قال الرب يسوع: «إن كان أحد يخدمني فليتبعني» (يوحنا 12: 26)· وما أعظمه مثالاً في التضحية بالنفس· فقد قال قبل ذلك مباشرة: «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير· مَنْ يحب نفسه يُهلكها، ومَنْ يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يوحنا12: 24 ، 25)· إن المسيح «لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخْدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس10: 45)· وطوال حياته «لم يُرضِِ نفسه» (رومية15: 3)،
«ولم يُمجِّد نفسه» (عبرانيين5: 5)، بل «وضعَ نفسه» (فيلبي2: 8)، و«بَذلَ نفسه» (غلاطية1: 4)، و«أسلم نفسه لأجلنا» (أفسس5: 2)، و«سكب للموت نفسه» (إشعياء53: 12)· وإن كنا نريد أن نخدمه فعلينا أن نتبع مثاله، فنموت عن الذات، ونرفض رغباتها، حتى الرغبات المشروعة، ولا نسعى لننال مديح الآخرين أو مجدًا منهم، ولا نبحث عن الخدمات الظاهرة، بل ليكن شعارنا مع مَنْ قال: «ينبغي أن ذلك يزيد، وأني أنا أنقص» (يوحنا3: 30)· وعلينا أن نُنفِق ونُنفَق إلى حد الإتلاف (كما قال التلاميذ عن مريم) في خدمتنا للرب، وهدفنا أن نُرضيه ونكرمه·
وفي بداية دعوته للتلاميذ، قال المسيح لبطرس وأندراوس: «هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس» (متى4: 19)· وإن كنا نريد أن نخدمه الخدمة المرضية، علينا أن نقتفي أثره، ونتعلم منه· إنه لم يعش لأجل نفسه، ولم يعمل شيئًا واحدًا لأجل نفسه· لم يكن لديه وقت للراحة، فكان يعمل في السبوت (أيام الراحة)· ولم تتيسَّر له فرصة للأكل وسط زحام الخدمة· ولم يكن لديه وقت للنوم، فكم من المرات نراه ساهرًا في الجبل حتى الصباح يصلي، لكي يتأيَّد بالقوة ليوم جديد مشحونًا بالخدمة·
والآن دعونا نمتحن أنفسنا: أين نحن من هذا المثال؟ وهل ما نفعله هو بالحقيقة خدمة للرب؟ هل المسيح هو غرض الخدمة أم ذواتنا؟ «إن كان أحد يخدمني»· هل عرفناه وتفرّسنا فيه حتى يمكننا أن نتبع مثاله؟ علينا أن ندرس الأناجيل من جديد، ونحدق النظر في حياة المسيح وخدمته وعطائه وحبه وتضحيته·
ولنعلم أنه يُقدِّر كل خدمة حقيقية وكل تعب لأجله، وسيكافئ كل ما عملناه· «إن كان أحد يخدمني يكرمه الآب» (يوحنا12: 26)· فهو لن ينسى كأس ماء بارد باسمه، ولن ينسى الفلسين اللذين ألقتهما الأرملة الفقيرة، كما لن ينسى قارورة الطيب التي كسرتها مريم· والمكافأة من الآب هنا وهناك·
قال الرسول بولس: «فأطلب إليكم···
برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية» (رومية12: 1)· وهذا يعني أن نخدم الرب كعبيد· والعبد هو بجملته مِلكٌ لسيده· ولا يمكن أن نفصل الخدمة عن الحياة بتفاصيلها· فالخدمة هي حياة كاملة مُكرَّسة للرب، وليست فقط بعض الأنشطة التي نمارسها أو نُكلَّف بها· فالبعض يعمل بإتقان واجتهاد بعض الأشياء التي طُلبت منه في المجال الروحي، لكنه بعد ذلك يعيش حياته بعيدًا عن الأجواء الروحية، ويعمل ما يحسن في عينيه حتى لو كان خطية· إنه يريد أن يشعر أنه حر طالما أدَّى المفروض عليه· وهو حريص على صورته في الأوساط الكنسية والروحية، لكنه لا يريد أن أحدًا يتدخل في حياته الخاصة· إنه في العَلَن شيء وفي السر شيء آخر· ولا شك أن هذا الشخص قد نسي أنه بجملته عبد للمسيح· وربما لا يدرك أن الخادم هو خادم أينما وُجد· أمام الناس هو خادم، وبعيدًا عن الناس هو أيضًا خادم، لأنه يخدم أمام الرب· إنه طوال الأسبوع هو خادم وليس فقط في الدقائق التي يُؤدي فيها الخدمات المطلوبة· وعليه أن يلاحظ نفسه باستمرار، ويُذكِّر نفسه بأنه عبد وخادم للمسيح طول الوقت·
قال الرسول بولس أيضًا: «حتى أُتمِّم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع» (أعمال20: 24)، وقال للمؤمنين في كولوسي: «قولوا لأرخبس انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب لكي تتممها» (كولوسي 4: 17)· فالخدمة الصحيحة هي تكليف من الرب ورؤية معطاة من الرب، وليست تكليفًا من الناس· وقد يكون تكليف الناس بعيدًا عن فكر الرب من جهة هذا الشخص، ولا يتناسب مع تكوينه وقدراته فيفشل سريعًا· أما الخدمة التي نأخذها من الرب فستكون متناسبة مع تجهيز الرب لنا، ومع الموهبة والمقدرة المُعطاة لنا· وسنشعر فيها بالفرح والنجاح والتأييد الإلهي· إن الخدمة ليست أن نعمل أشياءً صحيحة للرب، بل أن نعمل الأشياء التي يريدنا هو أن نعملها· إنها تثقّل من الرب، وليست هواية محببة أو تسلية وترفيهًا عن النفس·
الخدمة ليست تقليدًا للآخرين بل كما قسم الله لكل واحد، فلا تحاول أن تتقمص شخصية أحد الخدام الناجحين، بل كن كما أنت واقبل نفسك كما صنعك الفخاري الأعظم، وتذكّر أن الله لا يُكرِّر الأواني· إنه يريدك هكذا، وسيستخدمك بالإمكانيات التي وضعها فيك·