سقراط المؤرخ
Socrates of Constantinople
وُلد (1) في مدينة القسطنطينية (2) نحو عام 379 م. أو 380 م. وتعلم على يدي أمونيوس وهيلاديوس وهما اثنان من معلمي البلاغة والنحو، وكانا من كهنة الأوثان في مصر، وهربا منها بعد انهدام السيرابيوم في زمان البطريرك ثيوفليس.
وقضى سقراط معظم أيامه في القسطنطينية وكان يفتخر بمواطنته فيها ويروي الكثير عنها، وقد درس القانون واشتغل بالمحاماة لبعض الوقت، واستجابة لطلب شخص يُدعى ثيودورس Theodorus (3) كتب تكملة للتاريخ الكنسي الذي وضعه يوسابيوس القيصري.
ويرى بعض المؤرخين أنه كان من اتباع نوفاتيان الهرطوقي ودليلهم على هذا هو أنه يذكر أسماء الأساقفة النوفاتيين الذين تتابعوا على القسطنطينية (4)، ويذكر أسماء آخرين(5) في أماكن أخرى، ويعرف مشاكلهم وأمورهم الداخلية (6)، ويسجل نقدهم للقديس يوحنا ذهبي الفم (7).
إلا أن البعض الآخر من الدارسين يدافع عنه، ويقولون أن كل ما ذكره عن النوفاتيين في تاريخه، إنما كتبه بسبب موضوعيته الكاملة، علاوة على عدم اهتمامه بالاختلافات اللاهوتية والعقيدية، فهو يتناول باقي الهرطقات بنفس الطريقة
وقانون الإيمان الذي كتبه سقراط بسيط جدًا، وأهم ما فيه هو عقيدة الثالوث، وفيه يدافع عن قانون الإيمان النيقاوي ضد الآريوسية وسائر الهرطقات التي تهاجمه، وكان يؤمن بالوحي والإلهام في في المجامع المسكونية تمامًا مثل الوحي الذي في الكتاب المقدس، وكان مقتنعًا بأنه لابد أن يقبل -دون نقاش- قرارات المجامع، كما يقبل تعاليم الكتاب المقدس بتسليم.
وقد دافع عن أوريجانوس، وهاجم ميثوديوس ويوستاثيوس وأبوليناريوس (8) لأنهم حاولوا التقليل من شأن العلامة السكندري، إذ كان يرى أن خلاف أو جدال حول الأمور العقيدية هو غير ضروري، ويحب أن يحيل النقاط والموضوعات العقيدية إلى الإكليروس ليجيبوا عليها ويفصلوا فيها، لا يتردد في الاعتراف بعدم معرفته وعدم قدرته على الإجابة على التساؤلات اللاهوتية، وكان يحترم الكنيسة ومؤسساتها ويوقر ويجل رجال الإكليروس بسبب نعمة الكهنوت المعُطاة لهم، ورغم أنه انتقد فم الذهب وكيرلس الكبير، إلا أن الأسقف عنده محاط بهالة من القداسة والراهب هو نموذج التقوى والنسك.
كذلك كان سقراط قارئًا ودارسًا للكتابات والأعمال الوثنية، وكان يرى أن دراستها ضرورية من أجل الرد على الوثنيين في الجدالات العقيدية.
تاريخه الكنسي
يذكر سقراط في عمله هذا أن دوافعه لكتابته كانت محبته للتاريخ خاصة تاريخ الأيام والأحداث التي عاصرها هو، واحترامه للعلامة يوسابيوس القيصري أبو التاريخ الكنسي، وطلب ثيودورس الذي يُهدي غليه العمل.
ويستهل كتابه بشرح هدفه وهو المعالجة التاريخية لما أغفله يوسابيوس في تاريخه، وإعادة شرح كل ما لم يشرحه يوسابيوس شرحًا وافيًا (بحسب رأي سقراط)، وهكذا يبدأ عمله بجلوس قسطنطين على العرش في سنة 306 م.، وينتهي عمله بعام 439 م.، وهكذا تضمن تاريخه 133عامًا، وينتهي عمله بجلوس الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير على العرش، وهي نفس نهاية عمل سوزومين.
ولا نعرف لماذا لم يستكمل سقراط كتابه ليغطي فترة زمنية أحدث من ذلك، لكن ربما يكون هذا بسبب مفهومه عن أن التاريخ لا يُكتب إلا في أزمنة الاضطرابات والجدالات وليس في أزمنة السلام، والفترة بعد عام 439 م. كانت فترة سلام وهدوء.
والفترة التي أرخ لها كانت مليئة بالأحداث، إذ عُقدت فيها أهم المجامع:
مجمع نيقية عام 325 م
مجمع القسطنطينية عام 381 م.
مجمع أفسس الأول 431 م.
مجمع أفسس الثاني 449 م
مجمع خلقيدونية عام 451 م
ففي هذه الفترة استراحت الكنيسة من الحروب الخارجية، وبدأت تواجه حروبا داخلية من الهراطقة والمبتدعين والمنحرفين عن الإيمان.
ومن الناحية الجغرافية، كان عمل سقراط محصورا في الشرق، فلا يتحدث عن الكنيسة الغربية إلا في الأمور التي تتصل بالشرقية، وقسم العمل إلى سبع كتب بحسب تتابع الأباطرة في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية.
والكتب السبعة تغطى فترة حكم 8 أباطرة شرقيين، اثنان منهما (يوليان 361: 363 م. – وجوفيان 363: 364 م) كان تاريخيهما موجزين فوضعا في كتاب واحد، وبعد ذلك أفرد المؤلف لكل إمبراطور كتابا خاصا به.
الكتاب الأول: الكنيسة تحت حكم قسطنطين الكبير 306: 337 م.
الكتاب الثاني: الكنيسة تحت حكم قسطنطين الثاني 337: 360 م.
الكتاب الثالث: الكنيسة تحت حكم يوليان وجوفيان 360: 364 م.
الكتاب الرابع: الكنيسة تحت حكم فالنس 364: 378 م.
الكتاب الخامس: الكنيسة تحت حكم ثيودوسيوس الكبير 379: 395 م.
الكتاب السادس: الكنيسة تحت حكم أركاديوس 395: 408 م.
الكتاب السابع: الكنيسة تحت حكم ثيودوسيوس الصغير 408: 439 م. وهي الفترة التي كتب فيها العمل.
وكما يتضح من عنوان العمل "التاريخ الكنسي" كان هدف العمل الأساسي هو التأريخ للأحداث الكنسية، لكن المؤلف يجمع بين التأريخ للكنيسة والتأريخ الأحداث السياسية وأمور الإمبراطورية.
وكان سقراط يسعى دوما للوصول إلى المصادر الأولية، وجانب كبير من هذا العمل مأخوذ من التقليد الشفاهي، إذ كان يحاول الوصول إلى وصف شهود العيان بقدر الإمكان (9).
ومن الأعمال المكتوبة، استخدم "التاريخ الكنسي" و"حياة قسطنطين" للعلامة يوسابيوس القيصرى (10)، وكذلك أعمال روفينوس، وكتاب "الأعمال" لمؤلفه أرشيلاوس Archelaus وكتاب "مجموعة من أعمال المجامع" لمؤلفه سابينوس Sabinus والذي ينتقده لعدم موضوعيته.
كما استعان بكتاب "الإنسان الثابت- انكوراتوس" للقديس أبيفانيوس، وأعمال أثناسيوس (11) "الدفاع -عن المجامع- عن قانون الإيمان"، وأيضًا أعمال إيفاجريوس (12) وبالاديوس (13) ونسطور (14) وأوريجين (15).
وهو على معرفة بالكتاب المسيحيين السابقين لأوريجين مثل إيريناؤس وكلمنضس السكندرى وسرابيون وآخرين، لكن يبدو أنه لم يستخدم كتاباتهم كمراجع في عمله.
كذلك استعان بكتاب آخرين ووثائق رسمية ورسائل أسقفية ورعوية، وقرارات وأعمال ووثائق أخرى لا يذكرها بالتدقيق.
وبالجملة يعتبر استخدامه لكافة هذه المصادر والمراجع دليلا على شمولية كتابه بالنسبة للزمان والظروف التي كتب فيها.
ومن أهم السمات والمميزات في تاريخ سقراط هي الموضوعية التامة، فهو أكثر الكتاب المسيحيين في أيامه موضوعية في تاريخه للهراطقة والمبتدعين، وكي يحافظ على هذه الموضوعية لم يمدح أحدا قط ما عدا الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير.
كذلك يتميز أسلوبه بالبساطة والسهولة، فمن بداية الكتاب وهو يعلن رغبته في استخدام لغة سهلة واضحة غير متكلفة.
لكن من مآخذ هذا العمل كانت الأخطاء العديدة في تأريخه للقديس باسيليوس الكبير وللقديس غريغوريوس النزينزى ويوسابيوس غيرهم، وأيضًا جهله بأمور الكنيسة الغربية.
والنص الذي وصلنا هو الإصدار الثاني الذي نشره سقراط من هذا العمل، ذلك انه بعد أن نشر كتابه للمرة الأولى اكتشف أن بعض المصادر التي اعتمد عليها قد جانبها الصواب، خاصة روفينوس، والذي اكتشف أخطائه التاريخية من خلال قرائته لمؤلفات القديس أثناسيوس.
وقد استعان سوزومين بتاريخ سقراط في كتابة تاريخه الكنسي، وفي بدايات القرن السادس ترجمه ابيفانيوس السكولاستك (أى الدارس أو المتعلم) مع تاريخ سوزومين وثيودورت.
وأفضل مخطوطتين موجودتين ترجعان إلى القرن 10، 11 وقد عثر على ترجمة أرمنية لهذا العمل وترقى إلى القرن السابع ونشرت عام 1897 م.