هل يُجبر الإنسان على الارتداد عن الوصية؟
إنّ نوالنا الخلاص إنما يكون بأعمال اقتدائنا بالمسيح، فالمسيحي الذي يضل طريقه في متاهة طرقات متشابكة لا يقتفي أثر المسيح مخلصنا الذي نجنا بأفعاله الخلاصية التي صنعها من أجلنا، وأعطانا أن ننال هذا الخلاص باقتفاء آثار أقدامه.
فسيمون الساحر فقد نعمة الخلاص لأن قلبه لم يكن مستقيمًا أمام الله (أع 13:8)، لذلك فإن آباء الكنيسة حينما يتكلمون عن نعمة المعمودية يتكلمون عن قوتها للخلاص، ولا يقصدون مجرد أداء طقس المعمودية بل هم يقصدون بالحري بركات سر المعمودية المصحوب بالإيمان الحي، ذلك الإيمان لا يبقى ساكنًا بل يتحقق ويظهر يومًا فيوم من خلال الجهاد الروحي والعبادة وشركة القديسين والتوبة المتجددة والتطبيق الدقيق لوصايا الإنجيل.
وهكذا فإن الإنسان المسيحي وهو يجاهد ليحصل على الملكوت إنما يمارس خلاصه في حياته اليومية ويعيش شاهدًا لقوة هذا الخلاص، بعد نوال الروح القدس الذي هو عربون ميراثنا والمتعهد بتكميل خلاصنا.
لقد تكلم المسيح في أحد أمثاله عن "الأقوى" الذي استطاع أن يوثق "القوي" ويدخل بيته وينهب أمتعته (لو 21:11) ذلك الأقوى هو المسيح مخلصنا وحدة الذي يغلب إبليس وينتزع الفريسة البريئة من تحت قبضته وسلطانه.
لكن ينبغي أن يقبل الإنسان المسيحي عمل النعمة وأن يتجاوب مع الإيمان، وقد يكون عمل الإيمان من جانب البشر صغيرًا جدًا ليس أكبر من حبة الخردل، لكنه دور الإنسان باعتباره حر الإرادة لا مسلوب الإرادة لأنّ الصلاح لا يمكن أن يُفرَض بالقوة على الإنسان.
لذلك لا بد أن تظهر ثمار الخلاص في حياة الإنسان المسيحي، في أن يعيش خلاص المسيح بالإيمان ويحرسه بالأعمال والاجتهاد "كونوا راسخين" لأن رسوخ الإيمان يعني سلوكًا يُرضِي الله الذي دعانا إلى ملكوته ومجده (1تس 12:2) حاسبين أنفسنا أمواتًا عن الخطية لكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا (رو 1:6).
عجيبة هي دعوة الحياة المسيحية التي تحاصرنا حتى في ضعفنا وفتورنا وتقلبات الفكر والجسد، إذ أن المسيح بنفسه تكفل أن يسدّ ضعفنا "الذي سيثبتكم أيضًا إلى النهاية بلا لوم..."أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا" (1كو 8:1).
أما النفس المغلوبة من إبليس فيسهل ارتدادها عن الإيمان (عب 3:2) لذلك يُحذِّر القديس بولس "انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي" (عب 2:31).
ويُشبِّه القديس باخوميوس الإنسان المسيحي الذي تصيبه الغفلة عن خلاص نفسه ويستسلم للإفراد في أعمال الجسد والاستهتار بالنعمة، بشمشون الذي أصابه الغرور واستسلم لامرأة غريبة حلقت رأسه ففارقه روح الله في الحال، وبالتالي ضعفت قوته فأتى الغرباء وربطوه وذهبوا به إلى موضع الطحن حيث أصبح أضحوكة وألعوبة، ثم قلعوا عينيه وصيروه أعمى.
وكل من يتهاون بخلاص نفسه ويهادن الخطية ويكون تحت نير مع غير المؤمنين، لن ينفك من الأسر حتى يموت عند الغرباء كعبد أسير... فلنستيقظ من الغفلة ونهرب من القاسي القلب الغاش لئلا يقلع عيني عقلنا.
ولن يُجبر إنسان على عمل الشر لأن هذا لا يمكن أن يحدث إطلاقًا، ولا يُرغم الإنسان على السقوط في أية خطية ما دام لا يقبلها بل يقاومها. أما الإنسان الذي يتهاون بخلاص نفسه فشهوته هي التي تصرعه، والذي يُفسح للخطية مجالًا في داخله بتوانيه ورغبات قلبه المنحرفة، يسهل جدًا أن يُفرض عليه الشر أو الخطية من خارجه.
ينبغي ألا نتصور أن الإنسان يسقط فجأة، ولكن لا بد أن يسبق ذلك إخفاق أو انخداع وممارسة خاطئة للحياة المسيحية، تمامًا كما أن المنزل لا يسقط أبدًا بانهيار مفاجئ بل عندما يكون هناك خطر أو صدع في أساساته أو بسبب تجاهل سكانه لمدة طويلة تشرب أسباب الانهيار "بالتجاهل الغبي يسقط البناء وبارتخاء اليدين يتحطم البيت" (جا 18:10)، وهذا بعينه ما يحدث للنفس التي تصل إلى أن "الماء المتسرب يجرد الإنسان من بيته في يوم عاصف" (أم 15:27).
إن سقوط الإنسان لا يحدث فجأة، إنما أوجاع النفس تتسرب تدريجيًا فإن لم تُقاوَم في أوائل تسربها، لا بد أن تتحطم دعامات الحياة الروحية وتتحول النفس من الارتداد الجزئي إلى الارتداد الكلي.
كل غصنٍ لا يتغذى من عصارة الكرمة لا ينمو ولا ينضج ولا يتثبت، والأوراق الخريفية تذبل وتسقط بعد أن تترك الوصية والاتكال على الله والثقة في عنايته وحمايته، وتدخل في تيار الخطية وفي مناقشات غبية صائرة تحت نير غير المؤمنين.
إن السيد المسيح، كلمة الله، مخفي وراء الوصية، فمن يعيش الوصية يلتقي به، ومن يرتد عن الوصية يبتعد عنه ويتمسك بحبال خطيته (أم 2:5).