الصوم مصحوب بالتذلُّل والبكاء
الصوم فترة تنسحق فيها الروح أمام الله، بالتوبة والدموع وانكسار القلب واتضاعه، فتعرف الذات ضعفها، أنها تراب ورماد، وتلجأ إلي القوة العليا.
حينما ينسحق الجسد بالجوع، تنسحق الروح أيضًا وفي انسحاقها، وتنحني النفس أمام الله خاشعة ذليلة معترفة بخطاياها وتذلل النفس يحنن قلب الله وقلوب السمائيين جميعًا. والإنسان في اتضاعه وشعوره بضعفه، يشعر أيضًا بزهد في كل شيء، ولا يتعلق قلبه بآيه شهوة فيكلم الله بعمق.
والكتاب المقدس يقدم أمثلة عديدة عن التذلل في الصوم:
لأن الله لا يحتمل أن يري مذله أبنائه أمامه. واكثر الأمثلة في سفر القضاة التي رأي فيها الله مذله شعبة فنزل وخلصهم (قض 2)، " في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم" (أش 63:9). بتذللهم وانسحاقهم يتضرعون. وقريب هو الرب من المتضعين، ومنسحقو القلوب هو يخلصهم..
الصوم الذي آمر به يوئيل النبي، مثال واضح.
قال: " تنطقوا ونوحوا أيها الكهنة.. أدخلوا، بيتوا بالمسوح يا خدام إلهي... قدسوا صوما، نادوا باعتكاف "(يوئيل 1: 13، 14). " الآن - يقول الرب - أرجعوا إلي الرب إلهكم.. قدسوا صومًا نادوا باعتكاف.. ليخرج العريس من مخدعه و العروس من حجلتها. ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق و المذبح ويقولوا: أشفق يا رب علي شعبك، ولا تسلم ميراثك للعار، حتى تجعلهم الأمم مثلًا. لماذا يقولون بين الشعوب: أين إلههم؟" (يوئيل 2: 12-17).
إننا نري هنا صورة تفصيلية للصوم المتكامل.
الصوم، ومعه التوبة (الرجوع إلي الله)، ومعه الصلاة، والتذلل والبكاء و النوح والبعد عن الجسدانيات، ومعه أيضا الاعتكاف والمسوح... هذا هو الصوم في كل عناصره، وليس مجرد الامتناع عن الطعام.
مثال آخر، هو صوم أهل نينوي.
صاموا، حتى الأطفال و الرضع، لم يذوقوا ولم يأكلوا شيئًا ولكنهم لم يكتفوا بهذا، بل تذللوا أمام الله في المسوح والرماد. حتى الملك نفسه، خلع تاجه وملابسه
الملكية. ولم يجلس علي عرشه، بل جلس معهم علي المسوح والرماد.. وصرخ الكل إلي الله بشدة (يون 3).
كذلك أيضًا صوم نحميا، وصوم عزرا.
قال عزار الكاتب والكاهن " ناديت هناك بصوم علي نهر أهوا، لكي نتذلل أمام إلهنا، لنطلب منه طريقًا مستقيمة لنا ولأطفالنا.. فصمنا وطلبنا ذلك من الله فاستجاب (عز 8: 21،23). وكذلك نحميا أيضًا يقول:" بكيت ونحت أيامًا، وصمت وصليت "(نح 1:4). هذا عن نفسه، أما عن الشعب، فيقول إنهم: إجتمعوا بالصوم، وعليهم مسوح وتراب، وانفصلوا عن الزيجات الخاطئة، ووقفوا واعترافوا بخطاياهم وذنوب آبائهم. وأقاموا في مكانهم، وقرأوا في شريعة الرب إلههم (نح 9:1-3). أليس هذا أيضًا صومًا متكاملًا: بالصلاة، والبكاء والنوح، وقراءة الكتاب، والتوبة والاعتراف في المسوح و التراب.. إذن ليس هو مجرد امتناع عن الطعام..
وبنفس الوضع كان أيضًا صوم دانيال النبي.
يقول " فوجهت وجهي إلي الله السيد، طالبًا بالصلاة و التضرعات، بالصوم و المسح والرماد. وصليت إلي الرب إلهي واعترفت.. أخطأنا وأثمنا وعلمنا ¸الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك.." (دا9:3-5). وفي صوم آخر يقول " أنا دانيال. كنت نائحًا ثلاثة أسابيع أيام. لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر، ولم أدهن.."(دا 10: 2، 3). إنها نفس عناصر الصوم التي وردت في الأصوام السابقة.. حقًا، هذا هو الصوم الذي قال عنه داود النبي:
" كان لباسي مسحًا. أذللت بالصوم نفسي "(مز 35:17).
ولا شك أن النوح يوقف كل شهوة للجسد، ويبعد كل رغبة في الطعام. كما أنه بالإتضاع تفتح أبواب السماء.