأُم الله التي تحدَّث الكِتاب المُقدس عن حِشمتها واتضاعها نحو جيرانها، ويَحِثَهُنْ أيضًا على أعمال الرحمة والمحبة كما فعلت العذراء مع أليصابات عندما مكثت عندها ثلاثة شهور تخدمها.
ويُؤكِد على أنَّ الحِشمة كانت فضيلة العذراء مريم، لأنَّ ”الحِشمة والبتولية لا تنفَصِلان أبدًا“.
”هذا هو مِثال البتولية، والعذراء مريم وحدها درس للجميع ولِنَتَعَلَّم من حياتها لِمنفعتنا، فكم عدد الفضائِل التي تتألَّق في عذراء واحدة: سِرْ الحِشمة والاتضاع، راية الإيمان، خدمة التكريس والنذر... عذراء في البيت، رفيقة في الخدمة، أُم في الهيكل“.
ثم يتساءَل أمبروسيوس: ”كم عذراء ستُقابِل القديسة مريم التي ستُعانِقِهِنْ وتأتي بهِنْ إلى الرب؟“، ويتخيل القديس المشهد ويرى العذراء تُعانِقِهِنْ قائلةً: ”هذه كانت أمينة لعريسها، لابني، لقد حفظت خُدرها العُرسي بحشمة لا تتدنَّس“.
ويرى جُموع الملائكة الفرحة المُتهلِلة بالنَّفْس التي وُجِدت مُستحِقة أن تسكُن في السماء لأنها عاشت على الأرض حياة سمائية.
ولا يتردَّد القديس في أن يدعو العذارى هياكِل الله لأنَّ نِفُوسِهِنْ هي فعلًا هياكِل لله ومذابِح له يُقدَّم عليها المسيح كلّ يوم، فالعذراء تخلع عنها الجسد التُّرابي وتلبِس آخر روحانيًا صنعته يد الكاهِن الأبدي.