موضع الجمجمة
شرح الإنجيل كيف أتوا بالسيد المسيح "إلى موضع يقال له جلجثة، وهو المسمى موضع الجمجمة" (مت27: 33). وموضع الجمجمة يقال له بالعبرانية "جلجثة" (انظر يو19: 17).
يقول التقليد إن جمجمة آدم كانت مدفونة تحت موضع صلب السيد المسيح مباشرة. وحينما تشققت الصخور سال دم السيد المسيح ووصل حتى جمجمة آدم، ليغسله من خطية العصيان الأولى بدمه الذكي.
وهذا يشرح سبب تسمية ذلك المكان موضع الجمجمة..
ولكن الاسم له دلالته الساطعة على أن السيد المسيح قد صُلب في موضع الموت. وكثير من الناس يستخدمون صورة الجمجمة وعظمتين متعارضتين، للدلالة على الموت بأجلى معانيه.
لقد صلب السيد المسيح في أرض الأموات، وتحقق فيه قول المزمور "حسبت مثل المنحدرين إلى الجب. صرتُ كرجل لا قوة له. بين الأموات فراشي، مثل القتلى المضطجعين في القبر، الذين لا تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا" (مز88: 4، 5).
لم يكن مصادفة أن يُصلب السيد المسيح، وأن يموت في موضع الجمجمة. لأنه جاء خصيصًا لينقل البشرية من الموت إلى الحياة "لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1كو15: 22). "ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح" (أف2: 5). ويخاطب معلمنا بولس الرسول أهل كولوسي بقوله: "إذ كنتم أمواتًا في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه، مسامحًا لكم بجميع الخطايا" (كو2: 13).
الصليب وهو من خشب الشجر، كان كشجرة حياة غُرست في أرض الموت. كقول إشعياء النبي: "نبت قدامه كفرخ، وكعرق من أرض يابسة" (إش53: 2).
لقد صُلب السيد المسيح في وادي الموت.. خارجًا عن أورشليم.. في منطقة المقابر التي لا يعيش فيها أحد من الأحياء.
"ومع غنى عند موته" (إش53: 8، 9)
عن هذا تنبأ إشعياء النبي فقال: "وفى جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء. أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره، ومع غنى عند موته" (إش53: 8، 9).
وعبارة "جُعل مع الأشرار قبره، ومع غنى عند موته"، وإن كانت تشير إلى صلب السيد المسيح مع لصين مذنبين، وإعداد مقابر الأشرار لدفنه معهم، كما تشير إلى أنه لم يُدفن في مقبرة الأشرار ولكن في مقبرة يوسف الرامي الذي طلب جسد يسوع بعد موته على الصليب من بيلاطس الوالي؛ إلا أن هذه العبارة أيضًا تشير إلى أن السيد المسيح قد حُسب مع الخطاة، وهو يسير في طريق الموت حاملًا خطايا العالم. لكنه لم يُحسب معهم حينما سلّم روحه الطاهرة في يديّ الآب عند موته على الصليب (انظر لو23: 46)، لأنه كان بارًا وبلا خطية وحده.
ولذلك فعبارة: "مع غنى عند موته"تشير إلى أن الابن الوحيد المتجسد قد سلّم روحه الطاهرة في يديّ الآب الغنى، الذي منح الحياة للبشرية بعد أن صالح العالم لنفسه في المسيح (انظر 2كو5: 19).
وأمكن بهذا أن يفتح باب الفردوس، ويذهب منتصرًا إلى الجحيم قاهرًا الشيطان، وأن يُخرج الذين في بيت السجن، أي يُخرج آدم وبنيه الذين رقدوا على رجاء الخلاص، ويحضرهم معه إلى الفردوس.
أما أن الفردوس قد فُتح في ذلك اليوم، فهو واضح من قول السيد المسيح للص اليمين: "الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 43).
وعن ذهاب السيد المسيح بروحه الإنسانى المتحد باللاهوت إلى الجحيم، فواضح من قول الكتاب "أجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم. لتفتح عيون العمى. لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (إش42: 6، 7). وأيضًا قول معلمنا بطرس الرسول عن موت السيد المسيح على الصليب: "مماتًا في الجسد، ولكن محيىً في الروح. الذي فيه أيضًا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن" (1بط3: 18، 19).
ولهذا نصلى في القداس الإلهي (نزل إلى الجحيم من قِبَل الصليب( (القداس الباسيلي).
وقد أشرق نور السيد المسيح على الجالسين في ظلمة الجحيم كقول الكتاب "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت، أشرق عليهم نور" (إش9: 2).
لقد أشرق السيد المسيح بنوره على السالكين في ظلمة الخطية في حياتهم، وقادهم إلى التوبة بنور معرفته، كما أشرق على الذين رقدوا على الرجاء وكانت أرواحهم سالكة في ظلال الموت على مدى الأجيال، ثم نقلهم إلى أنوار الفردوس المتلألئة.
لهذا كتب معلمنا يوحنا الإنجيلي عن مجيء السيد المسيح في الجسد: "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم" (يو1: 9).
من أجل الجالسين في أرض ظلال الموت جميعًا، صُلب السيد المسيح في موضع الجمجمة،لأن هناك يتحقق قصده المبارك في مجيئه إلى العالم: أن يموت عوضًا عن الخطاة لينقلهم من الموت إلى الحياة..