الجسد والروح معًا
القيامة عقيدة أساسية في جميع الأديان.
ولولاها ما يثبت دين إطلاقًا. فنحن نؤمن بقيامة الجسد من الموت وبالحياة الأخرى والنعيم الأبدي وعقوبة الأشرار.
إن قيامة الأجساد ضرورة تستلزمها عدالة الله:
فالإنسان مخلوق عاقل ذو إرادة. وبالتالي هو مخلوق مسئول عن أعماله. وسيقف أمام الله، لينال ثوابًا أو عقابًا عما فعل خلال حياته بالجسد على هذه الأرض. فهل يعقل أن يقع هذا الجزاء على الروح فقط، أم يقع على الإنسان كله بروحه وجسده؟
إن الروح والجسد اللذين اشتراكًا معًا في العمل، تقتضى العدالة الإلهية أن يتحملا الجزاء معًا، أو أن يتنعمًا بالمكافأة معًا.
الجسد هو الجهاز التنفيذي للروح أو للنفس أو للعقل. الروح تميل إلى عمل الخير، والجسد هو الذي يقوم بعمل الخير، يجرى ويتعب ويشقى ويسهر ويحتمل. أفلا تكون له مكافأة عن كل ما اشترك فيه من خير مع الروح؟ أم تتنعم الروح وحدها في الأبدية، وكل تعب الجسد يضيع هباء؟! وهل يتفق هذا مع عدل الله الكلى العدالة؟!
ونفس الوضع نذكره أيضًا عن عمل الشر الذي يشترك فيه الجسد مع الروح. بل قد يكون له في الشر النصيب الأوفر.
فالجسد الذي ينهمك في الملاذ العالمية، من أكل وشرب وسُكْر ومخدرات وزنى ورقص وعبث ومجون، ويلذذ حواسه باللهو.. هل بعد هذا كله، تدفع الروح الثمن وحدها في الأبدية، ولا يلحق بالجسد شيء من العذاب أو من المجازاة؟! كلا، فهذا لا يتفق مطلقًا مع العدل الإلهي، الذي لابد أن يجازى الإنسان كله روحًا وجسدًا.. إذن لابد أن يقوم الجسد ليشترك في المجازاة، ويكون الحساب لكليهما معًا.
لأنهما اشتركا في العمل معًا، سواء بدأت الروح، وأكمل الجسد. أو أشتهى الجسد واستسلمت الروح له، واشتركت معه في شهواته.
إن الجسد ينفذ ما تريده الروح، ويبر أيضًا عن مشاعرها.
ولنأخذ الجندي في الميدان مثالًا لنا.
الجندي تدفعه روحه إلى أعمال البسالة والبذل والفداء، وتشتعل روحه بمحبة وطنه ومواطنيه. ولكن الجسد هو الذي يتحمل العبء كله، ويدفع الثمن كله. الجسد هو الذي يتعب ويسهر ويحارب، وهو الذي يجرح ويتمزق وتسيل دماؤه. فهل بعد كل هذا تتمتع الروح وحدها، والجسد لا يشترك معها في المكافأة؟! وكأنه لم ينل أرضًا ولا سماء؟! إن العدل الإلهي لا يوافق إطلاقًا على هذا. إذن لابد أن يقوم الجسد من الموت، ليشترك مع الروح في أفراحها.
ولنضرب مثلًا واحدًا للشركة بين الروح والجسد، وهو العين:
الروح تحب أن تشفق، ويظهر الحب والإشفاق في نظرة العين. والروح تغضب أو تميل إلى الانتقام. وترى العين نظرة الغضب أو نظرة الانتقام. الروح تتجه إلى الله بالصلاة، وترى في العين نظرة الابتهال، أو تغرورق العين بالدموع من تأثر الروح..
الروح الوديعة المتضعة يشترك معها الجسد بنظرات وديعة متضعة. والروح المتكبرة المتغطرسة المتعالية، يشترك معها الجسد أيضًا بنظرات التكبر والغطرسة والتعالي.
وكما تشترك العين، تشترك أيضًا كل ملامح الوجه، كما تشترك دقات القلب ومراكز المخ، وأعضاء أخرى من الجسد..
هذه أمثلة من الشركة بين الروح والجسد.
وفى مجال الجد والاجتهاد، نرى هذا أيضًا. ويوضح هذا قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجساد
إذن تكون المكافأة في الأبدية للروح الكبيرة التي أرادت الخير وصممت على عمله، وأيضًا للجسد الذي حمل عبء وجاهد واحتمل وصبر، حتى حقق حقق للروح رغبتها. وهكذا كما اشترك معها في العمل، ينبغي أن يقوم ليشترك معها في الجزاء وفي حمل المسئولية.. فالمجازاة هي للإنسان كله ..
ونحن على الأرض نكافئ الجسد، ونعتبر هذا أيضًا مكافأة في نفس الوقت للروح التي لا نراها
ألسنا نمجد أجساد الشهداء والأبرار، ونجعل مقابرهم مزارًا، ونضع عليها الورود والأزهار والأطياب، ونصلى هناك من أجلهم..؟ ولا نعتبر هذا كله مجرد إكرام للجسد أو للعظام أو للرفات أو للتراب، وإنما للإنسان كله. لأننا فيما نفعل هذا، إنما نكرم روحه أيضًا..
وإن كان الإنسان لا يستحق الإكرام، ينسحب الإهمال على جسده وعلى روحه معًا. فالمجرمون الذين يحكم عليهم بالإعدام أو بالسجن، تنال أجسادهم جزاءها. وفي نفس الوقت يلحق بأرواحهم سوء السمعة، وتتأثر أرواحهم بما يحدث لأجسادهم.
فإن كانت عدالتنا الأرضية تفعل هكذا، فكم بالحري عدالة الله..
عدالة الله تشمل الإنسان كله، روحًا وجسدًا، لذلك لابد أن يقوم الجسد الذي عاش على الأرض مشتركًا مع الروح في أعمالها. وليس في مجرد الأعمال فقط، بل حتى في الأفكار والمشاعر.
فإن الجسد ينفعل بحالة الروح، بفكرها ومشاعرها ونياتها.
الروح تقدم المهابة أو الخشوع فينحني الجسد تلقائيا. الروح تحزن فتبكى العين، ويظهر الحزن على ملامح الوجه وفي حركات الجسد. الروح تفرح، فتظهر الابتسامة على الوجه.. الروح تخاف فيرتعش الجسد، ويظهر الخوف في ملامحه. الروح تخجل، فيعرق الإنسان، أو يبدو الخجل في ملامحه...
إنها شركة في كل شيء، ليس من العدل أن تتحملها الروح وحدها أو الجسد وحده إنما يتحملها الاثنان معًا، وهذا هو الذي يحدث في القيامة.
كذلك من العدالة أن تقوم الأجساد لتنال تعويضًا عما كان ينقصها.
فالعميان مثلًا والمعوقون أصحاب العاهات، والمشوهون، وكل الذين لم تنل أجسادهم حظًا من الجمال أو الصحة أو القوة.. من العادلة أن تقوم أجسادهم في اليوم الأخير، وتقوم بلا عيب، حتى يعوضها الله عما قاسته على الأرض من نقص وألم.
كذلك الذين عاشوا على الأرض في فقر وعوز، وفي جوع ومرض، كان له تأثيره على أجسادهم، يحتاجون أن تقوم أجسادهم في حياة أخرى لا تشعر فيها أجسادهم بما كان لها على الأرض من ألم..