رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
موقف الرهبان من الثقافة إنَّ مُصطلح ”الثقافة Culture“ كما هو مُستخدم هنا يعني كلّ نوع من الأنشطة الخاصَّة بالكُتُب والنمو العقلي والجمالي، وبصفة عامة مجموع الأعمال والنشاطات الفِكْرية، والرَّهبانية بل والمسيحية في عمومِها لم تعتبر الثقافة هدفًا أو غاية في حد ذاتها لأنَّ أمور كلّ هذا العالم ستبطُل، فالرُهبان الذين جحدوا العالم وكلّ ثقافته لم يقبلوا إلاّ العناصر الثقافية التي رأوا أنها تخدِم أهدافهم، وكان القديسون -وليس الدارسون أو العُلماء- نماذِج وقُدوة كلّ راهب، كما كان الرُّهبان الأوَّلون بصفة خاصة مُتشككون من ”المعرفة العالمية“ إذ رأوا أنها نابعة من منظور وفهم مُختلِف تمامًا للحياة، وكانوا يسعون لنسيان الشِعْر والفلسفة وكلّ صُنوف المعرفة الأرضية التي تعلَّموها في المدارس قبل رهبنتهم وليس بتعلُّم أي شيء جديد (1)، وهكذا كان القديس الأنبا أنطونيوس أب الرُهبان أُميًا تمامًا، فنقرأ في سيرته: ”وحدث أيضًا أنَّ آخرين من مثل هؤلاء (الفلاسفة) التقوا به في الجبل الخارجي، وفكَّروا أن يهزأوا به لأنه لم يتعلَّم الحروف، فقال لهم أنطونيوس: ماذا تقولون؟ ما الذي وُجِد أولًا العقل أم الحروف؟ وأي منهما سبب الآخر؟ فأجابوه: العقل وُجِد أولًا وهو مُخترِع الحروف، فقال أنطونيوس: إذًا كلّ مَنْ له عقل صائِب لا يحتاج للحروف“. (2) وقد اعتُبِرت الرهبنة بصفة عامة أنَّ ”الحروف“ أي المعرفة، وسيلة نافعة لتحقيق أهدافها، فعبَّر القديس باخوميوس المُشرِّع الرَّهباني الأوَّل في قانونه عن اهتمام بتعليم تلاميذه جميعهم (3)، وأمر أن يظل المُبتدئ – قبل قبوله – خارج الباب عدَّة أيام ويتعلَّم كيف يقرأ ويكتُب ويحفظ عن ظهر قلب مقاطِع من الأسفار المُقدسة خاصَّة الصلاة الربانية وأكبر عدد من المزامير يستطيع حِفظه (4)، وبعد قبوله، كان على المُبتدئ أن يتعلَّم ”الأبجدية النُّسْكية“ (أي الفضائِل والجِهادات الرَّهبانية) إذ كانوا يُؤمنون بأهميتها العظيمة بالنسبة للراهب (5)، أمَّا ساعات الفراغ فكان من الضروري أن يشغِلها الراهب بالقراءة في الكتاب المُقدس الذي كان يُحفظ غالبًا، وقد كان هذا الحِفْظ العقلي إجباريًا في دير الأنبا باخوميوس (6). وقد أكَّدت الرهبنة الأولى بشدَّة على حِفْظ المزامير والعهد الجديد، وكان الحِفْظ عملًا شائعًا بين الرُّهبان الأوائِل وعُنصرًا أساسيًا للتعليم في العصور المُبكرة والوُسطى، واعتبره القانون الباسيلي وسيلة نافعة للغاية لتدريب المُبتدئين (7)، ولكن لابد أن نذكُر أنَّ هذا الحِفْظ لم يكُن عملًا أليًا، بل جهد عقلي تأمُلي كما يتضح من ”مُؤسسات“ يوحنَّا كاسيان: ”ليس عدد الآيات التي تُردَّد هو الذي ينبغي أن يكون هدفنا، بل الأفضل أن نُرنِم آيتين بفهم من أن نُرنِم المزمور كلّه بأفكار مُشتتة“. (8) بل وحتّى أثناء تناوُل الطعام في المجمع (المائدة)، كان هناك قراءات يستمِع إليها الإخوة بانتباه حتّى لا تتشتَّت أذهانهم باللذة الجسدية في الطعام، وكانوا يفرحون بكلمات الرب التي هي ”أحلى من العسل وشهد العسل“ كما يقول المزمور الثَّامِن عشر، ولا تزال هذه العادة مُستمرة وحيَّة حتّى الآن في أديُرتنا القبطية العامرة فيُقرأ بُستان الرُهبان أثناء المائدة. وليس فقط الكُتُب المُقدسة بل وأيضًا الكُتُب العادية كانت رفيقًا دائمًا للراهب، وفي ”الأقوال“ وتاريخ بالاديوس وتاريخ ثيؤدورت نقرأ عن العديد من الرُّهبان مُحبي الكُتُب (9)، وفي بعض الأحيان عندما كانوا يعيشون الفقر في أقصى درجاته، كان يُعطي لهم تصريحًا باقتناء الكُتُب، ومن بين القوانين السريانية الرهبانية، هناك قانون للراهبات يمنع الزوار من تقديم أي شيء للدير ما خلا الكُتُب (10)، وعندما كان الرُّهبان يفرغون من قراءة كلّ الكُتُب التي عندهم، كانوا عادة يستعيرون كُتُب أخرى من إخوتهم الرُّهبان، وقد وصلنا خطاب رقيق من راهب قبطي يطلُب أن يستعير كتابًا مكتوب فيه: ”نحيِّي أُبوتكم المُوقرة التقية تعطَّفوا – إذا سرَّكم الأمر – واعطونا كتاب يسوع (ابن) نوح لأنهم يكتبون إلينا (و) نحن لا نجد نُسخة.. تعطَّفوا به.. وداعًا في ربنا يا إخوتي أنبا دانيال، يوحنَّا الكاهن.. من توما الحقير...“. (11) وكان للأديُرة عادة مكتباتها التي تُعتبر كِنزها وذخائِرها، وفي سيرة الأنبا دانيال العمودي (409 – 493 م) نقرأ: ”لأنها عادة في الأديُرة أن تُوضع كُتُب كثيرة مُتنوعة أمام الهيكل، وإذا أراد أي أخ كتابًا فإنه يأخذه ويقرأه“. (12) وفي أغلب الأحيان، لم تتضمن مكتبات الأديُرة كُتُبًا دينية فقط، بل العديد من الكُتُب المُختلِفة (13)، وفي العصر البيزنطي على وجه الخصوص، صارت الأديُرة خزائِن للمعرفة القديمة التي بلغها الكثيرون، فوجد مُحبو المعرفة والتعلُّم فيها أفضل مواضِع يُمكنهم أن يُشبِعوا فيها محبتهم للدراسة، وكان الرُّهبان يُرحبون دومًا بهم. وكانت الأديُرة مسئولة عن حِفْظ التُراث من الاندثار والجهل المُدمِر الذي بدأ يدُق ناقوس الخطر في القرن الخامِس، فقدَّم الرُّهبان خَزَانة آمِنة لسِجلات التاريخ الماضي وذلك بالحِفاظ على المخطوطات والوثائِق. (14) ومن المُثير للدهشة أن نعرِف أنه حتّى القديس باخوميوس نفسه، أوِّل مُشرِّع رهباني، وضع قوانين لحمايِة الكُتُب والمكتبات، فنقرأ: ”إذا أخذ أحد كِتابًا ولم يهتم به بل ازدرى به، يصنع خمسين ميطانية“. (15) وبالإضافة إلى أنَّ العديد من المخطوطات قد حُفِظ نتيجة لهذا الاهتمام الثقافي الرهباني، فإنَّ عددًا كبيرًا آخر قد نُسِخ في المناسِخ الرَّهبانية (وهي حُجرات النُّسَخ في الأديُرة)، إذ بحسب التقليد الرهباني، كان يُنظر إلى نسخ المخطوطات كواجب مُقدس يشترك فيه الرُّهبان ورؤساء الأديُرة، وتُقدِّم لنا السِجلات الرهبانية من عصور وأماكن مُختلِفة معلومات عن عمل نسخ المخطوطات، فمثلًا في وصف بالاديوس لدير الأنبا باخوميوس نقرأ: ”أعمالهم كانت على النحو التالي: واحد يعمل في الأرض، وآخر في المصبغة، وآخر في المنسخ...“. (16) وتتحدَّث ”الأقوال“ عن راهب يُدعى إبراهيم كان نسَّاخًا، وچيروم في إحدى رسائله يتحدَّث عن الرُّهبان الذين يعملون بنسخ المخطوطات، والراهب هيراكس Hierax المُتوحِد والذي عاش في النصف الأوَّل من القرن الرَّابِع، كان خطَّاطًا واستمر يكتُب حتّى تنيّح عن 90 سنة (17)، وفي سيرة مارالوس Marallus والقديسة ميلانيا، نقرأ أنَّ عملهُما كان نسخ الكُتُب، وهكذا نجد أنَّ تقليد نسخ المخطوطات استمر مُتوارثًا عبر تاريخ الرهبنة. ومن البيِّن أنَّ نسخ المخطوطات كان عملًا شائِعًا بين الرُّهبان الأوائِل، وأنَّ محبتهم للتعلُّم والدراسة هي التي حرَّكت أقلامهم، وهذه المحبة حفظت لنا وورثَّتنا ما تبقّى من الأدب اليوناني واللاتيني الذي لو كان الحال غير ذلك لاختفى مثل الأدب البابلي والفينيقي. ولم يكُن نسخ المخطوطات عملًا أليًا، بل كان له تأثير فِكري وروحي مثله في ذلك مثل حِفْظ صفحات الأسفار، فكان عملًا مُقدسًا كما رأينا، ولذلك استُخدِمت صلاة خاصَّة لتبريك المنسخ (حُجرة النسخ): ”أيها الرب تعطَّف وبارِك هذا المنسخ الذي لخُدَّامك وكلّ ما فيه، كي إذا قرأوا هنا أو كتبوا أي كِتابات مُقدسة، يفهمونها وينتفعون منها... بربنا يسوع المسيح آمين“ (من القرن الثَّامِن). (18) وكان هذا العمل شاقًا ومُعقدًا، فبعض الرُّهبان كانوا ينسخون الكتاب، البعض الآخر يجلِّده، آخرون يُزينونه، وأخيرًا، راهب يراجعه ويصحَّح أخطاءه، وكانت هذه الأعمال تتم في حُجرة خاصَّة تُسمَّى ”المنسخ Scriptorium“. وإذ كان الرُّهبان يعيشون بلا تشتُّت في سكون البريَّة، مُنتبهين إلى داخلهم، كان لديهم الكثير من الأفكار والمشاعِر التي عبَّروا عنها في رسائِلهم إلى الإكليروس وإلى المُؤمنين الذين طلبوا نصائِحهم، وأيضًا في الكُتُب التي كتبوها، ومن المُؤكد والمعروف أنَّ اسهاماتِهِم في مجالات الأدب والرسم والموسيقى والعمارة والفنون العملية، كانت مُتميزة وهامة، بل يُمكن القول أنَّ إنجازاتِهِم تُعد من بين أفضل أعمال الإنسانية. (19) |
|