أرسلَ إبراهيم عبدهُ إلى أرضه وعشيرته، لكي يختار زوجة لابنه إسحاق، وبعدَ أن تقابل مع أهل الفتاة، وشرحَ لهم الأمر، وافقوا جميعهم على طلبته، فطلب منهم أن يصرفوه إلى سيِّده، فقالَ أخو الفتاة وأمها:
" ... لتمكث الفتاة عندنا أيامًا أو عشرة، بعد ذلكَ تمضي، فقالَ لهم: لا تعوقوني والرب قد أنجحَ طريقي، ﭐصرفوني لأذهب إلى سيدي ".
(تكوين 24 : 55 – 56).
لا تعوقوني.. والرب قد أنجحَ طريقي !!!
عبد أمين لسيِّده.. كان مشغولاً بعمل سيِّده.. فلم يقبل طلب أهل الفتاة، بأن يمكث لديهم أيامًا أُخرى.. بعدَ أن أنجزَ المهمة التي أوكلها إليه سيده..
وبالرغم من أنَّ هذه الأيام ستكون حافلة، بالطعام والشراب والفرح والتمتع، لكنهُ رفض كل هذه الأمور.. وأصَّرَ عليهم أن لا يُعيقوه، وأن يصرفوه لكي يعود إلى سيِّده..
كانَ مهتمًا بأمر واحد فقط:
أن يُنفِّذ مشيئة سيِّده بأمانة.. دون التلهي بأمور ثانوية.. أو بعبارة أوضح وأدق:
لا يريد أن يُعيقهُ شيء.. من العودة السريعة لكي يكون في خدمة سيِّده !!!
لأنَّهُ عبد.. وهوَ يعلم أنَّ العبد ليسَ ملكًا لنفسه.. بل ملك سيده.. لا مشيئة خاصة لهُ.. بل لهُ مشيئة أُخرى هيَ مشيئة سيده.. لم يعد ملكًا لنفسه، لأنَّ سيده قد ﭐشتراه.. دفع ثمنهُ فأصبح ملكًا لآخر.. وليسَ ملكًا لنفسه..
وذلكَ العبد.. كانَ " عبد محبة " بكل تأكيد.. ولو لم يكن كذلك، لكانَ مكثَ وتمتع وأكلَ وشرب، فمن سيمنعهُ؟ يُمكنهُ القول لسيده، إنَّ تلكَ هيَ الشروط التي وضعها عليَّ أهل الفتاة.. لكنهُ لم يفعل.. لأنَّهُ كانَ أمينًا لسيده.. وكانَ مشغولاً بما يطلبهُ منهُ سيده، حتَّى لو لم يكن سيده يراقبهُ..
ما معنى " عبد محبة "؟
كانَ لزامًا على من يشتري عبد عبراني، أن يُطلقهُ في السنة السابعة، لكن إن قالَ ذلكَ العبد لسيِّده: "... أحبُّ سيدي وﭐمرأتي وأولادي، لا أخرج حرًّا، يُقدِّمهُ سيِّدهُ إلى الله، ويُقرِّبهُ إلى الباب أو إلى القائمة، ويثقب سيِّدهُ أُذنه بالمثقب، فيخدمهُ إلى الأبد " (خروج 21 : 5 – 6).
عبد ﭐختياري وليس عبد مُكره أن يخدم سيِّده.. وذلكَ لأنَّهُ أحبَّ سيده، وليسَ هناك سبب آخر قطعًا.. هذا هوَ مفهوم العبد في العهد الجديد اليوم..
" عبد محبة ".
الرب يسوع المسيح ﭐشترانا ليسَ بفضة وذهب، بل بدم ثمين، والكلمة تقول أننا لم نعد ملكًا لأنفسنا.. بل لمن ﭐشترانا.. عبيد للرب يسوع المسيح..
لقد خلَّصنا دون أن ندفع أي ثمن.. ومنحنا الحياة الأبديَّة.. ولو أمضيت كل عمرك على هذه الأرض، دون أن تخدمهُ وتسلك في دعوته، وتُنفِّذ مشيئته وخطته لحياتك.. فهوَ لن يتوقف لحظة واحدة عن حبك، لأنَّ محبته غير مشروطة.. ولن تخسر خلاصك، وعندما تغادر هذه الأرض فسوفَ تذهب إلى السماء بكل تأكيد، لأنكّ ﭐبن لهُ، والابن يمكث في بيت أبيه إلى الأبد..
لكـــن.. دعوتهُ لكَ اليوم أن تكون " عبد محبة "، فهوَ لن يجبرك على القيام بشيء رغمًا عنك، وهوَ لا يريد منكَ أي شيء تدفعهُ لهُ بالمقابل، لقاء الخلاص الذي أعطاك إياه..
فالخلاص هو هبة مجانية من الرب، ولا يُمكن لأحد أن يدفع ثمنها..
لكنهُ يسرُّ قلبه أن يسمع منكَ تقول لهُ:
" أحبُّ سيدي.. وأريد أن أخدمهُ إلى الأبد.. "..
ويسرُّ قلبهُ أيضًا أن يسمعك تقول لكل من أو ما يعترض خدمتك وولاءَك الكاملين للرب:
لا تعوقوني والرب قد أنجحَ طريقي، ﭐصرفوني لأذهب إلى سيدي !!!
بولس.. يعقوب.. بطرس.. يهوذا (ليس الاسخريوطي بالطبع)، رجالات لله، فهموا ما تعنيه كلمة:
" عبد محبة "، فأطلقوا على أنفسهم لقب " عبد ":
" بولس عبد ليسوع المسيح... " (رومية 1 : 1).
" يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح... " (يعقوب 1 : 1).
" سمعان بطرس عبد يسوع المسيح... " (2 بطرس 1 : 1).
" يهوذا عبد يسوع المسيح... " (يهوذا 1 : 1).
وماذا عن الرب يسوع نفسه، عندما جاءَ إلى أرضنا لكي يفتدينا ويخلصنا؟
" ... أخلى نفسهُ آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجِد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاعَ حتَّى الموت، موت الصليب " (فيلبي 2 : 7 – 8).
وبرهن خلال حياته على هذه الأرض، أنَّهُ كعبد لا مشيئة لهُ، بل ينفِّذ مشيئة الآب الذي أرسلهُ:
" أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا، كما أسمع أُدين ودينونتي عادلة، لأنِّي لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني... لأنِّي قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني " (يوحنا 5 : 30، 6 : 38).
هل فعلاً أنَّ الرب لم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا من نفسه؟
بالطبع هوَ يستطيع أن يفعل كل شيء.. لكنهُ أخلى نفسه طوعًا.. وصار عبدًا.. وأطاعَ الآب حتَّى الموت.. لكي يُعلِّمنا أن نحتذي به..
وهوَ لم يدع شيئًا يعيقهُ.. بل كانَ مُكرَّسًا تكريسًا بالكامل من أجل المهمة التي جاءَ من أجلها..
لا تعوقوني والرب قد أنجحَ طريقي، ﭐصرفوني لأذهب إلى سيدي..
هل هذا الكلام ينطبق على حياتنا اليوم؟
هل نقول لمن ولكل من يحاول أن يعيقنا عن التكريس الكامل للرب.. لا تعوقوني؟
ليسَ لديَّ وقت للتلهي والإنشغال بأمور ثانوية.. سيدي ينتظرني.. فٱصرفوني إليه..
نتأمل بعد لكي يتعمَّق هذا الدرس فينا اليوم..
أعطى الرب هذا المثل عندما كانَ على أرضنا: " فقالَ لهُ: إنسان صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين، وأرسلَ عبدهُ في ساعة العشاء، ليقول للمدعوين تعالوا لأنَّ كل شيء قد أُعدَّ، فٱبتدأَ الجميع برأي واحد يستعفون، قال لهُ الأول: إنِّي ﭐشتريت حقلاً وأنا مضطر أن أخرج وأنظره، أسألك أن تعفيني، وقال آخر: إنِّي ﭐشتريت خمسة أزواج بقر، وأنا ماضٍ لأمتحنها، أسألك أن تعفيني، وقال آخر: إنِّي تزوجت بٱمرأة، فلذلك لا أقدر أن أجيء، فأتى ذلك العبد وأخبر سيده بذلك، حينئذٍ غضب رب البيت وقال لعبده: ﭐخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وﭐدخِل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي، فقال العبد: يا سيد قد صار كما أمرت، ويوجد أيضًا مكان، فقال السيد للعبد: ﭐخرج إلى الطرق والسياجات وﭐلزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي، لأنِّي أقول لكم: أنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي، وكان جموع كثيرة سائرين معه فٱلتفت وقال لهم: إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وﭐمرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتَّى نفسه أيضًا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا، ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي، فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا " (لوقا 14 : 16 – 27).
أنتَ مدعو بكل تأكيد.. وللرب خطة واضحة ودقيقة ومُفصَّلة لكل واحد منَّا.. وقد أعدَّها الرب خصِّيصًا لكَ.. تتناسب مع المواهب التي أعطاك إياها، ومع الوزنات التي وضعها بين يديك..
فلا تستعفي.. ولا تتحجج بحجج واهية، فالرب يعرف كل شيء.. فاحص القلوب هوَ..
لا تسمح للحقول.. ولا للبقر.. ولا للزيجات.. أن يشغلوك عن الرب.. عن الدعوة..
وهذه الكلمات هي رمزية بالطبع، وهيَ تشمل كل أمور الحياة.. من الاهتمام بالعائلة.. وبالعمل.. والمقتنيات... وما إلى ما هنالك من أمور مشابهة..
وبعد أن أعطى الرب ذلكَ المثل، قال:
إنَّ من لا يأتي إليَّ مُتخلِّيًا عن كل تلكَ الأمور، ويحمل صليبه.. لا يستطيع أن يكون تلميذًا لي..
فأنا لا أعتقد أنَّ الموضوع هنا موضوع الخلاص، ونوال الحياة الأبدية.. بل هوَ موضوع التكريس.. أن نكون تلاميذ للرب، وخدَّام لهُ.. لا نجعل شيء يعيقنا عن إتمام دعوته لنا..
لا.. ليسَ المطلوب أن لا نعمل.. ولا ندرس.. ولا نهتم بعائلاتنا.. ولا نخرج من منازلنا لقضاء وقت في التنزه والراحة.. وهيَ ليست دعوة للتديُّن أو التصوُّف والتنسُّك وعدم الاختلاط بالناس..
لا ليسَ هذا هوَ المقصود..
فعندما جاءَ التلاميذ إلى الرب، حينما كان قرب بئر السامرة، وقالوا لهُ، يا معلِّم كُل، قالَ لهم:
" ... أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم... طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمِّم عمله " (يوحنا 4 : 32 – 34).
ألم يكن الرب يأكل خلال وجوده على أرضنا؟
بالطبع كانَ يأكل وكانَ يشرب، وقد حضر زفافًا، وقد دُعيَ إلى ولائم...
فليسَ هذا هوَ المقصود بكلامه.. بل المقصود، أنَّهُ عندما يُصبح ﭐنشغالنا بالطعام والشراب والولائم والأفراح، وكسب المال، والاهتمام الزائد بأمور كثيرة... يُعيقنا بأن نقوم بما يطلبهُ الرب منَّا.. ويُعيق تنفيذنا لمشيئة الآب..هنا تقع المشكلة..
وعندما لا يعود الرب أولاً في حياتنا.. هنا تقع المشكلة..
وعندما تعترض الصعاب والتحديات دعوتنا وإخلاصنا للرب.. فنتراجع عوضًا عن أن نحمل الصليب ونتبعه.. هنا تقع المشكلة..
وعندما نرى النفوس من حولنا تترك هذه الدنيا إلى بحيرة النار والكبريت.. أو عندما نرى الاحتياجات الكثيرة، كشفاء المرضى وتعزية الحزانى.. وزيارة المسجونين.. وتحرير المُقيَّدين.. نستعفي ونكون مشغولين بالحقول والبقر والزيجات.. هنا تقع المشكلة..
والحل واحد.. أن نُطلق الصوت عاليًا ومن كل القلب، في وجه كل ما يعترض طريقنا ودعوتنا قائلين: لا تعوقوني والرب قد أنجحَ طريقي، ﭐصرفوني لأذهب إلى سيدي..
أحبائي: هناكَ مثل عامي يقول:
" الذي يُريد أن يكون جمَّال.. عليه أن يُعلِّي باب داره ".
أي أنَّ الذي يرغب بأن يقتني جمالاً، فعليه أن يُعلِّي باب سكناه، لكي تتمكن الجمال من الدخول، ومعناه أن من يُقرِّر القيام بأمر مُعيِّن، فعليه أن يُوفِّر لهُ كل سبل النجاح، مهما غلت التضحيات..
لقد قرَّرنا ككنيسـة مـن خـلال الرؤيـة التـي تعهدنـا أن نلتزم بها، أن نكون " جمَّالين "، ولذلكَ ينبغي علينا أن نُعلِّي باب دارنا.. والوضع اليوم هوَ أكثر من رؤية.. إنَّهُ ﭐحتياج ماس للغاية.. الوضع في بلدنا ومنطقتنا يفرض نفسهُ علينا، ولا يترك لنا الخيار..
بلدنا يتخبَّط في أزمات كثيرة وصراعات كثيرة.. وقد عايشَ أغلبنا ما مررنا بهِ لسنوات طوال، والوضع الحالي يُهدِّد بعودة الحرب والشغب، وكلنا نرى الانقسامات الحادة، والفرقة بين الناس.. أضف على ذلكَ بُعْد الناس عن الرب.. والفساد الذي نراه في بلدنا.. وكل أنواع الشرور والخطايا.. كما نرى تعب الناس ويأسها، وجهلها لكلمة الرب وطرق الرب.. نرى معاناتها وأمراضها وقيودها، كما نرى السجن الكبير الذي يأسر فيه إبليس الناس..
والرب أقامنا.. وأعدَّنا.. ومنحنا روحه ومواهب روحه.. ومسحة خاصة للعمل في حقله.. وأعطانا وعودًا ثمينة.. ونبؤات كبيرة.. ووعدنا من مطلع هذا العام بسنة يوبيل.. سنة مقبولة لدى الرب.. سنة لاسترداد المسلوب.. للتعويض.. لإطلاق الأسرى.. لإيفاء ديوننا.. لقلب عروش مملكة الظلمة في بلدنا.. ولإقامة عرش للرب يسوع المسيح..
فماذا نفعل أمام كل هذا؟
هل نستعفي.. لأننا مشغولين بأمور كثيرة تُعيق دعوتنا وتُعيق متطلبات تتميم الرؤية والدعوة؟
أم نقول للجميع ولكل أمر تحت السماء:
لا تعوقوني والرب قد أنجحَ طريقي، ﭐصرفوني لأذهب إلى سيدي..
أحبائي: وعود الرب ستتحقَّق مئة بالمئة.. والنبؤات التي أعطانا إياها الرب ستتحقَّق مئة بالمئة.. وسنة اليوبيل ستأتي علينا خيراتها بكل تأكيد..
لكن السؤال يبقى.. هل ونحن أولاد البيت، ونحن المدعوين إلى هذا العشاء الذي أعدَّهُ الرب لنا، نستعفي، ونترك الرب يُوجِّه دعوته إلى شوارع المدينة وأزقتها.. ونحرم أنفسنا من تذوق عشائه والتمتع بكل البركات والخيرات التي تنتظرنا؟
الرب لا يريدك أن تخسر هذه الامتيازات.. وقد أعدَّ أفخر وليمة وعشاء لكَ..
لكن القرار يعود لكَ وحدك !!!