رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون أكمل السيد المسيح تعليمه فقال: "لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟" (مت6: 25، 26). عناية الله بنا أبرز السيد المسيح هنا حقيقة قوية وهى أن الله هو الذي وهب الإنسان الحياة، وهو الذي خلق له جسده بكل ما فيه من تفاصيل دقيقة في منتهى الإتقان والإبداع مثل تكوين العين والعصب البصري ومركز الإبصار في المخ والتي تمكن الإنسان من رؤية الأشياء المتحركة والمجسمة بألوانها البديعة، ويقوم بتسجيل كل ذلك في المخ مثل شريط الفيديو. ولا توجد كاميرا فيديو في كل العالم تستطيع أن تلتقط الصورة المتحركة بنفس الوضوح والدقة التي تعمل بها العين. وهكذا باقي أعضاء جسد الإنسان. فإذا كان الله هو الذي خلق هذا الجسد بكل ما فيه من إتقان وإبداع ليناسب طبيعة حياة الإنسان، فلماذا يحمل الإنسان هم الحصول على الملابس التي تكسو هذا الجسد؟ ومن هنا جاءت الحكمة التي أبرزها السيد المسيح: أليس الجسد أفضل من اللباس؟ إن الملابس يستطيع الإنسان أن يصنعها لنفسه، ولكنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه جسدًا فيه كل خصائص الحياة. هكذا أيضًا يستطيع الإنسان أن يدبّر لنفسه طعامًا ولكنه لا يستطيع أن يمنح الحياة لجسد ليس به حياة. أو أن يخلق الحياة. لذلك جاءت الحكمة الخالدة "أليست الحياة أفضل من الطعام؟" (مت6: 25) أي أن الحياة هي الأهم وهى الأصعب في الحصول عليها. أما الطعام فهو متوفر ومتاح، وإن كان الله هو أيضًا الذي خلقه من أجل الإنسان حينما خلق الزروع والأشجار والأسماك والطيور والحيوانات بأنواعها. من الممكن إذا صام الإنسان عن الأكل لفترة من الزمن أن يستمر حيًا. ولكنه إذا فقد الحياة نفسها فماذا يفعل؟ وعبارة الحياة لها معاني كثيرة: فهناك حياة الجسد وهناك حياة الروح. فبدون الروح لا يحيا الإنسان، وبدون الله لا تحيا الروح. وقد قال السيد المسيح: "أنا هو القيامة والحياة" (يو11: 25). وقال معلمنا بولس الرسول: "لي الحياة هي المسيح" (فى1: 21). كما قال عن الله: "هو يعطى الجميع حياة ونفسًا وكل شيء.. لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 25، 28). لقد وهب الله موسى وإيليا القدرة أن يصوما أربعين يومًا عن الطعام مثلما صام هو أيضًا أربعين يومًا على الجبل وقال للشيطان: "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4). بمعنى أن كلام الله هو مصدر حياة للإنسان، أما الخبز فإنه يساعد الجسد على بذل الطاقة والاستمرار في حفظ تكوينه سليمًا. فالذي يقوت جسده ويهمل احتياج روحه للغذاء الروحاني فإنه سوف يخسر الجسد والروح كليهما في الهلاك الأبدي. حقًا إن الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس: فإن كان الله قد منحنا الأفضل والأصعب فكيف لا يمنحنا الأقل والأسهل؟! المسألة إذن تحتاج إلى حكمة وإلى إيمان. التأمل في الطبيعة إن السيد المسيح يدعونا إلى التأمل في الأشياء الموجودة في الطبيعة مثل طيور السماء وغيرها من المخلوقات. إن الله قد دبّر لكل الخليقة التي على الأرض وسائل إطعامها وحفظها. حتى ولو كانت خليقة غير عاقلة، تحيا فقط بالغريزة. كل نوع من الطيور أو الحيوانات يجد ما يناسبه من الطعام، ولديه من الطباع الغريزية ما يؤهله للحصول على ما يحتاج إليه. واتخذ السيد المسيح الطيور مثالًا ننظر إليه ونتأمل فيه فقال إن الطيور "لا تزرع، ولا تحصد، ولا تجمع إلى مخازن" (مت6: 26) والله يعتني بها ويعطيها طعامها اللازم لحفظها حية. وقال السيد المسيح: "ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟" (مت6: 26) لماذا يهتم الإنسان ويدخل في صراعات رهيبة من أجل لقمة العيش ولسبب القلق على المستقبل؟! إن كان الإنسان له من الأهمية عند الله ما يفوق الطيور بكثير -بدليل أن الله قد أرسل ابنه الوحيد متجسدًا لأجل خلاص الإنسان- فلماذا يقلق الإنسان؟ ولماذا تهتز ثقته في عناية الله به؟ إنه اختبار جميل جدًا أن يشعر الإنسان بعناية الله به. مثلما كان يعتني بالقديس الأنبا بولا السائح في البرية ويرسل له الخبز في منقار أحد الغربان تمامًا كما حدث مع القديس إيليا النبي الذي أمر الرب أحد الغربان ليعوله وهو ساكن بجوار النهر أثناء المجاعة. إن الإنسان الذي ينسى نفسه؛ لا ينساه الله. والإنسان الذي لا يهتم بطعامه ولباسه؛ فإن الله يرسلهما إليه حتى ولو لم يطلب. فعلى الإنسان أن يختار أحد سبيلين: إما أن يحمل هم نفسه ويصارع من أجل لوازم حياته الأرضية، أو أن يثق في عناية الله به دون أن يتكاسل عن العمل بل يجتهد ويعمل حسب الوصية، ولكن لا يحمل همًا بل يختبر محبة الله وعنايته المتجددة في كل يوم بل وفي كل خطوة من حياته،لذلك قال الكتاب "أما البار فبالإيمان يحيا وإن ارتد لا تسر به نفسي" (عب10: 38).. ملقين كل همكم عليه أكمل السيد المسيح تعليمه بشأن الاتكال على الآب السماوي الذي يدبر كل شئون حياة أولاده لكي لا يحملوا هموم هذا العالم مثلما قال الرسول: "ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم" (1 بط5: 7). فقال السيد المسيح: "ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة؟ ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدًا في التنور، يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جدًا يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟" (مت6: 27-30). يتضح من هذا التعليم أن حمل الهموم هو من قلة الإيمان. فالذي يؤمن إيمانًا حقيقيًا بعناية الرب به لا يحمل همًا على الإطلاق، عالمًا أن "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو8: 28). ويتضح أيضًا أن السيد المسيح يريد أن يحرر الإنسان من الرغبة في اكتناز الأمور الدنيوية خوفًا من المستقبل المجهول، لأن الله يعتني بكل الخليقة، ويستطيع الإنسان أن يرى أمثلة واضحة لعناية الله في المخلوقات المحيطة به مثل زنابق الحقل التي تنمو بقدرة إلهية وتكتسي بأروع الألوان حتى أن سليمان في كل مجده لم يلبس في مثل جمال ما تكتسي هي به. وهذه الزنابق قد خلقها الله لأجل الإنسان ليتمتع بجمالها وليأخذ منها درسًا عن عناية الله وقدرته "مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رو1: 20). لذلك أكمل السيد المسيح كلامه فقال: "لا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم. فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفى اليوم شره" (مت6: 31-34). أراد السيد المسيح أن يميّز بين أولاد الله وأولاد العالم. فقال إن الأمم (أي في ذلك الحين الوثنيين) يطلبون من آلهتهم الأمور المادية باستمرار. وعلاقتهم بهذه الآلهة تقوم أساسًا على اهتمامهم بأجسادهم وأمورهم الدنيوية. أما أولاد الله فينبغي أن يطلبوا حياة القداسة التي تليق بهم كمخلوقين على صورة الله ومثاله. وأن يطلبوا أن يملك الله على حياتهم وقلوبهم وبهذا يتحقق ملكوت الله في داخلهم. إن الأمور الدنيوية الزائلة هي متاحة للجميع. لأن الله يشرق على الأبرار والأشرار بشمس النهار. ولكن الأمور الخاصة بملكوت الله لا تمنح إلا للأبرار الذين يطلبون من الله. ما يتناسب وعظمته الإلهية إن من يذهب إلى مطعم فاخر ليطلب طعامًا لدابته؛ يهين هذا المطعم. كذلك من يذهب إلى الله ليطلب أمور العالم الفانية؛ لا يدرك قيمة الوجود في حضرة الله حيث ينبغي أن يطلب الأمور غير الفانية الباقية إلى الأبد. أما الأمور الفانية فإن الآب السماوي يعلم احتياجنا لها وسوف يمنحنا إياها تلقائيًا ضمن عنايته بنا حتى دون أن نطلب أو نسأل. لهذا قال السيد المسيح: "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم" (مت6: 33). |
|