التقليد من تعليم الرسل
إن رسلًا كثيرين لم يكتبوا رسائل، فأين تعليمهم؟ وأين عمل الوحي الإلهي فيهم، وعمل الروح القدس الناطق في الأنبياء؟ وبعض الرسل لا يمكن أن يكون كل تعليمهم هو فقط ما وصل إلينا منهم. لا يمكن أن يكون كل تعليم يعقوب الرسول، هو تلك الرسالة الواحدة. ولا يمكن أن يكون كل تعليم يهوذا الرسول هو إصحاح واحد. وماذا عن باقي الإثنى عشر الذين لم يصل لنا من تعليمهم حرف واحد؟ ماذا كانت كرازتهم؟ وماذا تركوا للكنيسة؟
لعل كل هذا أو بعضًا منه، وصل إلينا عن طريق التقليد.
كان الرسل يدخلون إلى المجامع، ويعلمون ويحاججون المعارضين ولم يصل إلينا شيء من هذا. بشروا فى أورشليم واليهودية والسامرة، حتى آمن الكل. ولم تصل إلينا إلا كلمات قليلة من تبشيرهم. وبولس الرسول استأجر بيتا في رومة، وأقام فيه سنتين كارزا بملكوت الرب ومعلما بكل مجاهرة (أع 28: 31،30). ولم يصل إلينا شيء من هذا، فأين ذهب؟
ولا شك أن الرسل قد وضعوا أنظمة للكنيسة. فما هي؟
هل نعقل أن رسل المسيح، بكل ما أودعه الرب فيهم من علم، تركوا الكنيسة بلا نظم، ولا قوانين تدبر شئونها. يقينًا إنهم فعلوا ذلك ولكنهم لم يكتبوا في رسائلهم: إما لأنها ليست لعامة الناس، وإما لأنها ستكون معروفة للكل عن طريق الممارسة.
وهذه كلها بلا شك، وصلت عن طريق التسليم والتقليد.
هوذا يوحنا الرسول يقول في آخر رسالته الثانية (إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر، لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم فما لفم) (2يو12). وكرر نفس الكلام في آخر رسالته الثالثة (3يو14:13) فما هو هذا الكلام الذي قاله فمًا لفم، ولم يكتبه؟ فكيف وصل إلينا؟
نلاحظ – فيما اقتبسناه هنا من هاتين الرسالتين، أن الآباء الرسل كانوا في بعض الأحيان يفضلون الكلام عن الكتابة حيثما توفر لهم ذلك. وتعليمهم الشفاهي، كان يسلمه جيل إلي جيل، حتي وصل إلي أيامنا.
أو أنهم ركزوا في رسائلهم بقدر الإمكان علي الأمور العامة الخاصة بالقواعد الأساسية للإيمان. أما عن تفاصيل النظم الكنسية والطقوس، فتركوها للترتيب عمليًا في الكنائس. وكان الناس يتعلموها ليس عن طريق الكتابة، إنما عن طريق الحياة والممارسة.
وبولس الرسول يقول في رسالته الأولي إلي أهل كورنثوس (وأما الأمور الباقية، فعندما أجئ أرتبها) (1كو34:11). فما هو هذا الترتيب الرسولي الذي لم يصل إلينا بالتقليد؟
وقال القديس بولس الرسول لتلميذه تيطس أسقف كريت (من أجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل الأمور الناقصة، وتقيم في كل مدينة قسوسًا كما أوصيتك) (تي5:1) ولم يشرح في رسالته هذه طريقة إقامة القسوس هذه:
سواء من جهة الصلوات أو الطقس، أو الشروط اللازمة فمن أين عرف تيطس هذا الأمر إلا بالتسليم الشفاهي. لهذا قال له (كما أوصيتك). هذه الوصية لم تذكر تفاصيلها في الرسالة، إنما عرفها الأسقف تيطس فمًا لفم، ووصلت إلينا نحن عن طريق التقليد.
ونفس الوضع يفهم مما قاله القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس أسقف أفسس (وما سمعته مني بشهود كثيرين، أودعه أناسًا أمناء، يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا) (2تي2:2).
هنا سماع وليس كتابة. ولم يذكر ما هذا الذي سمعه منه. ولكن لا شك أن هذا التعليم انتقل من القديس بولس إلي القديس تيموثاوس إلي الأشخاص الأمناء الأكفاء، الذين أوصلوه إلي آخرين أيضًا. وظل التسليم يتتابع حتى وصل إلينا. إن الذين يصرون علي إثبات كل شئ بآية من الكتاب، ينسون ما قاله الرسل فمًا لفم (2يو) وما رتبوه في الكنائس دون أن يكتبوه (1كو34:11) وما أوصوا به تلاميذهم (تي5:1) ينسون التعليم الرسولي الذي تحول إلي حياة وممارسة في الكنيسة دون أن يكون نصًا من رسالة أو إنجيل..
ونذكر مثالًا لذلك تقديس يوم الأحد كيوم للرب.
إن كل المسيحيين الذين يؤمنون بالكتاب المقدس وحده، ويهاجمون التقليد الكنسي، كلهم يقدسون يوم الأحد بدلًا من يوم السبت، ولا يتمسكون إطلاقًا بحرفية الآية التي تقول "اذكر يوم السبت لتقديسه" (خر 8:20) (تث12:5).
فمن أين استقوا التعليم بتقديس الأحد بدلا من السبت؟
هل من الإنجيل أم من التقليد؟ لاشك أنه من التقليد. ذلك لأنهم لا يجدون آية واحدة تقول "قدس يوم الأحد" أو "أذكر يوم الأحد لتقدسه، عملا من الأعمال لا تعمل فيه".
ولكن تقديس الأحد كان تقليدًا كنسيًا مارسه الرسل، آخذين إياه من تعليم السيد المسيح الذي لم يذكر صراحة في الإنجيل. إنما ذكرت في سفر أعمال الرسل ممارسات توحي بهذا التسليم الإلهي.
بحيث تحول الأمر إلي ممارسة كنيسة بها، دون الحاجة إلي وصية مكتوبة، وهذا الإجماع علي تقديس الأحد في كل الكنائس، دليل علي الاعتراف بالتقليد.
في رسائل بولس الرسول ما يشير إلي أنه كان يتسلم من الرب.
فهو يقول عن سر الأفخارستيا "لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزًا".. (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 23).
فهو هنا يتكلم عن تسليم،أخذه من الرب، وسلم إلي الكنيسة في كورنثوس ولم يذكر لنا الكتاب كيف ومتي أخذ بولس الرسول هذا التسليم من الرب. ولكنه يعطي فكرة عن العقائد الكنسية، وكيف دخلت إلى الكنيسة بالتسليم.
لقد عرفنا من قبل في الأناجيل كيف أن الرب سلم للرسل هذا السر، ولكنهم لم يذكروا أنهم سلموه للكنيسة. ليس من المهم أن يكتبوا هذا إنما أن تحياه الكنيسة وتمارسه. ولكن بولس الرسول ذكر هذا التسليم.
هناك أشياء أخري أخذها الرسل عن طريق التقليد وسجلوها في رسائلهم.
وقد ذكرنا بعضًا منها قبلًا، ونضيف عليها ما ورد في رسالة يهوذا، من الخصومة مع الشيطان علي جسد موسى، إذا يقول (وأما ميخائيل رئيس الملائكة، فلما خاصم إبليس محاجًا عن جسد موسى، لم يجسر أن يورد حكم افتراء، بل قال: لينتهرك الرب (يه9). ولم يرد شيء من هذا كله في العهد القديم. ولعل يهوذا عرفه عن طريق التقليد.
ب- وكذلك في وصف تلقي الشعب للشريعة من جبل مضطرم، يقول القديس بولس الرسول "وكان المنظر هكذا مخيفًا، حتى قال موسى: أنا مرتعب ومرتعد" (عب21:12). وهذه العبارة المنسوبة إلي موسى النبي لم ترد في سفر الخروج ولا في سفر التثنية. ولعل بولس الرسول عرفها عن طريق التقليد.
ج- كذلك نضف ما ورد في سفر الرؤيا عن ضلاله بلعام، هذه التي لم يشرح سفر العدد تفاصيلها (عدد25:24).
ولكن ورد في سفر الرؤيا (أن عندك قومًا متمسكين بتعاليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقى معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا) (رؤ14:2). وقد ذكر سفر العدد أنهم فعلوا ذلك (عد25). لكن لم يذكر أن ذلك كان من تعليم بلعام. ولعل القديس يوحنا الرائي عرف هذا عن طريق التقليد. كذلك يدخل في هذا الموضوع ما ذكره بطرس الرسول أيضًا عن بلعام (2بط15:2). وما ذكره يهوذا (يه11) من حيث أنه "أحب أجرة الإثم".
د- وبنفس الوضع تحدث يهوذا الرسول عن نبوءة لأخنوخ لم ترد في العهد القديم فقال "وتنبأ عن هؤلاء أيضًا اخنوخ السابع من آدم قائلًا: هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليصنع دينونة علي الجميع ويعاقب جميع فجارهم" (يه15:14). وهذه النبوءة لعل مصدرها التقليد أيضًا.
ه – نلاحظ أن وصية الختان استلمها أبونا إبراهيم من الله (تك17). وانتشرت بين الناس عن طريق التسليم قبل أن توجد شريعة مكتوبة تدعو إليها.