رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 101 (100 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير نذور الملك سجَّل داود الملك هذا المزمور في بداية حكمه، حيث قدَّم لله نذرًا مصِيريًا، ألا وهو الإرادة المقدسة في الرب. لكن في دراستنا لحياة داود الملك لا نجد الصورة الكاملة لشخصيته كما اشتهى المرتل هنا، لهذا فهو مزمور خاص بالسيد المسيح ملك الملوك الكلي الكمال. غالبًا ما كان يتغنى المرتل بهذا المزمور في كل احتفال بتجليسه ملكًا، حتى يتذكر دومًا ما نذر به للرب. لغته تُظْهِرُ أن الكاتب صاحب سلطان ملوكي، يشعر بالالتزام بالسلوك بروحي ملوكي مقدس ولائق به. قديمًا كان البعض يدعو هذا المزمور "مزمور رب البيت" كملك وقائد ملتزم بخط إيماني روحي ملوكي. منذ القرن السابع عشر، وربما قبل ذلك كان البعض في الغرب يستمعون إلى عظة عن هذا المزمور عند إقامة أسرة جديدة، وأيضًا عند إقامة مسكن جديد. يرى البعض أن هذا المزمور يحمل خطيْن متكامليْن؟ أ. القائد، سواء كان ملكًا أو رب بيت، يُقَدٍّم قلبه مسكنًا لملك الملوك الذي يتمشى في أعماقه. ب. القيادة الحقيقية أو الملوكية تحمل روح الأبوة الحانية. 1. مقدمة للمزمور 1. 2. السلوك الملوكي اللائق 2-7. أ. التعقل بسكنى حكمة الله في أعماقه 2. ب. الهروب من الشر 3. 3. الهروب من الأشرار 4-5. 4. الالتصاق بالقديسين 6. 5. بيته كنيسة مقدسة 7. 6. ختام 8. من وحي مز 101 1. مقدمة للمزمور لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ رَحْمَةً وَحُكْمًا أُغَنِّي. لَكَ يَا رَبُّ أُرَنِّمُ [1]. كثيرًا ما يردد المرتل تعبير "رحمة وحكمًا"، فإن الرحمة تسبق الحكم؛ إذ يكشف لنا عن رحمته، فيفتح لنا باب الرجاء، وينزع عنا اليأس. وفي رجائنا لا نكون متهاونين ومستهترين، متطلعين إلى حكم الله وعدله. بالرحمة نرتمي في أحضان الله متهللين، وبالحكم نلتزم أن نسلك بما يليق بنا كأولاد الله. خلال هذه الرحمة وهذا الحكم يتجاسر المرتل ويُسَبِّح الله الذي يطلب خلاص نفسه، ويسنده ليسلك كابن الله. يرى القديس أغسطينوس أنه خلال رحمة الله يتمتع المؤمن في هذا العالم بالقيامة الأولى التي هي قيامة النفس، فيتأهل المؤمن للمجد الأبدي بكل كيانه الروحي والجسدي، حيث ينعم في يوم الرب بالجسد المقام والمُمَجَّد. أما خلال الحكم أو الدينونة فكل البشرية تقوم، لكن الذين نالوا القيامة الأولى يتمجدون، والذين استخفوا بها يسقطون تحت الدينونة التي بلا رحمة. * يمكننا أن نبلغ إلى القيامة الأولى وهي الآن، لأنه لا يشترك أحد في هذه القيامة الأولى إلا الذين سينالون الغبطة إلى الأبد. أما في القيامة الثانية، فسيشترك فيها كما سنرى، جميع الناس، السعداء والأشقياء. إحداهما قيامة الرحمة، والأخرى قيامة الدينونة، ولهذا كُتب في المزمور: "رحمة وحكمًا (دينونة) أغنى لك يا رب أرنم" (مز 101 :1)[1]. * الرحمة تُطلب أولًا، والحكم يأتي بعد ذلك. فسيتم الفصل (بين الأبرار والأشرار) عند الحكم... ليتنا نعبر من صيد السمك حيث تمتزج الأفراح بالدموع، أفراح بسبب السمك الصالح الذي نجمعه، والدموع بسبب السمك غير الصالح[2]. * ليته لا يخدع إنسان نفسه بأنه لن يُعاقب خلال رحمة الله، فإنه يوجد أيضًا الحكم (العدل). وليته لا يرتعب أحد من حكم الله مادام يتحول إلى ما هو أفضل، متطلعًا إلى أن رحمة الله تتقدم الحكم[3]. * لا يفقد الله صرامة الحكم خلال فيض الرحمة، ولا فيض الرحمة حين يحكم بحزمٍ. * ما لم يعمل الله أولًا خلال الرحمة، لا يجد أولئك الذين يكللهم خلال الحكم. * يوجد وقت للرحمة حيث تدعو طول أناة الله الخطاة للتوبة. القديس أغسطينوس * "رحمة وحكمًا أغني لك يا رب". ليت الخطاة الذين ييأسون من خلاصهم، هؤلاء المتواضعون والمنكسرون بسبب خطاياهم يسمعون أغنية الرحمة! وليت المتعجرفون الذين يقولون: "الرب رحوم، إذن فلنخطئ، لأنه يسامحنا"، يسمعون لأغنية العدل (الحكم)[4]. القديس جيروم * سُئل القديس مكسيموس: "كيف تتحقق النفس أن الله غفر لها خطاياها؟" فأجاب: "إذا رأتْ أنها في درجة ذاك القائل: "أبغضتُ الظلم ورذلته، أما ناموسك فأحببته" (مز 119: 163)، لأنه يقول: "لرحمتك وعدلك أسبحك يا رب" (مز 101: 1). فلنصنع أعمال التوبة لكي نُظهر حكم الله العادل، ويُكمّل رحمته علينا، إذ يغفر لنا خطايانا". فردوس الآباء * أهلني يا رب أن أُسَبِّحَك على رحمتك الصائرة لنا، وحُكمك وانتقامك من أعدائنا. فإنني إذا حظيت بهذه النعمة أترنم شاكرًا إحساناتك، وأتمسك بسيرة نقية بريئة من العيب. * أُسَبِّحَك يا رب، وأشبع ناشدًا برحمتك وحكمتك، لأنك لا تجازي الناس بذنوبهم، لكن رحمتك وتحننك يسبقان حكمك. في هذا الدهر تعاملنا برحمتك، وأما في الدهر العتيد فتعاملنا بحكمك. قال القديس كيرلس إن قوله أُسَبِّحَك يا رب، لأنك رحمتنا، وأرسلت ابنك إلى العالم، وغفر لنا ذنوبنا برحمته، وانتقم من عدونا (إبليس) بحكمٍ عادلٍ. الأب أنسيمُس الأورشليمي 2. السلوك الملوكي اللائق أ. التعقل بسكنى حكمة الله في أعماقه أَتَعَقَّلُ فِي طَرِيقٍ كَامِلٍ. مَتَى تَأْتِي إِلَيَّ؟ أَسْلُكُ فِي كَمَالِ قَلْبِي فِي وَسَطِ بَيْتِي [2]. إن كانت رحمة الله تَهِبُ النفس فرحًا داخليًا، فلا يكف المؤمن عن التسبيح لله، ومن جانب آخر ينعم بالحكمة الإلهية والتمييز والتعقل، فيسلك بالنعمة في طريق الكمال. إنه يصرخ إلى الله أن ينزل بنعمته إليه، ليُقَدِّس قلبه ويقيم منه هيكلًا له. لا يدفع الكمال المؤمن الحقيقي إلى التشامخ، بل إلى الشعور بفضل الله عليه، فيسلك بكمال قلبه، أي بروح الوداعة في وسط بيته، أي الجماعة المقدسة. ويرى القديس أمبروسيوس في حديث المرتل عن السالك في كمال قلبه في وسط بيته هو السيد المسيح. إذ يتمشى في صدر الإنسان الحكيم والمتعقل [في داخلنا بيت الله، لدينا قاعات وأيضًا أروقة وديارات؛ مكتوب "تفيض مياهك في خارج ديارك" (راجع أم 5: 16). إذن لتفتح رواق قلبك لكلمة الله، هذا الذي يقول لك: "افتح فاك وأنا أملأه" (راجع مز 81: 10)[5].] * ليس شيء يسر الله مثل البساطة ونقاوة القلب. بالحقيقة لا يجد مسرة في طائر أعظم مما في الحمامة لبساطتها، ولا في حيوان ذي أربع أرجل أكثر من الحمل لوداعته[6]. القديس جيروم * يعاني كل شرٍ من الضيق narrowness، أما برّ القلب فوحده يهب اتساعًا للتمشي فيه: "أسير في براءة قلبي، في وسط بيتي". يُقصَد بوسط بيته الكنيسة نفسها، لأن المسيح يمشي فيها؛ أو يقصد قلبه، لأن بيتنا الداخلي هو قلبنا[7]. القديس أغسطينوس * إن كنتم مشتاقين إلى الحصول على نور المعرفة الروحية، معرفة ليست خاطئة لأجل كبرياء فارغ لتكونوا رجالًا فارغين. يجدر بكم أولًا أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب الذي نقرأ عنه: "طوبى للأَنْقِياءِ القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 8:5). بهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال: "والفاهمون يضيئُون كضياءِ الجلد، والذين ردُّوا كثيرين إلي البرّ كالكواكب إلي أبد الدهور" (دا 3:12). ويقول نبي آخر: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ (حيث يوجد وقت)" (هو 12:10). هكذا يلزمنا المثابرة بجهادٍ في القراءة، الأمر الذي أراكم تصنعونه، مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولًا، أي المعرفة السلوكية. لأنه بغيرها لا يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها، وبهذا لا ينطقون بكلمات غيرهم معلمين بها، إنما بالسمو في العمل والتنفيذ. فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحية كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة، لا من مجرد التأمل في الشريعة، بل كثمرة لتعبهم، يتغنون مع المرتل قائلين: "من وصاياك تفهمت" (مز 104:119). وإذ يقهرون كل شهواتهم، يقولون بكل ثقة: "لك يا ربِّ أرنم. أتعقل في طريقٍ كامل" (مز 1:101-2). فمن يجاهد في طريق كامل بقلبٍ نقيٍ يترنم بالمزمور ويتعقل (يتفهم) الكلمات التي يسبح بها. إن أردتم أن تعدوا قلوبكم هيكلًا للمعرفة الروحية، فنقُّوا أنفسكم من آثار كل الخطايا، وتخلَّصوا من اهتمامات هذا العالم، لأن هناك استحالة على النفس التي ترتبك باهتمامات العالم - ولو إلي درجة بسيطة - أن تقتني عطية المعرفة، أو تصير مصدرًا للتفسير الروحي، وتجاهد في قراءة الأمور المقدسة[8]. الأب نسطور * متى تأتي يا سيدي بمعونتك، وتمنحني ما أتمناه، لكوني من بعد أسير بدعة قلبي بين جماعتي. * أما عن قول النبي: "في وسط بيتي"، فيقول يوسابيوس: إن كثير من الخبثاء يخفون خبثهم بين الملأ في الأسواق والشوارع وفي عشرتهم مع الناس، ولكن في بيوتهم تظهَر سوء نياتهم. أما الذي يسلك في بيته مؤدبًا، فذاك بالحقيقة جيد الأخلاق. وقال ديديموس: إن المولع بالأشياء التي هي خلاف الشريعة، فهذا يُقال عنه إنه خارج بيته، بما أن بيت الفاضل فضيلته، والذي يلازمها يكون في وسط بيته وديعًا. جاء في الأصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عن يعقوب أنه كان رجلًا كاملًا، ساكنًا في البيت، أما عن عيسو فيقول الكتاب إنه كان يعرف الصيد إنسان البرية (تك 25: 27). ومثل ذلك يقول الإنجيل المقدس عن ذاك الذي كانت فيه الشياطين، إنه لم يكن يأوي في مسكنٍ. الأب أنسيمُس الأورشليمي ب. الهروب من الشر لاَ أَضَعُ قُدَّامَ عَيْنَيَّ أَمْرًا رَدِيئًا. عَمَلَ الزَّيَغَانِ أَبْغَضْتُ. لاَ يَلْصَقُ بِي [3]. كيف يقول المرتل إنه لم يصنع قدام عينيه أمرًا رديًا، بينما يردد في موضع آخر: "من يتبرر أمامك؟" وأيضًا: الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله. الله وحده البار بلا خطية، أما الإنسان فخاطئ. لكن شتان بين من يتلذذ بالخطية ويبحث عنها، ويذهب بنفسه إليها، فيستعبد نفسه لها، وبين من يقاومها ويحاول الهروب منها، وإن سقط فيها يسرع بطلب نعمة الله لكي ترفعه، وتحرره من التلذذ بها. تكشف هذهالعبارة والعبارة السابقة عن موقف داود النبي وهو في قصر شاول الملك، كما عن موقف المؤمن الحقيقي في وسط جيلٍ شرير مظلمٍ وملتوٍ. لقد نال النبي في صباه خبرة مُرّة في قصر شاول الملك، إذ كان يحاول كثير من المنحرفين والفاسدين أن يتملقوا الملك ويلتصقوا به. أما داود فعانى من هذا الجو الشرير، ولم يضع قدام عينيه أمرًا رديئًا، حتى وإن كان هذا هو طريق الوصول إلى قلب الملك والصداقة معه. لقد أحب البرّ وأبغض كل انحرافٍ، مفضلًا الالتصاق بالله القدوس، مهما كلفه من ثمنٍ عوض الالتصاق بشاول الملك من خلال الخداع. * "صانعي المعصية أبغضت" [3 LXX]. سواء كان أبي أو أمي أو أخي أو أختي أو صديقي، فإن من ينسحب عن مخافة الرب، فإنني أبغضه، ولا ألتصق به (في شره). لا أضع القرابة أو الصداقة فوق محبتي لله وإخلاصي له[9]. القديس جيروم * ليس معنى قول النبي إنه لم يسقط في أمرٍ يخالف الناموس، بل معناه أنه لم يرد ذلك، ولا سعى لفعل شيءٍ يخالف الناموس. كأنه يقول: إني لم أتعمد بإرادتي أن أسعى على مخالفة الشريعة، بل وأبغضت صانعي المعاصي. لكن إن سقط في أمرٍ غير لائقٍ، إنما يحدث هذا عن هبوب عاصفٍ شديدِ. أما قوله: "لا أضع قدام عيني"، فمعناه إني لم أفكر ولا تفرست فيما يخالف الشريعة. الأب أنسيمُس الأورشليمي 3. الهروب من الأشرار قَلْبٌ مُعَوَّجٌ يَبْعُدُ عَنِّي. الشِّرِّيرُ لاَ أَعْرِفُهُ. [4]. إن كان داود قد صار ملكًا، ففي أعماقه يشعر أن هذا المركز ناله لا من أجل مواهبِ خاصةٍ، ولا عن برًّ ذاتي، ولا لفضلٍ له عن غيره، إنما هو عطية الله المجانية له. لهذا يليق به أن يسلك بقلبٍ نقيٍ، وأن يعتزل الأشرار، لا عن كراهية من جانبه. وإنما عن رغبة في عدم الانحراف عن الاستقامة التي وهبه الله إياها. هذا ما يليق بكل مؤمنٍ التصق بملك الملوك، مخلصه يسوع المسيح، ليحيا معه في حياة ملوكية بلا انحراف. هكذا يلزمنا أن نقتدي بدانيال النبي والثلاثة فتية القديسين، الذين سُبوا في أرض يسودها رجاسات الوثنية، لكنهم اعتزوا بإيمانهم والتصاقهم بالله القدوس الحقيقي. ورفضوا التعرف العملي على الملك الشرير بعدم مشاركتهم له في فساده. في اختصار مع محبتنا لكل البشرية والتزامنا بالطاعة للرؤساء والقادة، يليق بنا أن ندرك أن أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا باسم الله نفسه، فإنه إذ يبتعد عنه صاحب القلب المعوج يصير غير أهل ليكون موضع معرفة الله، [ماذا يعني: "لا أعرفه؟" ليس إنني أجهله، إنما لستُ أستحسنه.] * سواء كان صديقي أو قريبي أسقفًا أو كاهنًا، أيا كان مركزه ومكانته، إن أفسد نفسه بوسيلة ما، أبتعد عنه تمامًا، ولا أعود أذكره قط[10]. القديس جيروم * استقامة العقل مثل استقامة السبيل الذي ليس فيه التواءات. هكذا كانت شخصية المرتل الإلهي، هذا الذي يئن: "قلب معوج يبعد عني" (مز 101: 4). ويحث يشوع بن نون الشعب، قائلًا: "لتكن قلوبكم مستقيمة لإله إسرائيل"، بينما يصرخ يوحنا: "اصنعوا سبله مستقيمة" (مر 1: 3). هذا يعني أن النفس يلزمها أن تكون مستقيمة، طبيعتها البديهية التي خُلقت عليها، فقد خُلقت جميلة ومستقيمة تمامًا. لكنها إذ تنحرف وتميل حالتها الطبيعية، فهذا يُدعى شرًا وانحرافًا للنفس[11]. القديس كيرلس الكبير * جاء في سفر الجامعة: الله صنع الإنسان مستقيمًا (جا 7: 29). فالذي يفعل بخلاف الغريزة التي خُلق بها، حاد وتعوّج عن استوائه، ولا يطابق المستقيم. يقول النبي: كل من كان معوجًا لا يوافقني، وإذا كان من أصدقائي، ويحيد عني لعدم ملائمة رأيه لرأيي لم أكن أعاتبه بذلك ولا أبالي، عالمًا بأن العشرة الرديئة تفسد العادات الصالحة. الأب أنسيمُس الأورشليمي * أمر الملك (البابلي) أن يكفوا عن أعياد آبائهم، ويتبعوا الطقوس الدينية للكلدانيين، ويهملوا ناموس الله، وأصَّر عليه. لكن دانيالَ قرَّر في قلبه أن يتحاشى التلوثَ بمائدةِ الملك (قابل دا 1 :8-16)، لهذا كان من اللائق والصواب أن يقول إنه لم يعرف علاماتِ الغرباء (الأشرار). أُمر أن يَعبدَ شبانُ العبرانيين تمثال الملك، لكنهم أجابوه: "لن نسجد لتمثالك" (دا 3 :18). لهذا كان من اللائق بكل منهم أن يقول: "وضعوا شاراتٍ كعلاماتٍ، وأنا لم أعرفها"، أي لم أحاول حتى تجربتها، ولم أقبلها بأية صورة، ولم أرتبط بها أبدًا. ومن ثم نقرأ أيضًا فيما يختص بابن الله أنه لم يعرف خطية (قابل 2 كو 5: 21). وتجدون في نصٍ آخر: "لأن الذي يحفظ الوصية، لا يعرف الكلمة الشريرة" (جا 8 :5)، حيث يتضح أن معرفة الشر ليست ملومة، بل الارتباط بالشر هو الملوم. ويقول داود نفسه أيضًا في نص آخر: "لكن الشرير (الخبيث) يبعد عني، لا أعرفه" (مز 101 :4). وأيضًا حينما يحاول الخصوم وضعَ علاماتهم يصَّرح قائلًا: "كأنه في الطريق على القمة العالية، كأنه بمعاول (فئوس) في غابة أشجار، قطَعَوا في الحال البواباتِ هناك، بفأسِ ذات حدين فكسَّروها" (مز 74 :5-6 LXX)، فما معنى هذا؟ إنها تكشف بالتأكيد عن أن إيماننا، ينبغي ألا يكون "في الطريق" حقًا، وإلا حَطِّتْ طيور الجو وخطفته. مثل تلك الكلمة التي نقرأ عنها في الإنجيل، والتي لا ينبغي أن تبذر بين الطرق والمسالك (قابل لو 8 :5)[12]. القديس أمبروسيوس الَّذِي يَغْتَابُ صَاحِبَهُ سِرًّا، هَذَا أَقْطَعُهُ. مُسْتَكْبِرُ الْعَيْنِ، وَمُنْتَفِخُ الْقَلْبِ، لاَ أَحْتَمِلُهُ [5]. جاء عند اليهود أن الذي يغتاب صاحبه يسبب أذيةً على الأقل لثلاثة أشخاص: أولًا يؤذي نفسه، والمستمع إليه، ومن تحدث عنه من الوراء. إن سمع الإنسان المحب عن صاحبه شيئًا يليق به أولًا أن يتحقق من سلامة قلبه، يحبه ويود خلاصه. ثانيًا: إن وجد الفرصة لائقة للحديث معه مباشرة بنيةٍ صادقةٍ لبنيانه، ودون أن يجرح مشاعره، كما يختار الوقت المناسب. أما إذا أدرك أن الحديث معه قد لا يجدي، فيمكن الاهتمام ببنيانه مع إنسانٍ حكيم مسئول مثل والديه أو أب اعترافه، ولكن بهدوءٍ وحكمةٍ وتعقلٍ، في غير انفعال، وبروح التواضع دون إدانة. يرى القديس أغسطينوس أن المقاطعة هنا أو عدم الأكل معه هو نوع من التوبيخ، لكي يخجل الشرير ويتوب. هذا لا يعني أننا نقاطع الغرباء فقد أكل السيد المسيح مع الخطاة والعشارين، بل ومع بعض الفريسيين. إنما المقاطعة هنا خاصة بالذين في الداخل، أعضاء الكنيسة الذين لا يسلكون كما يليق بهم كأولاد لله. هذا أيضًا ما نادى به الرسول بولس، إذ طلب عزل الذين في الداخل، أما غير المؤمنين فلا سلطان لنا عليهم. حتى الذين في الداخل ففي مقاطعتهم أو تأديبهم لا نتعامل معهم كأعداء لنا، بل كإخوة (2 تس 3: 14). * لست فقط أنصح الذين يتكلمون بالشر، وإنما أيضًا الذين يسمعون الغير وهم يتكلمون بالشر. إنني أحثهم أن يسدوا أذانهم ويتمثلوا بالنبي القائل: "الذي يغتاب صاحبه سرًا هذا أعاقبه". قل لصاحبك: "هل لك من تمدحه أو تمجده؟ إنني أفتح أذنيّ لكي تستقبلا الدهن المملوء عطرًا، أما إن كان لك شيء شرير تقوله، فإني أغلق المدخل، إنني لست اسمح بالروث والقذارة[13]. * يليق بالبشر أن يصدقوا ما يسمعونه فقط بعد فحص دقيق، وأن يأخذوا القرار الصادق على ضوء الحقائق. هذا هو السبب أن الله قال في عبارة كتابية أخرى: "لا تصدقوا كل كلمة" (سيراخ 19: 15). فإنه ليس شيء مخَّرب لحياة البشر مثل الشخص الذي يأخذ قرارًا سريعًا لكل ما يقوله الناس[14]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إذ توجد أكاذيب فهم يقتلونني، فالفم الذي يكذب يقتل النفس[15]. القديس أثناسيوس الرسولي * الذي ينم ويغتاب أصحابه بقصد التشهير وليس إصلاحهم، فهذا أبلغ الشرور. ويكون شبيهًا بإبليس المحتال الذي اغتاب الله عند حواء وخدعها. أما الاستكبار أشر الشرور، لاسيما إذا كان مقرونًا بطمع المكسب. يقول النبي إنه لم يكن يصاحب مثل هؤلاء... لأن مصاحبتهم فيها مضرة عظيمة للنفوس. الأب أنسيمُس الأورشليمي * سُئل أنبا إشعياء: "ما هي خطية الوقيعة؟" فأجاب: "خطية الوقيعة لا تدع صاحبها يوجد في حضرة الله، لأنه مكتوبٌ: "كنتُ أطرد مَنْ كان يغتاب صديقه سرًّا" (مز 101: 5)". فردوس الآباء * علينا أن نحرس ألسنتنا وآذاننا من الكلام أو الاستماع إراديًّا لأيٍّ من مثل تلك الأمور، لأنه مكتوبٌ: "لا تقبل خبرًا كاذبًا" (خر 23: 1)، وأيضًا: "الذي يغتاب صاحبه سرًّا هذا أقطعه" (مز 101: 5). كذلك يقول المرتل: "لعل فمي لا يتكلم عن أعمال المائتين" (راجع مز 17: 4). ولكننا نتكلم أيضًا عن أعمال لم تتم! فيجب ألاّ نصدِّق الأمور التي تُقال، ولا ندين المتكلمين، بل علينا أن نتصرّف ونتكلم حسب الكتاب المقدس: "وأمّا أنا فكأصمّ لا يسمع، وكأبكم لا يفتح فاه" (مز 38: 13). القديسة الأم سنكليتيكي * ذاك الذي كان عاليًا قويًا سقط بتشامخه، حتى صار ينسحب على الأرض، ويطأه الأرضيون (لو 10: 19). والإنسان الذي كان على الأرض ضعيفًا ارتفع بتواضعه، حتى أُعدتْ له السماء أرضًا، ووطأ قوة ذاك الذي كان عاليًا... لقد قال الكتاب: "إنه يقاوم المستكبرين (يع 4: 6)، ويعطي نعمة للمتواضعين (أم 3: 34). وقال الله: "إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2)... فالمتكبر يُعاقَب مع الشيطان. القديس يوحنا الذهبي الفم 4. الالتصاق بالقديسين عَيْنَايَ عَلَى أُمَنَاءِ الأَرْضِ، لِكَيْ أُجْلِسَهُمْ مَعِي. السَّالِكُ طَرِيقًا كَامِلًا هُوَ يَخْدِمُنِي [6]. كان مسيحنا القدوس يستريح في بيت مريم ومرثا ولعازر، وكان الرسول بولس يجد راحته في العمل والحوار والعبادة مع أكيلا وبريسكلا، كما مع تلاميذه الأخصاء المؤمنين مثل تيموثاوس وتيطس وفليمون وأنسيمُس، فمعاشرة المؤمنين المخلصين في حياتهم تسند النفس وتفرح القلب. * لم يقل المرتل: على الأغنياء والأباطرة، أو الأساقفة، أو الكهنة أو الشمامسة، بل على الأمناء اسكن معهم. يحق للأسقف المقَّدس أن ينطق بهذه الكلمات: لم اسمه كاهنًا من كان مدللًا لدى، أو قريبًا لي؛ بل أقوم بسيامة من هو أمين[16]. القديس جيروم * يقول النبي: "أمناء الأرض" عن الصديقين الذين كان يشتهي مجالسهم واستشارتهم، وأن الأبرياء بلا عيب كانوا يخدمونه. الأب أنسيمُس الأورشليمي * يحمل الكتاب المقدس شهادة ضد الشيطان أنه خرج من حضرة الله، وضرب أيوب بقروح (أي 7:2). لأنه هكذا تكون صفات الذين يخرجون من حضرة الله، يضربون رجالًا ويؤذونهم. وهكذا أيضًا تكون صفات الخارجين عن الإيمان (الأريوسيين) يضطهدون الإيمان ويضرون به. وعلى العكس نجد القديسين، إذ يقترب منهم (رجال الله) ينظرون إليهم كأصدقاء، كما فعل داود متحدثًا بأسلوب صريح قائلًا: "عيناي على أمناء الأرض لكي أجلسهم معي" (مز 6:101)[17]. البابا الأنبا أثناسيوس الرسولي * الذين زُرعوا في الأرض الجيدة يتواضعون أمام كل الناس، لأنه توجد أرض مرتفعة وأرض منخفضة، وعينا الرب تلتفتان نحو هؤلاء. القديس إسطفانوس الطيبي 5. بيته كنيسة مقدسة لاَ يَسْكُنُ وَسَطَ بَيْتِي عَامِلُ غِشّ. الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَذِبِ لاَ يَثْبُتُ أَمَامَ عَيْنَيَّ [7]. لا نعجب إن لاحظنا في شخصية أبينا إبراهيم أنه يسكن مع سارة المؤمنة، ورجاله الثلاثة مئة وثمانية عشر يحملون روحه، روح الاستقامة. لعل الشرير بخبثه يستطيع أن يتسلل إلى بيت داود، ولكنه لا يقدر أن يسكن فيه، حيث لا تقدر الظلمة أن تتحد مع النور؛ ولا يجد مجالًا للحديث مع ذاك الحريص على كل كلمة تخرج من فمه، وأخيرًا لا يثبت أمام عيني داود البار، إذ لا يجد له موضعًا في قلب داود ليمارس فيه شره. لنحرص من معاشرة الأشرار وفخاخهم التي ينصبونها لنا، مستخدمين ثلاث وسائل خطيرة: 1. يحاولون التسلل إلى بيوتنا الداخلية، أي قلوبنا ليسكنوا فيها كأصحاب بيت. 2. أن سمحنا لهم بالدخول يبدأون الحوار، متكلمين بالكذب، كما فعلت الحية مع حواء. 3. أن دخلنا في الحوار يحاولون أن يثبتوا في أعيننا، فنظن في ظلمتهم نورًا، وفي خداعهم حكمة. بهذا يسيطرون على قلوبنا كسادة لهم حق توجيهنا إلى حيث يريدون. * كان يطرد المستكبرين من بيت قلبه وعقله وفكره، ويبغض النمامين والظالمين. الأب أنسيمُس الأورشليمي 6. ختام بَاكِرًا أُبِيدُ جَمِيعَ أَشْرَارِ الأَرْضِ، لأَقْطَعَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّبِّ كُلَّ فَاعِلِي الإِثْمِ [8]. انشغل داود النبي بأمريْن، الأول أن حياته ثمينة للغاية، ولكل لحظة من لحظات عمره لها ثمنها. لهذا كان يبكر بإبادة كل شرٍ يحاول التسلل إلى قلبه، حتى لا يُثَبِّت الشر رجليه، وتصير له جذور عميقة في داخله. أما الأمر الثاني فإن قلبه هو "مدينة الرب المقدسة"، لن يسمح لدنسٍ ما أن يتسلل إليها. وكما دعونا السيد المسيح: "ملكوت الله داخلكم". وأيضًا قال: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء" (لو 10: 18). يرى القديس جيرومأنه لا يليق التهاون مع الأشرار الذين في الكنيسة -بيت الرب- إنما يلزم حثهم وتوبيخهم على شرورهم لأجل توبتهم. * المدينة هي النفس، كل الأفكار الشريرة هي "فاعلو الإثم" (مز 101: 8)، فإن كنا نهلكها تزدهر ميولنا الصالحة[18]. القديس غريغوريوس النيسي * في اليوم الذي فيه يزول كل الأعداء (الخطايا) يتمجَّد الله كما في يوم عيدٍ، وأمام فشل أعدائنا نبتهج بفرحٍ جليلٍ. هذا على ما أظن ما قصده النبي عندما قال في مزموره: "باكرًا أبيد جميع أشرار الأرض، لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز 101: 8)، أي يقطع العدو الشيطان الذي يدفع البشريَّة إلى فعل الإثم. عندما نسمع "مدينة الرب" نذكر نفس كل واحدٍ منَّا بكوننا حجارة حيَّة (١ بط ٢: ٥)، تُبنى بفضائل من كل نوع[19]. * إذا حدث ورأيت من يضطهدك في حالة غضبٍ شديدٍ، فلتعلم أنه مدفوع بواسطة شيطان يمتطيه، مما يجعله بهذا العنف وهذه القسوة. "تطردون أعداءكم" (لا 26: 7). أي أعداء غير الشيطان ذاته، هو وكل ملائكته الأشرار، وأرواح الشياطين النجسة (لو 4: 33)؟ لن نطردهم من أنفسنا فقط، بل أيضًا من الآخرين من ضحاياهم. هذا إذا حفظنا الوصايا التي تقول: "تطردون أعداءكم، فيسقطون أمامكم بالسيف" (لا 26: 7). فإذا سَحَق الله الشيطان تحت أرجلنا سريعًا (رو 16: 5)، يسقط أعداؤنا أمامنا (لا 26: 7). العلامة أوريجينوس * يقول القديس باسيليوس الكبير إن مدينة الرب هي الإنسان، لأن الله خلقه على صورته ومثاله. وأما أشرار الأرض وفاعلو الإثم فهم الأفكار الشريرة الخارجة من القلب مثل القتل والفجور والزنا والسرقة وشهادة الزور والتجديف وما إلى ذلك. يجب علينا قتلها وإبادتها من مدينة الرب باكرًا، أي في بداياتها أو في حداثة عمرنا، ولا ندعها تنمو فينا بالأكثر. الأب أنسيمُس الأورشليمي * تنال الفضيلة ضربة قوية عندما ينتصر الشر. لذلك ننال الخير إذا تحمسنا لكلمة النبي، وهي أن نبيد كل صانعي الشر الموجودين في الأرض، في الصباح الباكر، ونُبعد كل الأفكار الشريرة عن مدينة الله (التي هي النفس) (مز 8:101). فينتعش فينا النشاط الخيّر بعد إزالة الشرور من نفوسنا. بذلك يمكننا أن نعيش بعد الموت، لأن واحدًا مما بداخلنا يموت، بينما يحيا الآخر، أي كلمة الله. كما يقول النبي: "أنا أُميت وأُحيي" (تث 39:32). لذلك عاش بولس بعد أن مات، وتقوى في الضعف، واستمر في جهاده وهو مربوط بالسلاسل، وكانت له ثروة في الفقر، وكان غنيًا وهو لا يملك شيئًا، وكان حاملًا في جسده كل حين إماتة الرب يسوع المسيح (2 كو 10:4)[20]. القديس غريغوريوس النيسي في اختصار بدأ المرتل بالعمل البنّاء الإيجابي، وختمه بالجانب السلبي. بدأ بالإعلان عن قلبه أنه بيت الرب المملوء ترنمًا وتسبيحًا. وختم بطرد كل أثر للشر منه، لأنه مقدس للرب! من وحي مز 101 لتملك يا رب في أعماقي * كيف أدعوك أن تسكن في قلبي، وهو من عمل يديك؟ أقمت منه بيتًا مقدسًا لك، يُسمع فيه صوت الترنم والتسبيح. أقمت منه سماءً، لا يقدر إبليس بكل قواته أن يقتحمها! * ماذا أدعو قلبي؟ إنه بيتك المقدس المتهلل. إنه سماواتك السامية التي يقودها روحك القدوس! * لتسكب رحمتك على أعماقي، ولتفض مياه حبك بنعمتك الغزيرة. أغني لك كل أيام عمري. وأترقب مجيئك على السحاب بروح التهليل. * تتمشى في داخلي، لا كرواق سليمان، وإنما كما في سماواتك. تسكب برِّك عليّ، فاختفى فيك أيها البار. * لا يقدر الانحراف أن يتسلل إليّ قسرًا. لأن روحك القدوس مقيم في داخلي. ولا يطلب الأشرار الالتصاق بيّ، ما لم يرجعوا إليك بالتوبة. * لن تستريح نفسي لكلمات النميمة، ولا أجد لذة في روح المتكبر والمتشامخ عليك! * أجد سعادتي في أولادك. وحيث أنت تستريح، أجد لنفسي مسرة فائقة. * بكلمتك تقطع كما بسيفٍ كل شر يتسلل إليّ. تبيد كل فساد في أعماقي. بالحق تقيم مني مدينة خاصة يُدعى عليها اسمك القدوس. |
|