إن الخليقة جميلة، وهي علاقة حب الله وحكمته وقوته، فالنبي يقول "ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنعت" (مز104: 24).
والآن إن رأينا نفس هذه الخليقة الجميلة والعجيبة تصير سببًا لشر الإنسان، فهل نلومها إذًا..؟ حاشا، بل نلوم أولئك الذين لم يستطيعوا استخدامها استخدامًا. وفيهم يقول الرسول، إن الحكماء "حَمِقوا في أفكارهم... وعبدوا المخلوق دون الخالق" (رو1: 21- 25).
وماذا نقول عن أعضائنا، فحتى هذه نجدها سببًا في هلاكنا، إذ لم نأخذ حذرنا، وهذا ليس من طبيعة الأعضاء، بل بسبب تراخينا أيضًا.
ر
لقد وهبنا الله عيونًا نعاين بها الخليقة، فنمجد السيد الرب ولكن متى أسأنا استخدامها تصير خادمة للزنا...
وقد أعطينا اللسان لنسبح الخالق، ولنعلم حسنًا، فإذا لم نحذر لأنفسنا يصير علة تجديف.
وأخذنا الأيدي لنرفعها في الصلوات، ولكننا إذا لم ننتبه نجدها تعمل في الطمع والجشع.
إن كل الأشياء تؤذي الإنسان الضعيف، حتى أدوية الخلاص -بالنسبة للرافضين لها- تسبب الموت.. لا بسبب طبيعة الدواء بل بسبب الضعف. فالله قد ترك الشيطان في العالم، لامتحان الناس وتزكيتهم ولا يسمح بتجربة فوق طاقة البشر، بل يعطي المنفذ لكل تجربة إذا طلب الإنسان منه ذلك.
فحكمة الله جاءت لصالح الإنسان وليس لضرره... وإبليس نفسه يمكن أن يكون سبب نفع لنا إن فهمناه.... وهذا واضح في حالة أيوب. ويمكن أن نتعلم هذا أيضًا من بولس الرسول الذي يكتب بخصوص الزنى قائلًا: "إن يسلم مثل هذا الشيطان لهلاك الجسد لكي يخلص الروح".
انظروا، حتى الشيطان قد صار سبب خلاص، لا بطبيعته، ولكن بمهارة الرسول، كالطبيب الذي يحضر حية ويستخرج منها دواء (مع أنه سام لكنه نافع لبعض الأمراض).
ولنعرف تمامًا أن إبليس ليس هو علة خلاص، لكن قدماه تسرعان نحو هلاك الجنس البشري، إذ يقول الرسول عن هذا الزاني "أطلب أن تمكنوا له المحبة... لئلا يطمع فينا الشيطان، لأننا لا نجهل أفكاره" (كو2: 8- 11).
وهنا يعتبر الرسول بولس الشيطان كمنفذ لأحكام الله... إذ قال الله للشيطان بخصوص أيوب الصديق "ها هو في يدك، ولكن أحفظ نفسه" (أي2: 5- 6). هكذا أعطى الرب حدودًا للشيطان لا يتعداها عندما هاجم أيوب، حتى لا يبتلعه ويفترسه بغير رياء....
لذلك لا تخف من محاربات الشيطان، فالله قادر أن يحول هذه الحرب إلى خير ونفع للإنسان في تنقيته وبالتالي تزكيه، لكي ينال الإكليل المعد له منذ تأسيس العالم.
ويقول الأب (ثيوفان الناسك) لكي تفهم جيدًا أن كل التجارب على وجه العموم مرسلة لنا لفائدتنا، اعلم أن ميل طبيعة الإنسان الفاسدة هو الكبرياء ومحبة الذاتي وحب الظهور والتفاخر بالذات, كي يتمسك بآرائه وقراراته الخاصة، ويريد أن كل واحد يعطيه قيمة أكثر مما له, وهذا هو الاعتداد بالذات وهذه الروح المتعالية مضرة جدًا جدًا في عملنا الروحي، لأنها تحرم الإنسان من بلوغ الكمال الحقيقي.
لذلك فإن أبانا السماوي المحب في تدابيره الحكيمة بالنسبة لنا -ولا سيما بالنسبة لأولئك الذين أودعوا أنفسهم لخدمته- يسمح بالتجارب أن تهاجمهم كي يجعلهم في حالة يسهل فيها الهرب من الخطر المخيف، وهو خطر الاعتزاز بالذات..
فقد فعل الرب هكذا مع الرسول بطرس، حين تركه يفكر ثلاث مرات كي يتحقق ضعفه، ولا يعتمد على ذاته...
والقديس بولس له اختبار مماثل, فبعد أن اختطف إلى السماء الثالثة، وكشف له أسرار إلهية لا ينطق بها. جعله الله يقاسي من تجربة مملة ومضايقة، كي يحمل في نفسه بيان حقارته وتفاهته، وهكذا ينمو في الاتضاع، ولا يفتخر إلا بضعفاته، لئلا ينتفخ متكبرًا من أجل كثرة الإعلانات التي منحها الله له، كما قال في رسالته: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع" (2كو12: 7).
ونجد أن هذه التجارب تتبع مع كل خادم لله، فنجده قد يذوق هذه الحالات (جفاف – نقص المعونة الروحية – جدب التعزيات الإلهية)..يختبر هذه الأمور ليتعلم الاتضاع عن طريق تفكيره بأن هذه حلت به من أجل خطاياه الخاصة...
بجانب هذه الفوائد الجليلة للنفس عن طريق هذه التجارب، فإن لها ثمار أخرى كثيرة، فإذ ينسحق قلب الإنسان بهذه الأعمال الداخلية، يقوي الإنسان نفسه بغيرة عنيفة جدًا.مجددًا العزم أن يركض إلى الله، ويسأل معونته السريعة، ويؤدي باجتهاد كل شيء يرى أنه نافع ليشفي حزن نفسه، ويزيل كرب قلبه، وليجذب حدوث هذا الأمر مستقبلًا, موطدًا العزم أن يسلك فيما بعد في طريق الحياة الروحية. منتبهًا بشدة لكل حركات القلب والتراخي الذي يبعده عن الله.
لذلك يجب علينا أن نعتقد أن هذه التجارب لا تجلب أي خسارة، بل على العكس تزيد الفضيلة. وذلك عندما تتقبلها النفس باتضاع وتتحملها بشكر. ونجتهد بكل الوسائل، وأن نحفظ ذواتنا في هدوء وسلام في كل الأشياء التي تحل بينا، كأنها آتية بسماح من الآب السماوي، لأنه سواء أتت تجربة من الشيطان أو من الناس الآخرين بسبب خطايانا، فهي لم تحدث إلا بسماح الله، لفائدتنا ولكي يمنع عنا تجارب ربما تكون أعظم خطرًا من هذه.