البتولية والقديس اغريغوريوس النيصي
ON VIRGINITY
شَرَحْ القديس إغريغوريوس النيصي في كِتابه ”عن البتولية“ أنَّ مدح البتولية يُسمع في الحال في نفس الكلِمة التي تُرافِقها دومًا وهي كلِمة تو أفثورون ”عديم الفساد To αφθορον“ فهذه هي الكلِمة التي تُطلق عليها دومًا، وهذا يُوضِح نقاوتها وطهارتها، ومن بين سائِر ثِمار الجِهاد في طريق الفضيلة، كُرِّمت بأن أُعطِيت لقب عدم الفساد، وإذا أردنا أن نمدح هذه العطية العظيمة التي من الله لكانت كلِمات الرَّسول بولس كافية في مدحها، فمع أنها قليلة إلاَّ أنها تُغني عن كلّ مديح، فهو يقول عن تلك التي تتزيَّن بهذه العطية ”مُقدسةً وبلا عيبٍ“ (أف 5: 27)، وإذا كان تحقيق ونوال هذه الفضيلة العظيمة يكمُنْ في أن يصير الإنسان ”مُقدس وبلا عيب“ وهذه الكلِمات عينها تُستخدم في كامِل معناها لتمجيد الإله الغير قابِل للفساد، فأي مدح أعظم للبتولية من هذا، إذ هكذا يظهر أنها تُمجِّد هؤلاء الذين يشتركون في أسرارها النقية، وبذا يصيرون شُركاء في مجد ذاكَ الذي هو بالحقيقة الوحيد القدوس، والوحيد الذي بلا عيب.
وفَهَمْ هذه النِعمة الفائِقة والمجد العظيم الذي لها يحتاج إلى تفكير عميق، وهي تُفهم في فكرة الآب عديم الفساد، وهنا نجد أمرًا عجيبًا، أي أنَّ البتولية توجد في الآب مع أنَّ له ابنًا، وتوجد البتولية أيضًا في طبيعة هذا الابن الوحيد، وكذا تُشرِق من ميلاده النقي الذي بلا شهوة، فالابن أُعلِنَ لنا عن طريق البتولية، وتُرَى البتولية أيضًا في النقاوة العديمة الفساد التي للروح القدس، لأنَّكَ عندما تذكُر اسم النقاوة وعدم الفساد فقد ذكرت اسم البتولية.
ويرى أسقف نيصُص أنَّ ربنا يسوع المسيح لم يأتِ إلى العالم عن طريق الزواج لكي يُعلِنْ لنا بتجسُّده هذا السِر العظيم، فالطهارة هي الدليل والإشارة الوحيدة الكامِلة على حضور الله ولا يستطيع أحد أن ينال هذا إلاَّ بترك وجحد شهوات الجسد، وما حدث داخِل القديس الطاهرة مريم عندما تجسَّد منها السيِّد المسيح يحدُث داخل كلّ نفس تحيا حياة البتولية، ولكن سيِّدنا لا يأتي بعد بحضور جسدي ”وإن كُنَّا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرِفهُ بعدُ“ ( 2كو 5: 16) بل روحيًا، يسكُن فينا ويُحضِر أباه معه كما يُعلِّم الإنجيل (يو 14: 23).
والبتولية بتعريف القديس غريغوريوس هي رباط وحدة بين الإلهي والبشري، إذ بينما هي في السماء مع أبي الأرواح، تمد يديها من أجل خلاص الإنسان، وبينما هي الطريق الذي نزل منه الله لكي يُشارِك الإنسان في بشريته، تُعطي أيضًا أجنحة للإنسان لكي يرتفِع للأشياء السمائية.
سُعداء هم الذين لهم قُوَّة لاختيار هذا الطريق الأفضل، والذينَ لم يحرِموا أنفسهم منه بالانشغال بأمور العالم، فلا يستطيع أحد أن يتسلَّق إلى عُلُو البتولية إن كان قد سبق له أن وضع قدمه في حياة العالم.
الإنسان البتول هو الذي يُطهِّر نفسه ويرتفِع عن كلّ خطايا العالم مثل الحقد والحسد والضغينة إلخ، وليس لديه أي شيء يُثير حسد قريبه، بل هو يحيا في حُرية وسلام تام، فلقد ترك العالم واختار الفضيلة كملكِيته الوحيدة الثمينة، لأنَّ الفضيلة -رغم أنَّ الجميع يشترِكون فيها- تكون بفيض ووفرة لِمَنْ يعطش إليها.
البتولية هي الرفيق في الجِهاد والمُساعِد على تحقيق الحياة السمائية الملائِكية، فكما أنه في العلوم الأخرى ابتكر الإنسان وسائِل عملية من أجل تحقيق أهداف مُعيَّنة، كذلك البتولية هي الوسيلة العملية في عِلْم الحياة الإلهية، إذ أنها تسمو بالروح فوق العالم وتجعلها تتطلَّع إلى الأمور الإلهية والجمال الغير مخلوق.
ويرى إغريغوريوس أنَّ البتولية هي سِرْ عَظَمِة إيليا النبي وأيضًا ذاكَ الذي ظهر فيما بعد في روح إيليا والذي لم يكُنْ بين مواليد النِساء مَنْ هم أعظم منه، فكلاهُما منذ شبابه المُبكِر اعتزل العالم، وبطريقةٍ ما اعتزل أيضًا الحياة والطبيعة البشرية، وذلك بتركه للأنواع المُعتادة من الشَرَاب والطعام، وبِسُكناه في البِّريَّة، فكان لسانهُما بسيطين وكذلك آذانِهِما كانت مُتحرِّرة من أي ضجيج مُشتِتْ، وعيونهما من أي منظر مُشتِتْ وهكذا نالا هدوء وسكينة النَّفْس، وارتفعا إلى العُلُو الإلهي الذي سجلته الكُتُب المُقدسة عنهُما، فإيليا صار مُوزِعًا لعطايا الله، وصار له سُلطان أن يُغلِق السماء عندما يُريد فلا تُمطِر على الخُطاة، وأن يفتحها من أجل الأبرار المُجاهدين، ويوحنَّا الصَّابِغ لم يُقال عنه أنه صنع أي مُعجزة، ولكن رب المجد الذي يعرِف كلّ الأسرار قال أنَّ العطية التي فيه أعظم من عطية أي نبي، كلّ هذا لأنَّ الاثنين كرَّسا قلبيهِما للرب منذ البداية حتّى النِهاية، فتحرَّرا من كلّ شهوة أرضية بشرية ومن محبة الزوجة والأطفال، بل حتّى لم يعتبِرا قُوتهُما اليومي مُستحِقًا القلق والتفكير فيه، ويعتقِد القديس إغريغوريوس أنهما ما كانا لِيَصِلا إلى ارتفاع الروح هذا لو كانا قد تزوجا، وهذا ليس مُجرَّد تاريخ بل ”كُتِبَ لأجل تعليمنا“ (رو 15: 4) لكي نقتدي ونتمثَّل بهما، فماذا إذًا نتعلَّم من هذا؟ نتعلَّم أنَّ الإنسان الذي يشتاق إلى الإتحاد بالله، عليه مثل هؤلاء القديسين أن ينزع عقله من كلّ انشغال عالمي.
ويشرح أسقف نيصُص الكبَّادوكي أنَّ الإنسان خُلِق على صورة الله ومِثاله بيد أنَّ هذه الصورة والشَبَه تشوهت بالخطية لكنها لم تُمحَ، فبإمكاننا وبإرادتنا نستطيع أن نستعيد هذه الصورة التي تلوثت بأدناس الخطية، وذلك بأن نترُك الأسباب التي حرمتنا من الفِردوس، ونحيا كما كان آدم يحيا فيه، يتأمَّل في جمال الله وعمله ويجد كلّ مسرَّته وفرحه مع الله، وكانت حواء تحيا معه في مسرَّة الله، ولم يعرِفها، وبذا يلمَّح القديس إلى أننا بعيشِنا البتولية، كما كانت في الفِردوس، نستعيد صورة وشبه الله.