كلمة ملكوت في العبرية هي "مالكوت" وفى الآرامية التي كتبت بها بعض أجزاء العهد القديم والتي كان يتحدث به اليهود في زمن السيد المسيح "مالكوتا" وتعنيان في العهد القديم والكتاب المقدس كله حكم الله وسلطانه الشامل وسيادته على الناس والأمم والزمن في الماضي والحاضر والمستقبل، أي التاريخ الذي يحدد مساره ويحقق فيه إرادته، والطبيعة والكون كله، في السماء وعلى الأرض، فهو خالق الكون ومدبره والمهيمن عليه:
"يحمدك يا رب كل أعمالك ويباركك أتقياؤك بمجد مُلكك ينطقون وبجبروتك يتكلمون. ليعرّفوا بنى أدم قدرتك ومجد جلال مُلكك ملك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور (1)"،
"الرب في السموات ثبت كرسّيهُ ومملكتهُ على الكل تسود.. باركوا الرب يا جميع أعماله في كل مواضع سلطانه باركي يا نفسي الرب (2)"،
"لأن الله ملك الأرض كلها رنموا قصيدة. ملك الله على الأمم (3)"،
"ليكن اسم الله مباركًا من الأزل وإلى الأبد لأن لح الحكمة والجبروت. وهو يغير الأوقات والأزمنة يعزل ملوكًا وينصب ملوكًا (4)"،
"لكي تعلم الأحياء أن العلى متسلط في مملكة الناس فيعطيها من يشاء وينصب عليها أدنى الناس (5)"،
"أن الله العلى سلطان في مملكة الناس وأنه يقيم عليها من يشاء (6)"،
"من لا يخافك يا ملك الشعوب (7)".
والكتاب يبين لنا قوة الله وسلطانه بصورة علمية عندما يذكر لنا أعماله مثل إغراق الأرض بالطوفان (8) وإرجاع الشمس للوراء (9) وشق البحر الأحمر وإغراق فرعون وجيشه فيه ونجاة شعب الله (10) وأنبع الماء من الصخر (11) وحرك النجم لإرشاد المجوس إلى مكان ميلاد المسيح (12) وجعل الشمس تختفي في الظهر وقت صلب المسيح (13) وجعل الملك نبوخذ نصر يعيش فترة من الزمن كالحيوان (14) ويستخدمه كآلة لتأديب شعبه وتحويلهم إلى سبايا (15) ويدعو الملك الفارسي كورش ليعيدهم ثانية (16)، وهو الذي يسمح لأمة بالنصر في الحروب وأخرى بالهزيمة وذلك بحسب قصده ومشيئته وعلمه السابق.
ولكن البشر كما يقول الوحي الإلهي؛ "حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات.. استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد (17)". سقط البشر في عبادة الأوثان وتركوا الإله الحي ملك الملوك ووضعوا أنفسهم في مجال ودائرة حكم الشيطان وسيادته وملكوته. ومن ثم فقد أختار الله إبراهيم ودعاه ليخرج من أرضه ويترك أهله وعشيرته ويسير في الطريق التي رسمها له ليأتي منه ويخرج من صلبه شعبًا خاصًا به يكون في دائرة ومجال حكمه المباشر. هذا الشعب يقوم دستوره على القداسة والبر والتبعية المطلقة لله وتدور طقوسه وشعائره حول التطهير "وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي (18)"، ويعبد الله وحده باعتباره الإله الواحد الوحيد ولا إله غيره:
"أسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد (19)"،
"لا يكن لك إلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن (20)"،
"أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي.. ولا إله آخر غيري.. ليس سواي.. أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلى (21)".
وكان قصد الله أن يكون هذا الشعب، في المستقبل، سبب بركة لجميع الأمم عن طريق النسل الآتي، المسيح المنتظر، الذي سيقيم ملكوت الله في العالم أجمع ويخضع كل ممالك الأرض للرب ومسيحه، أو كما يقول الوحي الإلهي "لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح (22)" :
"وقال الرب لإبر آم (إبراهيم) أذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم أسمك. وتكون بركة. وأبارك مباركيك ولاعنك العنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض (23)".
وقطع الله عهدًا "ميثاقا" مع إبراهيم بواسطة الذبائح وكشف له عن المستقبل في رؤيا (24) وجدد العهد مع ابنه إسحق "ولكن عهدي أقيمه مع إسحق (25)" ثم مع حفيده يعقوب الذي ظهر له في حلم وقال له "أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق.. ويتبارك فيك وفى نسلك جميع قبائل الأرض (26)".
وجدد الله هذا العهد ثانية مع الشعب بعد خروجه من مصر بواسطة موسى النبي وقال لهم "أن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإن لي كل الأرض. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة (27)". وكان عهد الله معهم مشروطًا بحفظ وصاياه وسماع كلامه.
ولكن الله لم يختر هذا الشعب لميزة فيه أو فصيلة لأنه أختارهم وهم في صلب إبراهيم وإسحق ويعقوب ورباهم بذاته كما يقول "ربيت بنين ونشأتهم (28)". وإنما أختارهم بنعمته وأحبهم فضلًا ليحقق من خلالهم مشورته الإلهية كما سبق أن وعد إبراهيم وإسحق ويعقوب: "لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد أختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم وأختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية ومن يد فرعون ملك مصر (29)".
فقد وجدت هذه الأمة وتأسست وقامت على أساس لاهوتي ولهدف سامي كان في قصد الله وهو فداء العالم في "ملء الزمان" عن طريق النسل الآتي والمسيح المنتظر الذي سيقيم ملكوت الله وينشره في جميع الأمم، وبالرغم من أنها عاشت أحداث زمنية وتاريخية في سياق التاريخ العام للعالم إلا أن هذه الأحداث كانت تسير بحسب قصد الله ومشيئته وعلمه السابق وبسماح منه تعالى. فقد كشف الله ما سيحدث لها على مر العصور لأنبيائه؛ كشف لإبراهيم في رؤيا مدة عبوديتها في مصر "أربع مئة سنة (30)" وكشف لسليمان عن انقسامها بعد موته (31) وكشف لإشعياء وإرمياء النبيين عن استخدامه لنبوخذ نصر ملك بابل في تأديبها وحمل شعبها سبايا إلى بابل وعن استخدامه لكورش ملك فارس في إعادة هذا الشعب ثانية إلى حيث كان بعد تمام سبعين سنة (32)، وكشف لدانيال النبي عن الدور الذي ستلعبه الإمبراطوريات العالمية الأربع، بابل وفارس واليونان وروما، في تاريخ هذه الأمة (33).
ولم يكن اختيار الله لإسرائيل يعنى أنه تنازل عن ملكه وسيادته على بقية الأمم، كلا، فهو ملك كل الأمم "أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض (34)" وهو الذي "يعزل ملوكًا (35) وينصب ملوكًا".
وقد أعطى لنبوخذنصر ملك بابل حكم بلاد كثيرة "قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نصر ملك بابل عبدي (36)"، وسلط كورش ملك فارس على أمم كثيرة ودعاه بمسيحه "هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوك أحلُّ لأفتح أمامه المصراعين والأبواب (37)" ودعى مصر وأشور وكوش بشعوبه وكما أخرج إسرائيل من مصر فقد نقل أيضا شعوب أخرى من مكان إلى مكان: "مبارك شعبي مصر وعمل يدى أشور وميراثى إسرائيل (38)"،"ألستم لي كبني الكوشيين يا بنى إسرائيل يقول الرب ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير (39)". وبرغم أن هذه الأمم كانت غارقة في الوثنية ولكن الله دبر في قصده الإلهي ومشورته الأزلية أن يفدى هذه الأمم ويعيدها إلى حظيرة ملكوته الروحي ثانية عن طريق النسل الآتي من بنى إسرائيل. وقد رأى الله بعلمه السابق أن هذه الأمم ستعود ثانية إليه كالابن الضال في حين يخرج شعب إسرائيل، الأمة المختارة، من الملكوت بسبب تطلعهم إلى ملكوت مادي يقوم على الحروب وسفك الدماء وبسبب رفضهم لابن الله الآتي ليملك على القلوب ويقيم مملكة ليست من هذا العالم، أي روحية غير مادية "أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية (40)".
عاش شعب إسرائيل تحت حكم الله المباشر وسيادته وسلطانه بواسطة الأنبياء والقضاة من موسى إلى صموئيل ولكنهم رفضوا حكم الله وطلبوا من صموئيل النبي أن يقيم لهم ملك يحكم عليهم مثل سائر الشعوب (41). رفضوا حكم الله وفضلوا عليه حكم البشر، وبرغم أن الله قال "إياي رفضوا لكي لا املك عليهم (42)" إلا إنه طلب من صموئيل أن يمسح لهم ملكًا حسب إرادتهم، فمسح شاول البنياميني ملكًا عليهم وحل عليهم روح الله وتنبأ مع الأنبياء ودعى "مسيح الرب" وكان عليه أن يحكم بحسب إرادة الله وشريعته (43) ولكنه فشل في ذلك، فرفضه (44) الرب وأختار داود ولم يفارقه وأخذ داود يسبح الله ويمجده ويتنبأ حتى دعى بالروح "الرجل القائم في العلا مسيح إله يعقوب ومرنم إسرائيل الحلو (45)"، ودعى أيضًا بالرجل الذي بحسب قلب الله "أنتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه وأمره أن يترأس على شعبه (46)"، "وجدت داود بن يسى رجلًا حسب قلبى الذي يصنع كل مشيئتي (47)"، وبالرجل "الذي وجد نعمة أمام الله (48)"، وقيل عنه "وجدت داود عبدي. بدهن قدسي مسحته (49)"، وكان داود نموذجًا أمام بنى إسرائيل في كل العصور وقد وعده الله أن من صلبه سيأتي النسل الآتي والمسيح المنتظر ليملك على كرسيه إلى الأبد:
"أقسم من بعدك نسلط الذي يخرج من أحشائك وأثبتت مملكته... أنا أكون له أبًا وهو يكون لي أبنًا.. كرسيك يكون ثابتًا إلى الأبد (50)"،
"وأجعل على الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السموات.. مرة حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس أمامي. مثل القمر يثبت إلى الدهر (51)".
قال القديس بطرس بالروح عن وعد الله لداود أنه "كان نبيًا وعلم أن الله حلف له بقسم انهُ من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه (52)". وتطلع الأنبياء جميعًا إلى هذا الملك الآتي من نسل داود ليجلس على كرسيه ووصفوه بالروح ب "الرب برنا (53)" و"الإله القدير.. رئيس السلام (54)" و"الأزلي (55)" والذي سيكون "عادل ومنصور وديع (56)" و"ابن الإنسان" الذي تتعبد له كل الشعوب والألسنة (57)"، وستكون قوته في "فمه" وسلاحه في "شفتيه" ومنطقه هو "بره وأمانته (58)"، ولن يحارب بالسيف ولن يقود جيوش تغزو وتهلك وتدمر بل يستولى على الأمم بالحب والسلام، ولا يضم الناس إلى ملكوته بالسيف أو بقوة الجيوش بل بالروح القدس "سيعمد بالروح القدس ونار (59)".
وقد رأى دانيال النبي ملكوته يسود على كل الأمم ويكتسحها أمامه بقوة إلهية. فقد رآه كحجر قطع من جبل بغير يدين وأكتسح جميع ممالك العالم "كنت تنظر إلى قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصارت كعاصفة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها"، وبعد التفسير الخاص بالممالك التي يرمز إليها التمثال، والتي هي إمبراطوريات بابل وفارس واليونان والرومان، قال الوحي أن الحجر الذي قطع بغير يدين وأكتسح هذه الإمبراطوريات جميعًا وملأ الأرض كلها هو المسيح الآتي الذي سيقيم ملكوت أبدي لا نهاية له؛ "وفى أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهى تثبت إلى الأبد. لأنك رأيت أنه قد قُطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب (60)".
ورآه دانيال في رؤيا ثانية ولكن بصورة أوضح كابن الإنسان الذي يملك إلى الأبد على شعب قديسي العلى في ملكوت أبدى لا نهاية له:
"كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان آتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول وملكوته ما لن ينقرض.. والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت السماء تعطى لشعب قديسي العلى. ملكوته ملكوت أبدى وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون (61)".