رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تدبيره الروحي دخل القديس موسى إلى الحياة الرهبانية بقلب خاشع تملأه الراحة ويشيع فيه الفرح، كمن عثر على بئر الحياة ووجد ضالته المنشودة، ومثل ربان تعب كثيرًا قبلما يصل إلى اليابسة.. جاهد موسى بحرارة تضمن له استمرار جذوتها طاعته لأبيه الروحي، وتمسكه بالرجاء الذي لنا في المسيح. ولقد كان من السهل على شخص مثله جديد على هذا النوع من الحياة القاسية أن يتراجع متعللًا بالمشقات الكثيرة التي تصادفه وهو ما يزال غضًا في الطريق النسكي، ولكنه كان مثابرًا..لقد أثار عليه عدو الخير حربًا شعواء بخصوص عفته، وفي ذات ليلة تردد على الأب إيسيذورس إحدى عشر مرة الذي كان يشجعه ويعزيه في كل مرة، فيمضى إلى قلايته ثم لا يلبث أن يعود إلى معلمه باكيًا بسبب ثقل الأفكار (وكان يسكن في ذلك الوقت عند الصخرة المسماة بترا) وفي النهاية أخذه معلمه من يده وأصعده إلى سطح الكنيسة وجعله ينظر جهة الغرب سائلًا إياه عما يرى فرأى شياطين كثيرين بوجوه قبيحة متأهبين للقتال، ثم استدار وجعله ينظر إلى الشرق فرأى ملائكة أكثر منيرين يسبحون الله، وقال له القديس: "إن الذين في الغرب هم أعداؤنا وأما الذين في الشرق فهم معاونونا، أفلا تتشجع!!" ففرح موسى وعاد إلى قلايته مستريحًا(1). عن ذلك سأل بعض الأخوة شيخًا: ”لماذا لما أتى على أنبا موسى قتال الزنى لم يقدر أن يبقى في قلايته حتى ذهب إلى أنبا إيسيذورس الذي لما أراه الملائكة والشياطين تشجع للقتال وعاد إلى قلايته“؟ فأجاب الشيخ: ”كل إنسان يحاربه شيطان الزنى بقدر قياس تدبيره، فالذي يحاربه الزنى زمانًا طويلًا في أفكاره وهو يجاهد ضدّه بالصلاة والنسك ويغلب الأفكار، فإن الشياطين تحاربه علنًا في حواسه ويصوِّرون له بشرًا وحيوانات تفسق أمامه بجميع القبائح، وأحيانًا تحيط به شياطين كثيرة ويغصبونه على أن يميل إلى وجع الزنى، فإذا اشتدّ هذا القتال على المتوحد في الهدوء فعليه أن يصبر، وبعد أن ينتصر في هذا القتال يضيء في ذهنه النور المقدس كما يقول الآباء وينال نعمة الطهارة. فلأن أنبا موسى كان يرى خيالات الشياطين القبيحة، لذلك كشف له أنبا إيسيذورس منظر الملائكة فنال عزاءً وشجاعةً كثيرةً وعاد إلى قلايته بفرح“(2). وكإنسان اختبر ذلك يقول فيما بعد محذّرًا من اليأس: "الذين يريدون أن يقتنوا الصلاح وفيهم خوف الله فإنهم إذا عثروا لا ييأسون بل سرعان ما يقومون من عثرتهم وهم في نشاط واهتمام أكثر بالأعمال الصالحة". ماذا تعني القلاية بالنسبة له؟: لم يكتفِ القديس بالبحث عن مكان هادئ إذ حفر له مغارة في الصخرة، ولكنه أحب سكنى القلاية، رغم صعوبة ذلك عليه وهو الذي اعتاد الحياة الطلقة في الجبال والوهاد.. وأتعجب جدًا من نصيحته لأحد الرهبان الذي ذهب إليه يطلب كلمة منفعة، إذ قال له: [امضِ واجلس في قلايتك والقلاية سوف تعلمك كل شيء..] ولقد درّب الآباء أنفسهم كثيرًا حتى تصبح القلاية بالنسبة للراهب مثل الأم الحنون والمعمل الروحي، وتصبح مع الوقت رغم ضيقها أوسع من الفضاء الخارجي فيحس بالراحة والانطلاق داخلها وليس خارجها.. كما تدرب الآباء على عدم الانسياق للفكر الذي يُملي عليهم الخروج أو الدخول، فإذا ألحّ عليه فكره بالخروج آثر البقاء والعكس صحيح.. ولولا ذلك لأصبح كريشة أو قصبة تحركها الريح. وتعليقًا على ذلك سأل بعض الرهبان أباهم الروحي قائلين: [كيف ينصح القديس موسى تلميذه بأن يجلس في القلاية وهي تعلمه كل شيء، في حين يوصي الشيوخ أن يتردد الراهب على معلمه ليكشف له أفكاره ويسترشد بالروح القدس من خلاله؟]، فأجاب الأب بأن [هذا لا يتعارض مع تعليم الشيوخ، مثلما كان القديس مكاريوس ينصح الراهب المبتدئ أن يتبع تدبيره الروحي العادي في الأيام الأولى لسكناه في القلاية لفترة حتى يتأقلم مع القلاية ويختار له نظامًا يناسبه]. هو نفسه يقول عن الحياة في سكون [الذي يهرب ويحيا في الوحدة يشبه عنقود عنب ناضج بواسطة الشمس (يقصد التجارب التي تمحّص) وأمّا الذي يمكث بين الناس وأحاديثهم فهو يشبه عنبًا غير ناضج]. وكان يساعد الرهبان الجدد اختبار ذلك، فعندما كان أحد الأخوة في الإسقيط ذاهبًا إلى الحصاد مضى إلى الأنبا موسى الأسود وقال له: يا أبى: قل لي ماذا أعمل، هل أذهب إلى الحصاد؟ أجاب الأخ: نعم: سأنصت إليك، وإذا أجبتك، هل تقتنع بقولي؟ أجاب الأخ: نعم: سأنصت إليك. قال الشيخ: إذا كان الأمر كذلك فقم وحرر نفسك من الذهاب إلى الحصاد وهلم أخبر بما تفعله حينئذ رحل الأخ وحصل على حل من إخوته وأصاحبه كما أخبره الشيخ. ثم جاء إليه. فقال الشيخ: "أمضى إلى قلايتك. واحفظ نعمة الروح التي فيك وكل الخبر الجاف والملح مرة واحدة في اليوم، وبعد أن تفعل هذا سوف أخبرك عن أمر آخر تؤديه بعد ذلك" فمضى لأخ وعمل حسب ما أوصاه الشيخ وعاد إليه مرة أخرى، ولما رأى الشيخ انه كان يقول بعمل اليدين أطلعة عل الطريقة المثلى للحياة في القلاية،وذهب لأخ إلى قلايته وسقط على وجهه إلى الأرض وظل يبكى أمام الرب ثلاثة أيام كاملة بلياليها. وحدث بعد هذه الأمور عندما كانت أفكاره تحدثه قائله:"لقد صرت رجلًا مغبوطًا عظيمًا كان يقاطعها واضعًا أمام عينيه عيوبه ونقائصه السابقة ويقول: "وهذه كلها خطاياك. ومره أخرى عندما اعتادت أفكاره أن تقول: "لقد أديت أعمالًا كثيرة بتراخ"، كان يقول أيضًا: "ومع ذلك أؤدي أعمالًا قليلة جدًا لله وهو الذي يسبغ على رحمته". وعندما كان يتغلب على الأرواح بطرق كثيرة هكذا كانت تظهر له في هيئة مخلوقات جسمانية قائلة له: "لقد قهرتنا" فكان يقول: "لماذا؟" فيجيبونه "إذا وضعناك، فنحن نرتفع بواسطتك إلى مكانة عظمى، وإذا رفعناك فنحنن نتضع إليك". ومع ذلك فإنه كان مضيافًا من النوع المثالي.. فبينما كان القديس أرسانيوس محبًا للصمت والخلوة كان موسى محبًا للإخوة والغرباء مع حرصه في الكلام وعدم إدانته، كان كل من القديسين أرسانيوس وموسى عمودين هامين في الإسقيط وكانا يمثلان كِلا المنهجين الموجودين الآن في أكثر أديرة الرهبان، أي أن هناك من يتصل بالزائرين ويقوم على راحتهم، باعتبار ذلك عمله.. مثلما هناك من لا يفارق قلايته إلا قليلًا. ويروى بلاديوس هذه القصة عنهما فيقول: [أراد أحد الضيوف الغرباء أن يرى القديس أرسانيوس فلمّا جاء إلى الكنيسة طلب من الآباء المسئولين أن يمكّنوه من ذلك، فلمّا أرادوا أن يقدموا له طعامًا أولًا رفض ألاّ يتناول أي طعام قبل أن يرى القديس، ومن ثمّ أرسلوا معه من يدله إلى القلاية لأنها كانت بعيدة جدًا، فلما دخل سلم عليه وصليا وجلس الجميع صامتين، فلما همّ الأخ المرشد بالانصراف ظانًا أنه بذلك يترك الفرصة للضيف في الاسترشاد، طلب الضيف أن ينصرف معه إذ لم يجد دالة له عند الأب أرسانيوس، وفي الطريق طلب إليه أن يمضي به عند الأب موسى الذي كان أولًا لصًا وهناك رحب به القديس وأكرمه وعزّاه. فقال الأخ للضيف: ها قد أريتك المصري واليوناني فأيهما أرضاك؟ فأجاب وقال: أما أنا فإني أقول إن المصري أرضاني. ولما سمع أحد الرهبان ذلك صلى إلى الله قائلًا: يا رب اكشف لي هذا الأمر، فإن قومًا يهربون من الناس لأجل اسمك وقومًا يقبلونهم من أجل اسمك أيضًا، وألحّ في الصلاة والطلبة حتى تراءت له سفينتان عظيمتان تسيران في لجة البحر، ورأى في إحداهما أنبا أرسانيوس وهو يسير سيرًا هادئًا وروح الله معه، ورأى في الأخرى أنبا موسى وملائكة الله معه يطعمونه شهد العسل]. وفي مخطوط تفسير الباراديسوس (شرح بستان الرهبان) ورد: سأل بعض الإخوة: لماذا أرسانيوس كان يختار ويحب الهدوء، وما يحب قبول من يأتي إليه، وأنبا موسى مع محبة الهدوء يحب البشر وينيحهم ولماذا تراءى الله لأرسانيوس في المركب، والملائكة تراءت مع أنبا موسى يمشون في مركب آخر يطعمونه شهدًا. قال الشيخ: أنبا أرسانيوس كان قد خرج خبره لأجل شرف جنسه فإذا أفسح للناس زيارته لما كان يتم له شيء من أمر الهدوء، وأنبا موسى كان لصًا صنع بالناس شرورًا كثيرة فرأى أن بمحبة الغرباء يرضى الله لأجل أنه كان يضيق عليهم فأراد أن ينيحهم في زمان توبته، وأما روح الله فيظهر للمتوحدين الكاملين ومن يستحق ذلك بأشكال مختلفة. ولكن القديس موسى يفرق بين إكرام الغرباء ومحبة الناس من جهة، وعدم الدالة من جهة أخرى، وهو يظهر في جميع المواقف كيف يميز بين هذه وتلك، أليس هو الذي طلب من القديس مقاريوس أن يدبره بخصوص محبته لحياة السكون والصلاة الدائمة؟ قال له: إن الإخوة لا يدعونني أفعل ذلك (يقصد ترددهم عليه بكثرة) فأجابه القديس: أرى أنك إنسان مرهف ولا تستطيع أن ترفض من يأتي لزيارتك، فإذا أردت أن تحيا في سلام فاذهب إلى البرية الداخلية عند الموضع المسمّى "بترا". محاسبته لنفسه: لقد جعل موسى شغله الشاغل هو التفكير في خطاياه، ليس كمن هو أسير صغر النفس أو اليأس، وإنما ليدرك على الدوام مقدار محبة الله وطول أناته عليه، وليتعجب كثيرًا كيف كانت حياته السابقة هكذا سوداء وكيف رحمه الله. ولذلك يؤكد كثيرًا على أهمية محاسبة النفس، قال من واقع خبرته الشخصية يحذر من اليأس: + اختبر نفسك كل يوم وتأمل في أي المحاربات انتصرت ولا تثق بنفسك بل قل: "الرحمة والعون هما من الله"، لا تظن في نفسك أنك أجدت شيئا من الصلاح إلى آخر نسمة من حياتك. + لا تستكبر وتقول "طوباي" لأنك لا يمكنك أن تطمئن من جهة أعدائك. + لا تثق بنفسك ما دمت في الجسد حتى تعبر عنك سلاطين الظلمة. + الذي يعتقد في نفسه انه بلا عيب فقد حوى في ذاته سائر العيوب. + إن لم يضع الإنسان نفسه في مركز خاطئ، فلم تسمع صلاته أمام الرب. وعن طعامه هو شخصيًا: قلنا أنه تدرّب على الإقلال من الطعام، حتى صار أكله زهيدًا وحين سأله زكريا تلميذه عن ذلك قائلًا له: "أخبرني يا أبي عن حياة الزهد التي مارستها في شبابك، لكي أمارسها أنا أيضًا؟" فأجابه القديس: "كنت أتناول خبزة واحدة عند المساء، وإذا صُمتُ يومين متتاليين فإنني كنت أتناول خبزتين". ففعل تلميذه هكذا أيضًا. ولما هاجمته أفكار الزنا، انطلق إلى البرية الجوانية صائمًا لمدة اثنان وأربعين يومًا، دون خبز أو ماء، ودون نوم أو جلوس، ملتمسًا من الرب بدموع أن يخلصه من هذه الحرب حتى حرّره منها فاستراح من قتالها. وهكذا يربط الآباء بين الراحة الجسدية الزائدة (بما فيها النوم والأكل) وحروب الشهوة. ولما اشتهى ذات يوم أن يأكل سمكًا أو لحمًا فإنه اصطاد ثعبانًا وشواه ووضعه على مائدته، فلما أتاه زائرون وهمّوا بتناول الطعام هتف فيهم ألا يأكلوا من الموضوع على المائدة لأنه (وحش مميت) وفهم الآباء لماذا صنع هكذا، مثلما صنع الأنبا ابرآم أسقف الفيوم حين اشتهى أن يأكل حمامًا فأمر خادمه بأن يعد له ذلك، غير أنه تركه أمامه على المائدة لعدة أيام دون أن يقربه حتى أنتن. رسامته قسًا: وقد شهد القس إيسوزورس لابنه وتلميذه موسى، كما رشحه الآباء بالإجماع كاهنًا مساعدًا له، وكان موسى قد سيم شماسًا مساعدًا للقس ايسيذورس (بعد نياحة الشماس بيشوي الذي كان من القسطنطينية والذي كتب سيرة القديس أرسانيوس). وكانت رسامة موسى في عهد البابا ثيؤفيلس (البطريرك الثالث والعشرون) والذي كان يحب البرية كثيرًا ويزورها سنويًا ليتتلمذ على الآباء هناك. وقيل أنه لمّا بدأ الأب البطريرك يضع عليه يده للرسامة، سمع الحاضرين صوتًا من أعلى قائلًا: أكسيوس. أكسيوس. أكسيوس. (أي مستحق. مستحق. مستحق). وبعد رسامته ألبسوه الثياب البيضاء، فقال له الأب البطريرك: هوذا قد صرت كلك أبيضًا يا موسى، فرد عليه موسى مداعبًا أيضًا: من الخارج أم من الداخل يا أبانا؟ وأراد أن يختبره أيضًا بلطف -وكأنه يلقي بالبخور في النار لتفوح وتشيع رائحته- فأوعز الأب البطريرك للرهبان أن يطردوه من الهيكل عند دخوله ليختبر احتماله.. فلما جاء انتهروه قائلين: اخرج يا حبشي، فما كان منه إلاّ أن لامَ نفسه قائلًا: حسنًا صنعوا بك يا أسود اللون.. ما أنت بإنسان فكيف تحشر نفسك بين الناس؟ _____ الحواشي والمراجع: (1) فقال لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم (ملوك ثان 6: 16). (2) فردوس الآباء- راهب من برية شيهيت. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
سُمي موسى بالأسود لسواد بشرته |
القديس موسى الأسود المدبر الروحي |
القديس موسى بالأسود وحروب الشياطين |
بداياته في الرهبنة موسى بالأسود |
لقطات من حياه موسى بالأسود الأولى |