الهروب إلى مصر
كما رأى المجوس الذين جاءوا من المشرق السيد المسيح وقدموا له العبادة والقرابين والسجود، هكذا ذهب السيد المسيح بنفسه إلى أرض مصر حيث عاش سنوات ارتجفت فيها أوثان مصر، ومن المصريين من قدَّم له الضيافة والعبادة والسجود. وتم تهيئة المجال لينتشر الإيمان بالمسيح فيما بعد بكرازة مار مرقس. ولكن السيد المسيح قد وضع بنفسه أساسات الكنيسة العتيدة في مصر.
كانت السحابة السريعة هي مريم العذراء القديسة والدة الإله التي سبق أن قيل عنها بعد البشارة بميلاد المخلص "فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات" (لو1: 39، 40).
كانت العذراء مريم دائمًا سريعة في استجابتها لقيادة الروح القدس. وكانت هي المركبة المطوبة جدًا أكثر من الشاروبيم والسرافيم.
لقد اختار السيد المسيح مصر ليحضر إليها بنفسه وليراه المصريون بأعينهم.. هناك حيث كان معقل العبادة الوثنية العريقة العاتية. وكان ذلك كله ليهز مملكة الشيطان ويمهد الطريق لانتشار المسيحية حتى تغنى إشعياء النبي وقال "مبارك شعبي مصر وعمل يدي أشور وميراثي إسرائيل" (إش19: 25).
الرب في مصر
جاء السيد المسيح إلى أرض مصر تحقيقًا للنبوات. فقد تم بذلك قول الكتاب "من مصر دعوت ابني" (هو11: 1، مت2: 15). وكذلك نبوءة إشعياء النبي "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه" (إش19: 1).
وقد أكّد القديس متى الإنجيلي أن النبوة التي وردت في سفر هوشع (11: 1) قد تحققت بمجيء السيد المسيح إلى مصر إذ قال إن "ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر. وكان هناك إلى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: من مصر دعوت ابني" (مت2: 13-15).
إن مجيء الرب يسوع المسيح إلى مصر قد هز العبادة الوثنية الجبارة التي عاشت في مصر آلافًا من السنين، ولم يكن من السهل إطلاقًا اقتلاعها من حياة المصريين. كانت الحضارة المصرية عميقة جدًا في جذورها وتعانقت هذه الحضارة مع عبادة ذات فلسفة قوية تداخلت معها الفلسفة الهللينية، بداية من عصر الإسكندر الأكبر وفي عصور البطالمة، وكذلك الفلسفة الرومانية في العصر الروماني. وتكوّنت بذلك مجموعات عجيبة من الآلهة المصرية واليونانية والرومانية جعلت من أرض مصر مرتعًا للعبادة الوثنية في أقوى معانيها. وهكذا ارتجفت أوثان مصر من وجه الرب لأن "كل آلهة الأمم شياطين" (مز95: 5).
مذبح للرب في مصر
من بعد إقامة الهيكل في أورشليم لم يكن مُصَرّحًا حسب شريعة العهد القديم بتقديم ذبائح خارج الهيكل. فالعبادة التي أمر بها الرب موسى في خيمة الاجتماع الراحلة في البرية قد استقرت في وضعها الثابت حينما بُني الهيكل ووُضع فيه تابوت العهد وباقي محتويات خيمة الاجتماع. والعجيب أن إشعياء النبي قد تنبأ عن مذبح للرب في وسط أرض مصر في وقت لم يكن مسموحًا لبنى إسرائيل أن يقيموا مذبحًا مثل ذلك خارج أورشليم. ومازال اليهود يقرأون سفر إشعياء النبي إلى يومنا هذا ويعترفون به كأحد أسفار الكتاب المقدس الموحى بها من الله، ولكن للأسف لا يفهمون معنى هذه النبوة التي صارت حقيقة في العهد الجديد بعد إتمام الفداء في أورشليم وانتشار المسيحية في أرجاء المسكونة ووصول المسيحية إلى مصر.
وقد اكتُشِفَت نسختان كاملتان من سفر إشعياء في حفريات البحر الميت بوادي قمران داخل أواني من الفخار، ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وهذه المخطوطات موجودة حاليًا في الجامعة العبرية عند اليهود ووجدت مطابقة للنص العبري المتداول لسفر إشعياء.
والآن لنتابع ما ورد في هذه النبوة العجيبة الواردة في سفر إشعياء:
"وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها.. في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود، يُقال لإحداها مدينة الشمس (هليوبوليس)، في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تخمها. فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر.. فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به" (إش19: 1، 18-21).
والعجيب في نبوة إشعياء أنه لم يقل إن المصريين يقدمون ذبائح للرب عندما يعرفونه بل "يقدمون ذبيحة وتقدمة" وذلك لأن المسيحيين في العهد الجديد لا يقدمون ذبائح عديدة ومتكررة مثلما كان يحدث مع شعب إسرائيل في العهد القديم، بل يقدمون ذبيحة وصعيدة أي تقدمة واحدة هي ذبيحة الشكر في القداس الإلهي التي هي نفسها ذبيحة صليب ربنا يسوع المسيح بجسده ودمه الأقدسين. وذبيحة الشكر (الإفخارستيا) هذه هي ليست تكرارًا لذبيحة الصليب، بل امتدادًا أو استعلانًا لها في سر الشكر تحت أعراض الخبز والخمر. لذلك دُعي السيد المسيح رئيس كهنة على طقس (نظام) ملكي صادق الذي قدّم قربانًا من الخبز والخمر عندما بارك إبراهيم (انظر تك14: 18-20).
بالنسبة لليهود يجب أن يسألوا أنفسهم السؤال التالي: كيف يمكن أن يوجد مذبح للرب في وسط أرض مصر؟ وكيف تقدم عليه ذبيحة وتقدمة؟
إن اليهود قد مضى عليهم قرابة ألفى عام منذ هدم الهيكل في أورشليم وهم لا يقدمون ذبائح على الإطلاق. بينما تقدم ذبيحة الخلاص الحقيقية في مصر وفي كل مكان انتشرت فيه المسيحية والإيمان المسيحي المستقيم.
ألا يدعو هذا الأمر اليهود إلى مراجعة النفس وكيف هُدم الهيكل حسب قول السيد المسيح لهم "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (لو13: 35)؟ وكيف صارت الذبيحة تقدم في مصر حسب نبوة الكتاب. بل كيف وصل الأمر أن يقول الرب في نفس الموضع من السفر "بها يبارك رب الجنود قائلًا: مبارك شعبي مصر" (إش19: 25). فلماذا يحاول اليهود بناء الهيكل القديم؟
إن اليهود يعتقدون أنهم هم شعب الله. أفلا يسألون أنفسهم عن معنى هذه العبارة "شعبي مصر"؟ كيف صار في مصر شعب لله يفرح به قلبه ويبارك به؟ مصر التي كانت ترزح تحت نير الوثنية الرهيبة كيف صارت محبوبة ويُعرف الرب فيها "ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به" (إش19: 21).
أما عن عبارة "وسط أرض مصر" الواردة في النبوة فهي تشير إلى انتشار المسيحية في مصر كلها، كما أنها تشير إلى مذبح كنيسة العذراء الأثرية بالدير المحرق حيث جلس السيد المسيح ووعد أمه العذراء مريم بأن يصير هذا الحجر الكبير مذبحًا له على اسمها، وكنيسة مباركة.
كذلك فقد أوردت النبوة عبارة "عمود للرب عند تخمها". وهذا العمود هو عمود مار مرقس الرسول عند تخوم مصر الشمالية في الإسكندرية. العمود الحقيقي الذي بدأ مع مار مرقس واستمر إلى يومنا هذا عبورًا بالقديس أثناسيوس الرسول والقديس كيرلس عامود الدين.