مزمور 95 - تفسير سفر المزامير
نشيد جماعي
تعتبره المشناه Mishnah مزمور السنة الجديدة، غالبًا ما جاء ذلك في تقليد قديم[1].
وهو جزء من ليتروجية عيد الخريف حيث يُعلن فيه عن يهوه بكونه خالق المسكونة وربها. يُنشد قبل أن يدخل الموكب إلى الهيكل، يُحتفل بالله كملكٍ يجدد العهد مع شعبه، ويطلب منهم حفظ وصايا العهد. وهو في هذا يقترب جدًا من المزمور 81.
1. إعداد الشعب للحوار مع الخالق
1-7.
2. الالتزام بالطاعة
8-11.
من وحي مز 95
1. إعداد الشعب للحوار مع الخالق
كان الموكب يتجه نحو الهيكل، ربما يبدأ من موضع مقدس مثل جيحون (1 مل 1: 38-40) حيث توج فيه سليمان ملكًا، ثم يتحرك نحو وادي قدرون. ينشد الشعب الآيتين 1، 2، ثم ينشد الخورس الآيات 3، 4، 5 معلنًا أن الرب هو الملك، خالق الأرض والجبال والبحار الخ. عندما يصعد الموكب جبل الرب، ويدخل الجمع الهيكل من باب الجميل يصير أمام قدس الأقداس، فيسجدون إلى الأرض ويتغنون بالعبارة 6 كدعوة للعبادة والسجود أمام الخالق. وينشد الخورس الجزء الأول من الآية 7.
هَلُمَّ نُرَنِّمُ لِلرَّبِّ،
نَهْتِفُ لِصَخْرَةِ خَلاَصِنَا [1].
في العهد القديم غالبًا ما كان هذا النشيد يُقدم بالتجاوب أو التبادل بين القادمين إلى الهيكل وخورس المرنمين، لكي تتهلل النفوس بالرب ينبوع الفرح الحقيقي.
يرى القديس أغسطينوس في هذه الدعوة للتقدم بالتسبيح لله، لا يقدر غير التائبين على ممارسته. فهي دعوة للتوبة والاعتراف لله، وبالتالي الالتصاق به، وتجديد العهد معه.
ويرى البابا أثناسيوس أن الدعوة موجهة للمسيحيين ليحتفلوا بالعيد لا بأفراح زمنية كأهل العالم، وإنما في الرب.
أما الأب أنسيمُس الأورشليمي، فيرى الدعوة هنا موجهة من كنيسة المسيح إلى اليهود منكري الإيمان، ليؤمنوا بالمسيح، ويجتمعوا معًا فيه، ويتمتعوا بفرح الروح.
إنها دعوة موجهة إلى كل نفسٍ لكي تلتصق بالرب بالتوبة، وتمتع بالشركة معه فتنعم بالفرح السماوي.
* إنه يدعونا إلى وليمة فرحٍ عظيمةٍ، ليست وليمة من هذا العالم بل في الرب...
إنه يدعوهم وهم بعيدون عنه أن يأتوا (بقوله هَلُمّ) إلى من يأتون، إلا إلى ذاك الذي إذ يقتربون منه يجتمعون معه، وباجتماعهم معه يفرحون؟
ولكن أين هم بعيدون؟ هل يمكن لإنسانٍ أن يكون بعيدًا عنه من جهة الموقع المكاني ذاك الذي هو موجود في كل مكانٍ...؟ إنهم ليسوا بعيدين من جهة المكان، وإنما بكونهم ليسوا بشبهه، بهذا يكون الإنسان بعيدًا عن الله.
ماذا يعني أنه ليس بشبهه؟ إنه يحيا حياة شريرة وله عادات رديئة، لأنه إن كنا بالعادات الصالحة نجتمع مع الله، فإننا بالعادات الشريرة ننسحب منه[2].
* أما بالنسبة لنا، فقد جاءنا العيد.
لقد جاء اليوم المقدس الذي يلزمنا فيه أن نبوِّق داعين إلى العيد. وأن نقدم أنفسنا للرب بالشكر، ناظرين إلى هذا العيد أنه عيدنا نحن. لأنه قد صار لزامًا علينا أن نقدسه، لا لأنفسنا بل للرب، وأن نفرح فيه لا في أنفسنا، بل في الرب الذي حمل أحزاننا، قائلًا: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38).
فالوثنيون وكل الغرباء عن الإيمان يحفظون العيد لإرادتهم الذاتية، وهؤلاء ليس لهم سلام، يرتكبون الشر في حق الله. أما القدِّيسون، فإذ يعيشون للرب يحفظون العيد، فيقول كل منهم: "مبتهجًا بخلاصك"، "أما نفسي فتفرح بالرب" (مز 9: 14؛ 35: 9).
فالوصية تدعو بأن يفرح الأبرار بالرب، حتى إذ يجتمعون معًا يترنمون بذلك المزمور الخاص بالعيد، وهو عام للجميع، قائلين: "هلم نرنم للرب"(مز 95: 1) وليس لأنفسنا.
* "هلم، فلنبتهج بالرب..." إن كلمة "هلُم" هي حث على حضور المتفرقين والمتباعدين واجتماعهم. فالجماعة المسيحية تدعو اليهود الذين تباعدوا وتفرقوا بمخالفتهم وعصيانهم، وتنصحهم أن يجتمعوا باتفاقٍ إلى إيمان المسيح الإله، ويرنموا بتسبحة الغلبة لله الذي ينجي المؤمنين من هلاك الشيطان، ومن اغتصاب الأعداء، وظلم الخطية، ومطالب الشريعة الموسوية وقصاصها. ويزكيهم بالإيمان ويهبهم مواهبه والتبني، ويمتعهم بالروح القدس وملكوت السماوات.
نَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِحَمْد،ٍ
وَبِتَرْنِيمَاتٍ نَهْتِفُ لَهُ [2].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ولنسبق فنبلغ إلى وجهه بالاعتراف. ولنهلل له بالمزامير".
جاءت كلمة "حمد" هنا بمعنى "الاعتراف"، سواء الاعتراف عن خطايانا أو التوبة، أو الاعتراف بعمل الله معنا، فكل ما نمارسه من أعمال صالحة هو من عمل يديه.
ليس من طريق للانضمام إلى موكب اللقاء مع الله سوى الاعتراف. فإذ نحن خطاة نحتاج دومًا إلى توبة يومية واعتراف بخطايانا. وإذ يعمل الله فينا على الدوام يليق بنا أن نعترف بذلك، مقدمين له تسابيح الحمد والشكر.
* ليتنا لا نتصور أننا ننسحب من أغنية التسبيح، وإذ ندرك أن الاعتراف هو إدراك لمعاصينا، فإن هذا في الواقع هو جزء من أغنية التسبحة، فإننا إذ نعترف بخطايانا نسبح مجد الله[3].
* لنتشجع بمحبته للبشرية، ونجتهد في أظهار التوبة قبل أن يحل اليوم الذي يزول فيه الانتفاع من الندم. الآن كل شيءٍ يعتمد علينا، أما بعد ذلك فهو وحده يدين ويصدر الحكم[4].
* وجه الله هو ابنه الذي هو صورة الآب ورسم أقنومه، الذي ظهر في العالم، كما يظهر الوجه في صورة عبدٍ. أما ظهوره الثاني فيكون مكشوفًا بوجه لاهوته، أي بجلالٍ ومجدٍ وقوةٍ، ويجلس على منبر الحكم ليدين الأحياء والأموات. فلنسبق إذن حضوره الثاني بالتوبة والاعتراف بذنوبنا، والإقرار والشكر بما أحسن به إلينا، لكي نستعطفه قبل يوم الدينونة، ونهلل له بالمزمور، أي بآلات النفس التي هي أجسادنا، ونطهرها بسيرة عفيفة فاضلة.
* علينا أن نعظهم بأن يتكلوا علي الرحمة التي التمسوها حتى لا تهلكهم قسوة العذابات المفرطة. ومن الواضح لو كان الله يريد فقط عقابنا بشدة لما قابل تعديات الخطاة بحبٍ رحيمٍ. ومن الواضح أيضًا أن الله قد أبعد من تصوره اللعنة علي الذين بسابق رحمته جعلهم قضاة لأنفسهم. لذلك يقول المكتوب بالمزمور: "نتقدم أمامه بحمدٍ، وبترنيمات نهتف له" (مز 95: 2). ويقول بولس الرسول أيضًا: "لأننا لو كنا حكمنا علي أنفسنا لما حُكم علينا" (1 كو 11: 31)[5].
الأب غريغوريوس (الكبير)
لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهٌ عَظِيمٌ،
مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ [3].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأنك أنت يا رب إله عظيم. وملك كبير على جميع الآلهة، لأن الرب لا يقصي شعبه".
يرى القديس أغسطينوس أن الله يدعو كل الأمم للإيمان والتسبيح له، وأنه لا ينسى شعبه الذي خرج منه الآباء والأنبياء، فقد آمن التلاميذ والرسل وأيضًا كثيرون يوم العنصرة (أع 2: 4) الخ. إنه لا يقصي شعبه بدخول الأمم الإيمان، إذ يطلبون في آخر الأيام الطبيب السماوي بسبب الجرح الخطير الذي لحق بهم، أي رفضهم الإيمان بالسيد المسيح.
إذ يتحدث هنا عن السيد المسيح بكونه "الرب الإله العظيم، الملك الكبير"، استخدم بعض الآباء هذه الآية مع آيات أخرى تؤكد لاهوت السيد المسيح.
* هذا القول يبكم أريوس، لأنه يشهد ويثبت أن ربنا يسوع المسيح هو إله عظيم، ويؤيده ما كتبه الرسول الإلهي في الفصل الثاني من رسالته إلى تيطس قائلًا: "منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح" (تي 12: 13). لأنه ملك كبير على جميع الآلهة وهم قوات الملائكة في السماء ومصاف القديسين على الأرض الذين يدعون آلهة بالوضع، كما قال الله لموسى: "أنت تكون له (لفرعون) إلهًا" (خر 4: 16). فالمسيح إذًا أكبر منهم لأنه إله بالحقيقة، ومساوٍ للآب والروح القدس في الجوهر.
الَّذِي بِيَدِهِ مَقَاصِيرُ الأَرْض،ِ
وَخَزَائِنُ الْجِبَالِ لَهُ [4].
جاء عن الترجمتين السبعينية والقبطية: "لأن بيده أقطار الأرض جميعها، وأشراف الجبال له هي".
يقول القديس أمبروسيوسإن ما تتسم به الأرض من استقرار ليس بفضل من عندها، وإنما حسب إرادة الله[6].
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه بحسب عنايته الإلهية وتدبيره بيده الأرض وأقطارها جميعًا، أي الأمم التي كانت مقصاة وبعيدة عن معرفته، وكما قيل في المزمور الثاني: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز 2: 8). أما "أشراف الجبال" فيعني القوات الملائكية المرتفعة شرفًا وجلالًا أعلى مما في السماوات من كواكبٍ ونجومٍ. هذه القوات الملائكية هي له، إذ هي ممتثلة في حضرته بمنزلة خدام تسبحة وتمجده بلا فتور، لأنه خلق البحر والبر وكافة الخليقة، الكل يطيعه.
إنه ضابط الكل، بيده السماء والأرض وكل سكانهما من بشرٍ وطغمات سماوية. فإن كانوا يجتمعون معًا كخورس فريد، يمجدون الخالق والمعتني بهم، فإنه ليس في حاجة إلى تسابيحهم وصلاحهم. إنما يُسر بهم لفرحهم به، ويسكب غنى نعمته عليهم.
* تأمل أي أمر مهيب أن تسمع وتتعلم عن الله فائق الوصف، غير الفاسد غير المدرك، غير المنظور، الذي في يده نهايات الأرض (مز 95: 4)، وترتعب من نظرته الأرض، يلمس الجبال فتدخن (مز 104: 32)، لا يقدر أحد أن يحتمل عظم بهاء مجده حتى أن الشاروبيم يغطون وجوههم بأجنحتهم منه، الله هذا الذي يفوق الفهم وكل إحصاء، عبر الملائكة ورؤساء الملائكة وكل القوات العلوية الروحية وتنازل ليصير إنسانًا!
يأخذ جسدًا مأخوذًا من الأرض والتراب!
يدخل في رحم عذراء وتحمله تسعة أشهر!
يقتات باللبن ويتعرض لما يتعرض له الإنسان!
فبقدر ما أن هذا الذي حدث هو غريب، يصعب على كثيرين تصديقه حتى بعد حدوثه، لهذا أرسل الأنبياء أولًا لكي يعلنون تصديقه.
الَّذِي لَهُ الْبَحْرُ وَهُوَ صَنَعَهُ،
وَيَدَاهُ سَبَكَتَا الْيَابِسَةَ [5].
هذا الموكب العجيب يتحرك على الدوام لينعم باللقاء مع المخلص وجهًا لوجهٍ. إنه ليس بالموكب المنظور، ولا يرتبط بمكانٍ معينٍ. إن وجد الإنسان في البحر أو على اليابسة، فكلاهما من صنع الخالق.
تهليلنا لا يرتبط بالمكان، بل بخالقه. ليعج البحر بكل أمواجه، وليثر عدو الخير، لوياثان، التنين العظيم، علينا، فإن مسيحنا يأمر الرياح والأمواج فتطيعه.
* ما قد قلته الآن عن الغضب خذه كقاعدة في كل تجاربك. التجربة تهجم، إنها ريح، إنك تضطرب، إنها موجة. إذن أيقظ المسيح. دعه يتكلم فيك، أيا كان هذا، "فإن الريح والبحر جميعًا تطيعه" (مت 8: 27). من هو هذا الذي يطيعه البحر؟ "الذي له البحر وهو صنعه" (مز 95: 5). "وبه كان كل شيء" (يو 1: 3). إذن فلنتشبه بالرياح وأيضًا البحر، أطع الخالق. أصغى البحر لأمر المسيح وأنت ألا تسمع؟ البحر سمع والريح هدأت، وأنت ألا تهدأ بعد؟ ماذا! إنني أقول وأصنع وأنصح، ما هذا كله إلا عدم الهدوء وعدم الرغبة في طاعة كلمة المسيح؟ لا تدع الأمواج تسيطر على اضطرابك القلبي هذا. مع أننا لسنا إلا بشر فإننا لا نيأس متى دفعتنا الريح وثارت عواصف أرواحنا، لنوقِظ المسيح حتى نبحر في بحر هادئ ونصل إلى موطننا[7].
هَلُمَّ نَسْجُدُ وَنَرْكَعُ وَنَجْثُو،
أَمَامَ الرَّبِّ خَالِقِنَا [6].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "هلم نسجد ونخر أمامه ونبكِ قدام الرب الذي خلقنا".
إن كانت الطغمات السماوية تجد سعادتها وبهجتها في السجود أمام الله العظيم في مجده، فإننا نشاركهم سعادتهم بالسجود والركوع أمامه، والبكاء قدام خالقنا.
لماذا البكاء؟ إنه ليس بكاء اليأس ولا الحيرة والقلق، لكنه لغة الإنسان العاجز عن التعبير عن مشاعره بلغة بشرية. إنه بكاء الخاطي المعترف بخطاياه، وبكاء النفس المتهللة باللقاء مع مخلصها! تمتزج دموع الندامة مع دموع الفرح.
* في كل مرة نحني الركبة ونقوم، نظهر بهذا العمل أن الخطية تطرحنا أرضًا، ومحبة المسيح تدعونا إلى السماء[8].
القديس باسيليوس الكبير
* يحثنا ربنا ومخلصنا بالنبي وينصحنا كيف يلزمنا أن نأتي إليه بعد إهمال عظيم، قائلًا: "هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا" (مز 95: 6). وأيضًا "ارجعوا إليّ بكل قلبكم، بالصوم والبكاء والحزن". إن لاحظنا بدقة أيها الإخوة الأعزاء، فإن أيام الصوم الكبير المقدسة تعني الحياة في العالم الحاضر، كما أن عيد القيامة يشير إلى النعيم الأبدي[9].
* الآن نستطيع أن نهرب. فإذ يمكننا ذلك لنقم من السقوط، فلا نيأس من أنفسنا مادمنا نهرب من الشرّ.
لقد جاء يسوع المسيح لكي ينقذ الخطاة. لنأتي ونسجد أمامه متعبِّدين، لنبكي قدَّامه (مز 95: 6).
إن الكلمة الذي يدعونا إلى التوبة ينادينا بصوتٍ عالٍ: "تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28).
إنه يوجد طريق للخلاص إذا أردنا "يُبلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيِّد الرب الدموع عن كل الوجوه" (إش 25: 8)، أي عن كل التائبين.
الرب صادق في كل أقواله (مز 145: 13). إنه لا يكذب عندما يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إش 1: 18).
إن طبيب النفوس العظيم، الذي يريد أن يحرِّر، هو مستعد أن يشفي مرضكِ، لا أنتِ وحدِك فحسب بل كل الذين أسَرَتهم الخطيَّة.
فمنه قد صدر ذلك القول الذي من شفتيه العذبتين المخلصتين قائلًا: "لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى... لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت 9: 12-13)[10].
لأَنَّهُ هُوَ إِلَهُنَا،
وَنَحْنُ شَعْبُ مَرْعَاهُ وَغَنَمُ يَدِهِ.
الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ [7].
بقوله "اليوم" يعني الزمان الحاضر، فمادمنا في هذه الحياة يليق بنا أن نسمع صوته ونطيعه، إذ يدعونا إلى التوبة والرجوع إليه.
إنه الراعي الصالح الذي يتقدم خرافه، لكي تسمع صوته وتسير وراءه في أمان واطمئنان.
لنسمع صوته مادام اليوم قائمًا، لأننا لا ندرك إن كان الغد في أيدينا أم لا.
* لنسمع صوت الكلمة الإلهي... اليوم هو رمز للنور، والنور للناس هو الكلمة الذي به نرى الله (الآب). بحق الذين يؤمنون ويطيعون، تفيض عليهم النعمة، أما الذين لا يؤمنون، ويخطئون في قلوبهم، ولا يعرفون طرق الرب... فإن الله يغضب عليهم ويهددهم[11].
* يحث الرب الشعب على التوبة، ويعدهم بغفران خطاياهم، كقول إشعياء: "أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها. ذكرني... حدث لكي تتبرر" (إش 43: 25-26). بحقٍ يحث الرب الشعب على التوبة، عندما يقول: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (مت 4: 17)، لكي بالاعتراف بالخطايا يتأهلون للاقتراب إلى ملكوت السماوات. فإنه لا يقدر أحد أن يقبل نعمة الله السماوي، ما لم يتطهر من كل غضن الخطية بالاعتراف بالتوبة خلال عطية معمودية ربنا ومخلصنا المخَّلصة[12].
2. الالتزام بالطاعة
فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ كَمَا فِي مَرِيبَةَ،
مِثْلَ يَوْمِ مَسَّةَ فِي الْبَرِّيَّة [8].
يحذرنا المرتل من قسوة القلب مثل الإسرائيليين الذين لم يريدوا الدخول في أرض الموعد، معتذرين بعدم قدرتهم على محاربة سكانها. تذمروا على الله، فحرموا أنفسهم من التمتع بأرض الموعد.
* إنه من الممكن، نعم، إنه من الممكن لكل أحدٍ قد أهمل تمامًا أن يُظهر نفسه غيورًا، أن يصلح ما لحق به من خسارة. لهذا يقول المرتل: "اليوم، إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم كما في الخصومة" (مز 95: 8). يقول هذا لكي يشجعنا ويرشدنا ولا نيأس مطلقًا... يقول "اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم في يوم الخصومة" (الترجمة السبعينية). يقول هذا لكي يحثنا ويرشدنا ألا نيأس قط، فإننا مادمنا نحن هنا، يكون لنا رجاء صالح، ونتمسك بما هو أمامنا، ونسرع نحو مكافأة دعوتنا العليا من الله[13].
* سنقتبس مثالًا آخر، وهو أشر الملوك كفرًا، الذي كان يخطئ بتأثير زوجته، لكنَّه ما أن تأسَّف ولبس المسوح، ودان أخطاءه حتى ربح لنفسه مراحم الله... فقد قال الله لإيليا: "هل رأيت كيف اتِّضع أخاب أمامي، فمن أجل إنه قد اتِّضع أمامي، لا أجلب الشر في أيامه" (1 مل ٢١: ٢٩).
ليس فقط ما حدث مع هؤلاء، بل كلمات النبي تشهد بإبادة الله لأفكار اليأس، إذ قال: "اليوم إن سمعتم صوته، فلا تُقسُّوا قلوبكم كما في مَرِيبَهَ" (مز ٩٥: ٧-٨). وكلمة "اليوم" هنا يقصد بها أية لحظة من لحظات الحياة، حتى ولو كنت في سن الشيخوخة، إن أردت. فالتوبة لا تحسب بعدد الأيَّام، بل بحالة الروح.
فأهل نينوى لم يحتاجوا إلى أيَّام كثيرة لإزالة خطاياهم، بل كان جزء صغير من يومٍ كافيًا لسحق شرورهم.
واللص أيضًا لم يكن محتاجًا إلى فترة طويلة للدخول إلى الفردوس، بل في تلك اللحظة القصيرة التي احتملت كلمة واحدة غسلت خطاياه التي ارتكبها كل أيام حياته. لقد نال المكافأة الموهوبة له من الله قبل أن ينالها الرسل.
ونحن نرى الشهداء وقد نالوا أكاليل المجد لا بعد عدة سنوات، بل بعد قليل من الأيام. وغالبًا ما كانت تتم في يومٍ واحدٍ (أي كان الواحد منهم يقبل المسيحيَّة فيستشهد في نفس اليوم).
لذلك فنحن في حاجة إلى غيرة في كل اتجاه، واستعداد عظيم للفكر، فإن هيَّأنا الضمير لكي يكره شروره الماضية، ويختار الطريق الآخر بأكثر نشاط، بحسب رغبة الله ووصاياه، فسننال خيرًا كثيرًا في فترة زمنيَّة وجيزة، فكثيرون كانوا آخرين لكنَّهم سبقوا الأوَّلين[14].
* من علمك أن تمجد رفيقك المصلوب معك؟ النور الأبدي الذي يضيء لمن هم في الظلمة!
سمع اللص هذه الكلمات: "تهلل". ليست أعمالك حسنة، لكن هنا يوجد ملك يوزع هبات. سؤالك جاء في وقته. النعمة معك، تلحقك سريعًا جدًا. "الحق أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس". "لأنك اليوم سمعت صوتي، ولم تقسِ قلبك" (مز 95: 7-8). فبسرعة أنا حكمت على آدم، وبسرعة عفوت عنك. فاليوم يكون خلاصك. آدم بالشجرة سقط، وأنت بالشجرة دخلت الفردوس. لا تخف من الحية، فإنها لن تطردك إذ سقطت من السماء (لو 10: 8)[15].
القديس كيرلس الأورشليمي
* لتعمل باجتهاد في التربة التي أنت عليها. شقق الأرض البور بالمحراث. انزع الحجارة عن حقلك، واسحق الأشواك. ليتك لا ترغب في أن يكون لك قلب قاسٍ، يجعل من كلمة الله غير فعَّالة فيه[16].
حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ.
اخْتَبَرُونِي. أَبْصَرُوا أَيْضًا فِعْلِي [9].
لقد جرب شعب بني إسرائيل الله في البرية، وصنع معهم آيات وعجائب، ومع هذا كانوا يزدادون قسوة وعدم إيمان.
أَرْبَعِينَ سَنَةً مَقَتُّ ذَلِكَ الْجِيلَ وَقُلْتُ:
هُمْ شَعْبٌ ضَالٌّ قَلْبُهُم،ْ
وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي [10].
يكشف الله عن حزنه على شعبه طوال فترة البرية التي قاربت من الأربعين سنة. لقد فسدت قلوبهم بالخطية، وانحرفت عقولهم بسبب جهلهم سبل الله واهبة الخلاص. تلتحم الخطية بالجهل، ويعمل الاثنان معًا على تحطيم القلب والعقل، فلا ينضم الإنسان إلى موكب التسبيح والتهليل السائر نحو الله للاستقرار في حضنه أبديًا.
فَأَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي،
لاَ يَدْخُلُونَ رَاحَتِي! [11]
لقد سار الشعب قديمًا في البرية لكن للأسف لم يتمتعوا بموكب التهليل الحقيقي. حرموا أنفسهم بأنفسهم من دخول أرض الموعد، حيث الراحة بالله.
يقدم لنا الكتاب المقدس رحلات كثيرة تهب راحة، منها:
1. رحلة الشعب في البرية للتمتع بأرض الموعد التي تشير إلى كنعان السماوية.
2. عودة الشعب من السبي البابلي إلى أورشليم لبناء الهيكل، إشارة إلى التحرر من عبودية إبليس والدخول إلى أورشليم العليا.
3. رحلات الشعب الثلاث سنويًا في الأعياد الكبرى إلى الهيكل في أورشليم، وتشير إلى اشتياق الكنيسة الدائم نحو الحياة السماوية المتهللة.
4. رحلة النفس من هذا العالم خلال كلمة الله للتمتع بأيقونة المسيح عريسها السماوي.
5. خبرة صعود القلب مع المسيح المصلوب القائم من الأموات الصاعد إلى السماوات خلال سرّ الإفخارستيا.
* نحن أيضًا كان لنا الوعد بالدخول إلى الملكوت بإيماننا وطريق حياتنا الروحي، وذلك مثل الذين قبلوا الوصية خلال الناموس... حتى ينالوا الأرض الموهوبة لهم. لكن رسالة الناموس التي سمعوها لم تنفعهم، إذ لم تكن ممتزجة بالإيمان في سامعيها (عب 4: 2). نحن الذين نؤمن بالمسيح وعطاياه ندخل بالإيمان إلى تلك الراحة. من الجانب الآخر، لم يدخلوا تلك الراحة، وذلك حسب النذور الذي تم خلال داود: "أقسمت في غضبي ألا يدخلوا راحتي"[17].
القديس مار أفرام السرياني
* يليق بذاك الذي يدخل إلى الراحة ألا يعود إلى الأشياء القديمة، مستخفًا بالأعمال التي تتطلبها قوانين الناموس القويمة لضبط العصيان[18].
من وحي مز 95
لأنضم إلى موكب اللقاء معك
* روحك القدوس يجذبني
فأنضم إلى موكب كنيستك.
أنطلق متهللًا للقاء معك.
أشتاق أن تشترك كل البشرية في هذا الموكب.
* نصير بالحق في عيدٍ لا ينقطع.
تتهلل نفوسنا بخلاصك العجيب.
نعترف لك بخطايانا يا غافر الخطايا.
ونعترف لك بغنى نعمتك العاملة فينا.
يتحول كل كياننا إلى آلة موسيقية،
يعزف عليها روحك الناري!
نمجدك يا أيها العظيم في حبك،
والغني في نعمتك!
* يا له من موكب عجيب!
الخطاة يصيرون بك أبرارًا.
البشريون يجتمعون مع الطغمات السماوية.
الكل يتغنون برعايتك الفائقة.
الكل يمجدونك، لأنك تأنست لخلاص البشر!
صُلبت لكي يتحرر المؤمنون به من أسر إبليس.
* يا له من موكب عجيب!
يسير إليك يا خالق السماء والأرض والبحر!
لتهب الرياح ولتثر العواصف،
فليس للطبيعة كلها أن تفسد سلام الموكب.
إنه موكب، يسير بك وإليك،
لن تستطيع قوة ما أن تعوقه!
* في هذا الموكب تسجد لك الطغمات السماوية،
فإنها لا تستطيع أن تتفرس في بهاء عظمتك.
ونسجد لك نحن الترابيين،
نعترف لك بخطايانا،
ونشكرك على مراحمك الكثيرة.
دموعنا تتسلل من عيوننا بلا توقف.
إنها دموع التوبة الصادقة،
وهي دموع الفرح باللقاء معك.