المسيح في إخفائه لاهوته
قد يخفى القديسون فضائلهم الروحية، بدافع الاتضاع، ولكن قدوس القديسين أخفى لاهوته في مناسبات كثيرة. ولكن بالطريقة التي لا تتعارض مع الإيمان به، باعتباره المخلّص الحقيقي القادر على هزيمة الموت..
إثبات السيد المسيح لألوهيته لم يحدث إطلاقًا بدافع الافتخار بالنفس، أو حب الظهور، أو طلب المجد من الآخرين. بل سمح به الرب لإتمام رسالة الفداء والخلاص وغفران الخطايا وتأسيس الكنيسة المقدسة.
وقد احتارت الشياطين في أمر السيد المسيح؛ الذي كان يخفى لاهوته عن الشيطان.. ولم يكن الشيطان قادرًا أن يفهم معنى التواضع وإخلاء الذات. وبالاتضاع هزم السيد المسيح إبليس بكل فطنة وحكمة روحية كقول معلمنا بولس الرسول: "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة" (أف1: 7، 8).
تعالوا بنا لنرى كيف كان السيد المسيح يخفى لاهوته في مواضع كثيرة:
1- في إخراجه للشياطين
يذكر إنجيل معلمنا مرقس الوقائع التالية:
بعد أن "انصرف يسوع مع تلاميذه إلى البحر، وتبعه جمع كثير من الجليل، ومن اليهودية، ومن أورشليم، ومن أدومية، ومن عبر الأردن، والذين حول صور وصيداء، جمع كثير إذ سمعوا كم صنع (من المعجزات والأعمال الممتلئة حبًا) أتوا إليه.. لأنه كان قد شفى كثيرين، حتى وقع عليه ليلمسه كل من فيه داء. والأرواح النجسة حينما نظرته خرّت له وصرخت قائلة إنك أنت ابن الله. وأوصاهم كثيرًا أن لا يظهروه" (مر3: 7-12).
لم يكن السيد المسيح يرغب في الإعلان عن نفسه بهذه الطريقة، كما إنه لا يقبل شهادة إبليس عنه وعن بنوته للآب السماوي. وقد حيّر السيد المسيح الشياطين برفضه لشهادتهم عن بنوته لله.. لأن الشيطان لا يفهم الاتضاع.
كان الشيطان يتخبط في معرفته عن السيد المسيح. فتارة يقول له: "إن كنت ابن الله" (لو4: 3). وتارة يقول: "إنك أنت ابن الله" (مر3: 11).
عبارة "أوصاهم كثيرًا أن لا يظهروه" تؤكد كيف حاول السيد المسيح أن يخفى لاهوته، كما أنه في مناسبات كثيرة كان يتعمد إثبات حقيقة إنسانيته وتجسده.
ويذكر إنجيل معلمنا لوقا الأمور التالية:
حينما ذهب السيد المسيح إلى كفر ناحوم "وكان في المجمع رجل به روح شيطان نجس، فصرخ بصوت عظيم قائلًا: آه مالنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله. فانتهره يسوع قائلًا اخرس واخرج منه. فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يضره شيئًا" (لو4: 33-35).
ويلاحظ هنا أيضًا أن السيد المسيح قد انتهر الشيطان الذي قال "أنت قدوس الله" لأنه لا يقبل شهادة الشيطان عنه كما أنه لا يريد أن ينتشر هذا القول بين الناس في وقت مبكر قبل قيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات.
أما اعتراف التلاميذ "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16). فقد طوّبه السيد المسيح لأنه هو أساس الإيمان في الكنيسة. ولكن هذا الاعتراف كان بعيدًا عن أسماع الجماهير، تمامًا مثلما حدث مع المولود أعمى الذي آمن بأن المسيح هو ابن الله وسجد له.
كان السيد المسيح يقتاد الناس إلى الإيمان بألوهيته في الوقت المناسب، حينما تكون أعين قلوبهم مفتوحة بالقدر الكافي، ومهيأة لمعرفة أسراره المقدسة "أظهر له ذاتي" (يو14: 21).
بعد الواقعة السابقة يذكر إنجيل معلمنا لوقا أن السيد المسيح "لما قام من المجمع..كانت الشياطين أيضًا تخرج من كثيرين وهى تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح" (لو4: 38، 41) شعرت الشياطين بقوة السيد المسيح وسلطانه عليهم، فعرفوا إنه هو المسيح ابن الله. لأنه لم يحدث قط أن أخرج أحد الأنبياء شيطانًا في العهد القديم. ولهذا دهش الجميع وكانوا يخاطبون بعضهم بعضًا قائلين: ما هو هذا التعليم الجديد فإنه بسلطان وقوة يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه وتخرج؟ (انظر لو4: 36)،ولكن حينما كان السيد المسيح يسلك بمقتضى إنسانيته، فيتعب ويتألم ويحزن -كان الشيطان يعود فيشك في ألوهيته ويتجاسر عليه، حتى تمم السيد المسيح الفداء على الصليب..
2- في حديثه مع تلاميذه
حينما سأل السيد المسيح تلاميذه عما يقوله الناس عنه، ثم عن رأيهم هم فيه قالوا: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16)، "حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح" (مت16: 20) وذلك بعد أن أوضح أن الاعتراف بألوهيته قد جاءهم نتيجة إعلان الآب السماوي لهم. وهنا نرى كيف منع السيد المسيح تلاميذه من أن يكشفوا حقيقة لاهوته للناس، وذلك إلى أن يقوم من الأموات. ولذلك يكمل معلمنا متى الإنجيلي قوله السابق ويقول:
"من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم" (مت16: 21). كان من المناسب إخفاء ألوهية السيد المسيح حتى تتأكد بقيامته من الأموات منتصرًا على الموت من أجل خلاص البشرية.