الروح القدس والاستنارة الدائمة
يقدم لنا الروح القدس في المعمودية "استنارة روحية"، فتنفتح بصيرتنا الداخلية لإدراك بنوتنا لله وعضويتنا في جسد المسيح، ونتعرف على أسرار محبة الله وتدبيره لخلاصنا. وفي سرّ الميرون يقدم لنا الروح القدس نفسه لنقتنيه داخلنا سراجًا إلهيًا يضيء بصيرتنا على الدوام، لتتعرف من يوم إلى يوم على حقائق الله والعالم والنفس البشرية والسماء، ويدخل بنا من معرفةٍ إلى معرفة، ومن نورٍ إلى نورٍ، ليس ليعطي لأذهاننا لذة فكرية، وإنما لكي ننطلق دومًا نمارس حياتنا الجديدة النورانية.
بالروح القدس نتعرف على أسرار الله كقول الرسول: "أعلنهُ الله لنا نحن بروحهِ. لأن الروح يفحص كلَّ شيءٍ حتى أعماق الله. لأن مَنْ مِنْ الناس يعرف أمور الإنسان إلاَّ روح الإنسان الذي فيهِ؟! هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلاَّ روح الله". (1 كو 2: 10-11) فبه ندخل إلى معرفة الابن الذي ينطلق بنا إلى حضن الآب، إذ "ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس" (1 كو 12: 3). وكما أعلن السيد نفسه: "ومتى جاءَ المعزّي الذي سأُرسِلهُ أنا إليكم من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يو 15: 26). لهذا نردد قائلين: "بنورك يا رب نعاين النور" (مز 36: 9)، أي بالروح القدس نعاين نور الآب والابن.
ينسب للروح القدس عطية الشركة، فهو سرّ الشركة بين الآب والابن، إذ هو منبثق من الآب مستقر في الابن، روح الآب وروح الابن. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الآب ليس أبًا للروح القدس بل للابن، والابن ليس ابنًا للروح القدس بل للآب، أما الروح القدس فليس روح الآب وحده ولا روح الابن وحده، بل روح الآب والابن... لقد سُلمت إلينا فكرة العلة في الآب والبنوة في الابن والشركة في الروح القدس، والمساواة في الثلاثة (إذ هم إله واحد) وبذلك صارت مسرة الله أن ننال بواسطة من هو رابطة الوحدة بين أقنومي الآب والابن، الشركة مع بعضنا البعض والشركة مع الثالوث القدوس [259].] فبالروح القدس لا ندخل إلى مجرد استنارة فكرية، بل استنارة قلب واتحاد وشركة حب"، "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس..." (رو 5: 5). استنارة خلال تلاقي المحبة الإلهية التي فيها نتحد مع الله فنتعرف عليه، ونتحد مع إخوتنا، فنعرفهم في الله. خلال هذه الشركة يصير الله صديقنا الأعظم يكشف لنا أسراره وخفاياه ونعاين مجده، وخلال هذه الشركة نتعرف على بعضنا البعض كأعضاء بعضنا لبعض خلال الرأس يسوع المسيح ربنا.
خلال هذه الشركة يعطينا استنارة حقيقية على مستوى فائق، لهذا يؤكد لنا ألا نهتم أو نقلق في شيء، إذ هو يرشدنا ويتكلم فينا وبنا في أحرج اللحظات. يقول السيد المسيح: "فمتى أسلموكم فلا تهتمُّوا كيف أو بما تتكلمون. لأنكم تُعطَوْن في تلك الساعة ما تتكلمون بهِ. لأن لستم أنتم المتكلمون بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت 10: 20، راجع لو 11: 11-12).
الروح القدس -واهب الشركة ومصدر الاستنارة- يعلمنا كل شيء ويذكرنا بوصايا السيد وكلماته (يو 14: 26)، ويرشدنا إلى جميع الحق (يو 16: 13). ولا يقف الأمر عند الماضي والحاضر وإنما يكشف لنا الأمور المقبلة: "يخبركم بأمورٍ آتية" (يو 16: 13).
لما كان الله هو النور الحقيقي الذي “ليس فيهِ ظلمة البتَّة" (1 يو 1: 5)، فإن الروح القدس إذ يدخل بنا إلى حياة الشركة معه إنما ينقلنا من الظلمة إلى النور: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمةً وأما الآن فنور في الرب". (أف 5: 8) وكما يقول القديس مقاريوس الكبير: [إذ تتحد (النفس) مع الروح المعزي بألفةٍ لا توصف، وتختلط بالروح تمامًا تُحسب أهلًا أن تصير هي نفسها روحًا، في اختلاطها معه حينئذ تصير كلها نورًا وعينًا وفرحًا وراحة وبهجة ومحبة وأحشاء وصلاحًا ورأفات [260].]
ويرى القديس أمبروسيوس فيما فعله جدعون صورة حية لعمل الروح القدس الناري في نفوس المؤمنين، إذ أمر رجاله الثلاثمائة أن يأخذوا في أيديهم جرارًا فارغة يضعون في داخلها مشاعلهم المضيئة، وأن يمسكوا أبواقهم في أيديهم ليغلبوا المديانيين: [لقد أخذنا عن آبائنا القديسين تفسير هذه القصة كما تسلموه من الرسل،فالجرار هي أجساد البشرية المصنوعة من الطين، ولكنها لا تعرف الخوف إذا التهبت بحرارة الروح القدس ونعمته (واستنارت به)، فتشهد لآلام الرب يسوع وتعترف جهرًا بالإيمان به [261].] إنه يهبنا الاستنارة الداخلية، فيسند قلوبنا للدخول في المعركة وبلوغ الغلبة والنصرة!
_____
الحواشي والمراجع:
[259] Homilies on the Gospels, 21.
[260] عظة 10:18.
[261] On The Holy Spirit 14:167.