رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يعقوب أبو الآباء في رحلة العودة: خوف من أخيه عيسو انتهي أبونا يعقوب من مشاكله العائلية، من جهة صراعات زوجتيه، ومن مطاردة خاله لابان، وسار في طريق عودته إلي بيت أبيه. رعبه من عيسو لا أقول كان خائفًا من عيسو، بل كان مرتعبًا ومرتعدًا.. كان مرتعبًا منه، علي الرغم من كل وعود الله ومساندته له. لعل عبارة عيسو كانت لا تزال ترن في أذنيه "أقوم واقتل يعقوب أخي" (تك 27: 41). ولعله كان يذكر كيف أخذ من أخيه البكورية. كيف استغل جوعه في ذلك اليوم،وقال له: بعني بكوريتك.. واحلف لي (تك 25: 31: 33). ولعله تذكر أيضًا كيف أخذ منه البركة بالخداع. كيف قال لأبيه "أنا بكرك عيسو". وكيف قال أبوه لعيسو "قد جاء اخوك بمكر، وأخذ بركتك" (تك 27: 19، 35). كانت خطايا ارتكابها منذ عشرين عامًا، لا تزال تطارده وتزعجه.. لقد أخطأ منذ عشرين عامًا، أتري قد جاء الآن وقت الحساب..؟ أترى هل سيلتقي به عيسو في البرية -بعيدًا عن أبيه وأمه- وينتقم منه؟ لاشك أنه مذنب أمامه. والسنوات الطويلة التي مضت لم تمح الذنب بعد.. إن الله أن يغفر الذنوب. أما عيسو، فهل يستطيع أن يغفر؟! إنه صياد يعرف كيف يضرب بالنبال من بعد. ولا يتحرك قلبه حينما يجد فريسته تتلوي قدامه من الألم.. أتراه سوف يصيدني أنا أيضًا؟ هكذا كانت الأفكار تتعب يعقوب.. كان يدفع ثمن خطيئته خوفًا. الخوف يتعقبه مثلما تعقب هو عيسو أخاه(تك 27: 36) (تك 25: 26) كان الخوف جزء من طبيعته، وكان يزيده آمران: شعوره بالذنب الذي اقترفه تجاه أخيه، ويقينه من شده أخيه وقسوته.. والمعروف أن البشرية لم تعرف الخوف إلا بعد الخطية ونتيجة لها، فأبونا آدم بعد أن أخطأ، خاف واختبأ وراء الأشجار (تك 3: 8). وخوف يعقوب أنساه وعود الله! أو لم تكن الوعود تطفي لطمأنته!! كان الوعد الأول الذي سمعه من فم الله، هو: "ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلي الأرض. لأني لا أتركك، حوتي افعل ما كلمتك به" (تك 28: 15). وكان الوعد الثاني هو قول الرب له "أرجع إلي أرض آبائك وإلي عشيرتك،، فأكون معك (تك 31: 3). وفي المرة الثالثة قال له الله "أنا إله بيت إيل حيث مسحت عمودًا..الآن قم أخرج من هذه الأرض، وارجع إلي أرض ميلادك" (تك 31: 13).. ومادام الله هو الذي أمره بالرجوع، فهو الذي سيحفظه في رجوعه، حسب وعده الإلهي "أحفظك حيثما تذهب". ومع ذلك بقي يعقوب خائفًا!! وكان لابد أن يعمل الله عملًا آخر ليزيل عنه الخوف: ففيما كان يعقوب سائرًا في الطريق "لاقاه ملائكة الله. وقال يعقوب إذ رآهم: هذا جيش الله.." (تك 32: 1، 2). أن ملاكًا واحدًا يكفي لطمانه الخائف. ولكن يبدو أن خوف يعقوب كان بدرجة يحتاج فيها إلي ملاقاة جيش من ملائكة! هذا من جهة الإيمان. أما من جهة العمل فقد تصرف يعقوب هكذا: إجراءات اللقاء أرسل أولًا رسلًا قدامه إلي عيسو أخيه لاسترضائه. "وأمرهم هكذا تقولون لسيدي عيسو: هكذا قال عبدك يعقوب: تغربت عند لابان: "ولبثت إلي الآن. وقد صار لي بقر وحمير، وغنم وعبيد وأماء. وأرسلت لأخبر سيدي لأجد نعمة في عينيك" (32: 3- 5). وسنري أن عبارتي "سيدي وعبدك" ستتكرر أن كثيرًا منه. بهاتين العبارتين سوف يسترضي قلب عيسو. لماذا؟ لأن البركة التي أخذها يعقوب هي "كن سيدًا لأخوتك. وليسجد لك بنو أمك" (تك 27: 29). وحينما طلب عيسو البركة من أبيه إسحق، قال له أبوه عن يعقوب "إني قد جعلته سيدًا لك. ودفعت إليه جميع أخوته عبيدًا.. فماذا اصنع لك؟!" (تك 27: 37). فكان يعقوب يقول لعيسو: أن كانت بركتي هذه تتعبك، فمن الآن سأقول لك (سيدي) وسوف أصير أنا (عبدك يعقوب). أما عن عبارة "يسجد لك بنو أمك "التي قيلت لي. فسوف تراني ساجدًا لك مرات عديدة، لتستريح..! واستمر يعقوب في خوفه لما رجع رسله إيه.. عادوا إليه وقالوا له عن عيسو"هو أيضا قادم للقائك، ومعه اربع مائه رجل" (تك 32: 6). أربعمائة رجل؟! يا للهول. أن عيسو وحده مخيف ومرعب فكم يكون إذن، ومعه أربعمائة رجل؟! هنا ويقول الكتاب "فخاف يعقوب جدًا، وضاق به الأمر". فماذا فعل في خوفه وشعوره بالخطر القادم؟ "قسم القوم الذين معه، والغنم والبقر والجمال، إلي جيشين. وقال: أن جاء عيسو إلي الجيش الواحد وضربه، يكون الجيش الباقي ناجيًا" (تك 32: 7، 89. إذن أين إيمانك يا يعقوب بالوعود الإلهية المتكررة؟! وما مدي تأثرك بما رأيته من جيش الملائكة الذي ظهر لك؟! أن الخوف قد احدث شللًا في مشاعره.. وهنا صلي يعقوب صلاه مؤثرة، قال فيها: " يا إله أبى إبراهيم، وإله أبي إسحق، الذي قال لي: أرجع إلي أرضك وإلي عشيرتك، فأحسن إليك. صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلي عبدك. فإني بعصاي عبرت هذا الأردن. والآن قد صرت جيشين. نجني من يد أخي، من يد عيسو. لأني خائف منه أن يأتي ويضربني الأم مع البنين. وأنت قد قلت: أني أحسن إليك، واجعل نسلك كرمل البحر الذي لا يعد من الكثرة" (تك 32: 9- 12). وبات هناك في تلك الليلة. ونلاحظ في صلاة أبينا يعقوب: إنه ضعيف، ويعترف لله بضعفه. وهو خائف، ويعترف إمام الله بخوفه، وهو أيضًا يعترف بإحسانات الله إليه،ويعترف بأنه صغير عنها أي لا يستحقها. كذلك هو يذكر الله بوعوده له أنه سيجعل نسله كرمل البحر في الكثرة. فكيف يتحقق هذا الوعد، إن جاء عيسو فضرب الأم مع البنين. وهو في كل ذلك يطلب المعونة قائلًا من يد آخى.. لأني منه". ما أعجب هذا المر، أن يطلب أخ النجاة من أخيه. ولكن الطبيعة البشرية هي هكذا: إن دخلها الشر، يمكن أن يؤذي الأخ أخاه: حدث هذا حينما قام قايين علي هابيل فقتله (تك 4: 8). وحينما قال عيسو "أقتل يعقوب أخي" (تك 27: 41). وهكذا فعل فيما بعد أخوة يوسف الذين "احتالوا عليه ليميتوه" (تك 37: 18). لولا أن أنقذه من القتل، فباعه أخوته لقافلة من الإسماعليين (تك 37: 26، 28).. وأمر أبشالوم غلمانه فقتلوا أمنون أخاه (2صم 13: 28، 29). وفي الكتاب المقدس أمثله أخري لا داعي لذكرها الآن. نرجع إلي قصة أبينا يعقوب في خوفه من أخيه عيسو. فنقول كما أنه أرسل إليه رسلًا، وحاول استرضاءه بعبارتي (سيدي، وعبدك). واستئذانه في المجيء، وإخباره بما له من غنم وبقر وأبناء وجوار، حتى لا يفاجأ بهذا.. فإنه أيضًا: حاول استرضاء أخيه بالهدايا. وكان كريمًا في هداياه. أرسل إليه "مئتي عنز وعشرين تيسًا. مئتي نعجة وعشرين كبشًا. ثلاثين ناقه مرضعة وأولادها. أربعين بقرة وعشرة ثيران. وعشرين أتانًا وعشرة حمير. ودفعها إلي أيدي عبيده قطيعًا علي حده "ليجتازوا أمامه، جاعلين بين قطيع وقطيع (تك 32: 14-16). وقال "استعطف وجهه بالهدية السائرة أمامي، وبعد ذلك انظر وجهه" (تك 32: 20). الظاهر أن الله أراد أن ينقي أملاك يعقوب مما أخذه من لابان. والعجيب ان يعقوب لم يخف عن أحد احترامه (لسيده) عيسو، وخوفه منه. فعل هذا كما قلنا مع الرسل الذين أرسلهم إليه. وفعل كذلك مع العبيد الذين حملوا الهدايا "أمر الأول قائلًا: إذا صادفك عيسو أخي، وسألك قائلًا: لمن أنت؟ وإلي أين تذهب؟ ولمن هذا الذي قدامك؟ تقول: لعبدك يعقوب. هو هدية مرسلة لسيدي عيسو وهاهو وراءنا "وبمثل هذا الكلام أمر الثاني والثالث وجميع السائرين وراء القطعان (تك 32: 17-19). مباركة الله له كان لابد من بركة قوية تصحبه، قبل المرحلة الخيرة إلي اللقاء. عبر بأولاده وزوجتيه وجاريته وكل ماله عبر مخاضه يبوق، ثم بقي وحده، منتظرًا عمل الله.. أراد الله أن يرفع معنويات هذا الخائف، بأن يريه أنه يمكن أن يصارع ويغلب. فظهر له في هيئة إنسان، يمكن ليعقوب أن يصارعه ويغلبه. تمامًا كأب يداعب طفله، ويظهر لهذا الطفل أنه يغلبه فيفرح..! وبدا أن يعقوب كان قويًا في مصارعته. وطلب منه صاحب الرؤيا أن يطلقه، ويعقوب يجيب: لا أطلقك حتى تباركني. فباركه. ولكن ضربه علي حق فخذه، فصار يخمع عليه كان الله يريده أن يفرح بانتصاره، ولكن لا يكون انتصار سبب كبرياء له.. لذلك سمح له أن ينتصر، وغير أسمه إلي إسرائيل، قائلًا له "لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" (تك 32: 22-28). ثم ضربه علي حق فخذه.. ودعا يعقوب أسم المكان "فنيئيل" قائلًا "لأني نظرت الله وجهًا لوجه، ونجيت نفسي" (تك 32: 30). كم مرة ظهر الله لهذا الله لهذا الضعيف ليقويه وينقذه من خوفه. لقاء عجيب للأخوين لا الرؤيا التي رآها يعقوب أفقدته تواضعه، ولا البركة التي نالها من الله. فلما رأي عيسو مقبلًا ومعه أربعمائة رجل، قسم أسرته إلي ثلاثة أقسام: الجاريتين وأولادهما أولًا، ليكونوا في مقدمة المواجهة. ثم ليئة وأولادها وراءهم، ثم راحيل ويوسف أخيرًا.. لكي تسجد كل مجموعة منهم أمام عيسو أخيه. "أما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلي الأرض سبع مرات حتى اقترب إلي أخيه" (تك 33: 3). وهنا حدث أمر عجيب غير متوقع، انتصر فيه تواضع يعقوب علي قسوة عيسو!! "فركض عيسو للقائه، وعانقه، ووقع علي عنقه وقبله، وبكيا" (تك 33: 4). لاشك أن يعقوب كان يحسب ألف حساب لهذا اللقاء، ويتصور أخطارًا مخيفة تحيط به. أما أن يركض عيسو للقائه ويقبله، فذلك أمر عجيب ما كان يتصوره..! أما بكاء عيسو الجبار، علي عنق أخيه يعقوب الذي أخذ منه البكورية والبركة، فهذا هو العجب العجاب..!! كان الله يعمل في قلب عيسو أمام عيسو، فسأل يعقوب:ماذا منك كل هذا الجيش الذي صادفته؟ فأجاب باتضاع "لأجد نعمة في عيني سيدي". وحاول عيسو أن يمتنع عن قبول هدية يعقوب. فأجابه ذاك "إن وجدت نعمة في عينيك، تأخذ هديتك من يدي لأني رأيت وجهك كما يري وجه الله، فرضيت علي" (تك 33: 10). وألح عليه فأخذ.. حقًا، أن "الجواب اللين يصرف الغضب" (أم 15: 1). وهكذا كانت كلمات يعقوب. لقد استخدم يعقوب مع عيسو كل الوسائل الممكنة: أرسل رسلًا، وأرسل هدايا كثيرة، وأستخدم التواضع العميق، في عبارتي سيدي وعبدك، وفي السجود إمامه هو وكل أسرته، وفي كلمات الاستعطاف "لأجد نعمة في عيني سيدي "رأيت وجهك كما يروي وجه الله".. أمران لم يشأ يعقوب أن يستخدمهما أبدًا، وهما الكبرياء ومقابلة العنف بالعنف. لم يذكر إطلاقًا أنه صاحب البركة والمواعيد الإلهية. ولم يضع أمامه عبارة: "كن سيدًا لأخوتك، وليسجد لك بنو أمك" (تك 27: 29). ولم يغتر بما رآه من رؤى، وما سمعه من عبارات الحفظ. ولم يضع في ذهنه إطلاقًا أن يستعد لمقابلة العنف بالعنف فقد كان باستمرار يشعر بضعفه كما أنه استخدم أسلوب الحكمة في استعداده للقاء أخيه. ولما دعاه عيسو أن يذهبا معًا، فضل أن يسير وراءه، معتذرًا بالغنم المرضعة، وبأنه لابد أن يسير علي مهل. لأن سيره وراء أخيه، علي مهله، أكثر آمنا.. ومرَّ ذلك اليوم الرهيب العجيب على خير. |
|