كتاب تقديس الحاضر - الأنبا مكاريوس الأسقف العام
ما بين الماضي والمستقبل، قد يضيع الحاضر
ما بين التفكير فى الماضى، والأرق بسبب ما فيه من مريره، وما يصحبه من ندم، وما يترتب عليه من صغر نفس وشك فى المصداقية.
وبين القلق على الغد، وعدم التأكد من النجاح فيه، والاستمتاع به، وإصابة الاهداف وتحقيق الامال، وادراك الطموحات:
يضيع الحاضر
يضيع الحاضر وهو الاهم.. إذ نملكه، فالأمس مرَّ وافلت منّا بكل ما فيه، وتحوَّل الى ذكرى.
والغد كذلك.. لا نملكه.. ولا نعرفه، إذ هو فى فكر الله.
فليتحول الأمس الى خبرة تفيدنا فى الحاضر.
وليصبح الغد أملًا مشرقًا وامنيه جميله، وثقه فى ان الله يرتب لنا فيه الخير.
والحدث هنا عن الحاضر.. إنه اليقين، إن كان هناك يقين غير الله!
فالامس قد مرّ بكل ما فيه، إن كان خيرا وان كان شرا.. ان كان كسبا وكان خساره، لم يعد سوى ذكرى.. إن كنا أخطأنا فيه، فقد غفر الله لنا الماضي، ابتلعه لكل ما فيه من شر.. من خيانة.. من ضعف.. اسدل عليه ستارًا فصار وكأنه لم يكن.. ألم نتب عنه؟! أم نعترف به؟! إذًا فهو غير باق.. غير قائم ولا سلطان له.. ألم يقل القديس يوحنا سابا المعروف بالشيخ الروحاني: "إن التوبة تحوِّل الزناة إلى بتوليين"؟! أي كأنهم لم يخطئوا أصلًا.. "هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ" (سفر إشعياء 1: 18)
إننا لا نستطيع ان نسترجع الماضى، وبالتالى فنحن لا نقدر أن نصلحه، ونعدله. لقد خرج من ايدينا وصار فى ضمير الزمن..! ولكننا نستطيع ان نجعل اليوم أفضل منه..
وفى محاسبه النفس والتى اعتدنا فيها ان نُقَيِّم الماضى ونستخْلِص منه الخبرة، ونندم على ما صدر عنا فيه، انما نبغى من وراء ذلك ان نجعل الحاضر افضل من الماضى، ومن هنا فإن محاسبه النفس متى كانت ايجابيه، فهى لا تقتصر على الندم، وانما هى مزيج بين الملامه والرجاء.. الملامة على جهلنا وضعفنا وهفواتنا، والرجاء فى تحسين الحاضر.
المهم انك حتى اليوم نفسك حيه.. سليمة، أشرق عليك صباح جديد.. وُهِبت يومًا جديدًا وأملًا جديدًا..
تخيَّل أنك استيقظت في الصباح لتجد الله مثل أب حنون يضع في يدك (مصروف اليوم) ونفقة اليوم، لتستطيع المواصلة، ولكنه هنا بضع ليس بعض الجنيهات وبعض الجنيه! وإنما وحدة زمنية كاملة؛ أربع وعشرين ساعة كاملة، لتحقق فيها ما لم تستطيع أن تُحَقِّقهُ في الأمس، لأن مراحم الرب جديدة في كل صباح.. "إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ." (سفر مراثي إرميا 3: 22، 23). وكأنها إعادة خلق يومية!!
وفي أمثالهم يقول اليهود: "ثلاثة لا يمكن استعادتها: سهم انطلق، كلمة خرجت، وفرصة ضاعَت".
غير أنه من الرائع ان نكون راضيين عن الامس، غير نادمين.. فإن كنا قد اخفقنا، فإن الله يحول النتائج الى خيرنا دائمًا، مهما كانت الاسباب، ومهما كانت الاعراض.
في الأمس أنجزنا خيرًا.. واليوم يتضاعَف الخير..
كما يجب ان لا يفصل الإنسان نفسه عن ماضيه، فإننا نتعلَّم من الماضي؛ بل من الضرورى ان تكون هناك خطوط عريضة تربط بين الماضى والحاضر والمستقبل، مثل الايمان والقومية والمبادئ الإنسانية، فإننا نتحدث هنا عن تنقيه الحاضر والامانه فيه والاستمتاع به.