يعقوب أبو الآباء في سعيه وراء البكورية والبركة
شهوة البكورية
كانت البكورية أمرًا عظيمًا جدًا في زمن الآباء الأول، تستحق أن تكون شهوة للأبناء.
فالبكر كان هو الذي يصير كاهنًا للأسرة بعد أبيه، قبل تأسيس الكهنوت الهاروني. بل إن الرب قال لموسى النبي فيما بعد "قدس لي كل بكر، فاتح رحم.. إنه لي" (خر 13: 2). كما كان البكر في زمن آبائنا إبراهيم واسحق، هو الذي سيأتي منه المسيح حسب وعد الرب لأبينا إبراهيم "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك 22: 18). ونفس هذه البركة أعطاها الرب لاسحق (تك 26: 4)
سعي يعقوب إلي البكورية كان سعيًا مقدسًا. ولكنه لم يستخدم فيه أسلوبًا روحيًا، بل أسلوبًا انتهازيًا.
استخدم يعقوب أسلوبا خاليًا تمامًا من المحبة الأخوية، وخاليًا من روح العطاء والبذل. وعجيبة هذه العلاقة بينه وبين عيسو. أنهما أخوان. وليسا فقط أخوين، بل هما شقيقان، بل هما توأمان. ولكن الموقف كانت تسوده بلا شك روح المصلحة الذاتية
واستغل الشيطان الموقف فاستخدم وسيلتين متناقضتين:
فكان أسلوبه مع عيسو، عكس أسلوبه مع يعقوب:
فبالنسبة إلي عيسو، قال له الشيطان: بماذا تنفعك البكورية أن كنت علي وشك الموت جوعًا وإعياء. وأطاع عيسو هذا الفكر فقال: أنا ماض إلي الموت، فلماذا لي بكورية؟!" (تك 25: 32). أما بالنسبة إلي يعقوب، فقال له شيطان: أحرص علي البكورية بكافة الطرق. خذها بأي ثمن، ولو بطريقة استغلالية.. وقد كان. لم يستطيع يعقوب أن يحصل علي البكورية عند الخروج من بطن أمه، إذا سبقه عيسو لم يستطيع يعقوب أن يحصل علي البكورية عند الخروج من بطن أمه، إذا سبقه عيسو فتعقب عيسو ليأخذ منه هذه البكورية بعد خروجهما من بطن أمهما بسنوات طويلة.
نلاحظ أن البكورية قد تغيرت نعمها بعد يعقوب:
لم يعد البكر هو الذي يأتي من نسله المسيح. فبكر يعقوب هو رأوبين الذي لم يأت السيد المسيح من نسله، إنما من نسل يهوذا ولم يكن هو البكر. كما أن الكهنوت الهاروني جاء من نسل لاوي هو البكر.. لم يعد هناك داع بعد يعقوب وعيسو للصراع علي البكورية. فحتى بالنسبة إلي يهوذا الذي جاء السيد المسيح من نسله: جاء السيد المسيح من نسل داود. ولم يكن داود هو البكر بين أبناء يسي، بل كان أصغرهم (1 صم 16: 11).
بقت إذن البركة التي تصارع عليها يعقوب وعيسو..
البركة
و البركة شيء مقدس. وينبغي أن يكون الحصول عليها بطريقة مقدسة، وليس بأسلوب الخداع والغش..!! ولكن لعل يعقوب يعتذر بأن هذا الغش قد دفعته إليه أمه، وطاعة الأم أمر واجب ولكننا نقول:
حدود طاعة الأم
ليس من الجائز أطاعة الأم بعصيان الله..
نعم، ليس من الجائز إطاعة الأم في الخطية.. فكل طاعة ينبغي أن تكون داخل طاعة الله.. فإن أمرته أمه بذلك اللون من الكذب والخداع، ما كان يجب عليه أن يطيع.
أما الذي جعله يطيع أمه، فهو شهوة قلبه داخله!
هو كان يشتهي أن يحصل علي بركة أبيه. فلما دفعته أمه في تلك الوسيلة من الغش والخداع، تلقف نصيحتها كمعين له علي تحقيق رغبته التي ظهرت من قبل في موضوع البكورية. فاستغلاله لجوع أخيه وشراء البكورية منه بأكلة عدس، لم يكن ذلك بسبب نصيحته من الأم، بل كان عملًا تلقائيًا لشهوته الداخلية. كذلك كيف يطيع أمه بخداع لأبيه؟!
هنا ونتعرض لمشكلة عائلية كانت قائمة: وهي اختلاف اتجاه كل من الأب والأم.
كان استحق قديسًا، وكانت رفقة قديسة. ولكن مشاعرهما تجاه الابنين كانت في طريقين عكسيين. كان اسحق يجب عيسو، ورفقة تحب يعقوب. فهل تسير البركة تبعًا لمشاعر الأب، أم مشاعر الأم. وما السبب؟ كان عيسو صيادًا، ومن صيده كان يأتي إلي فم أبيه بما يطعمه. وهنا يقول الكتاب "أحب أسحق عيسو، لأن في فمه صيدًا" (تك 25: 28). وهكذا نجد اسحق يقول لعيسو "الآن خذ عدتك، جعبتك وقوسك. وأخرج إلى البرية، وتصيدًا لي صيدًا. وأصنع لي أطعمة كما أحب، ائتني بها لآكل، حتى تباركك نفسي قبل أن أموت" (تك 27: 3، 4).
أما يعقوب، فكان ينطبق عليه المثل القائل إنه إبن أمه..
كانت أمه تحبه.. لم يكن صيادًا، وأنما كان "يسكن الخيام". يجلس إلي أمه، ويتعلم منها طريقة الطبخ الجيد. وهو الذي قد طبخ العدس الأحمر الذي اشتهاه عيسو، وبه باع له بكوريته (تك 25: 29-34). وكان يعقوب يحب أمه، ويسمع مشورتها، وهي التي تدبر له حياته. إن نصحته أن يخدع أباه، يخدعه. وأن قالت له أهرب إلي خالك لابان، وأقم عنده حتى يرتد سخط أخيك (تك 27: 43، 44). فإن يسمع نصيحتها ويطيعها. كما تقول له، هكذا يفعل.. ومن هنا بدأت حيلة، تدبرها رفقة، وينقذها يعقوب.
عيسو يخرج ليصيد صيدًا يأتي به إلي أبيه. ورفقة تدبر كيف تصيد البركة وتأتي بها إلي يعقوب.. وكل من رفقة واسحق، كانت له دوافعه الروحية:
بالنسبة إلي إسحق، كان من الطبيعي أن تعطي البركة لعيسو، لأنه أبنه الأكبر. وبالنسبة إلي رفقة، يجب أن تعطي البركة ليعقوب لأنه هكذا قال لها الرب "من أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوي علي شعب، وكبير يستعد لصغير" (تك 25: 33).
إذن ينبغي أن تكون السيادة ليعقوب الصغير، حسب إرادة الله وتدبيره، وإعلانه من قبل ولادتهما،عيب رفقة الأساسي، أنها لم تنتظر الرب..
ظنت أن الرب قد تأخر، فلجأت إلي الطرق البشرية، لتحقق بها الإرادة الإلهية!! كان يجب أن تثق بالله وصدق مواعيده، وتنتظر الرب. ولكنها وجدت أن الساعة الحرجة قد حلت. وإسحق أرسل عيسو ليحضر الصيد ويباركه. لذلك يجب أن تتصرف بسرعة.. هل كان الحل أن تذكر إسحق بكلمات الرب، كي يؤجل مبارك بسرعة.. هل كان الحل أن تذكر إسحق بكلمات الرب، لكي يؤجل مباركته لعيسو ريثما يتضح الأمر بالأكثر؟.. إنها لم تفعل هكذا.. وبدأ ذكاؤها البشري يتصرف. فرأت أن ينتحل يعقوب شخصية عيسو، ويأخذ البركة من أبية بأسلوب الخداع.. وبخطية فيها كذب وغش!
خِداعه لأبيه
ويعقوب لم يكن رافضًا للخطية، إنما كان متخوفًا من نتائجها، ومن صعوبتها ومن انكشافها!
لم يقل "كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ؟!" كما قال أبنه يوسف بعد عشرات السنوات (تك 39: 9). إنما قال "عيسو أخي رجل أشعر، وأنا رجل أملس. ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون، وأجلب علي نفسي لعنه لا بركة" (تك 27: 11، 12). هنا لا يرفض الخطية. إنما يتخوف من صعوبة تنفيذها، ومن خطورة انكشافها. فلما شرحت له أمه الوسيلة التي لا تجعله التي لا تجعله ينكشف، وافق، ونفذ، وتقدم ليخدع أباه..
ما أصعب أن تأتي حرب الخطية من الخارج، حين يكون القلب مشتاقًا إلي الخطية في الداخل!!
وكما سمعت رفقه حديث إسحق مع عيسو، وأخذت تتدبر الموقف، كذلك سمع الشيطان حديثها مع يعقوب، واقترب ليقدم لها الخطة المسكوبة.. "أخذت رفقة ثياب الأكبر التي كانت عندها في البيت، وألبستها ليعقوب. وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جدي الماعز".. وكانت تعرف بالخبرة نوع الطعام الذي يحبه إسحق، فصنعته، وأعطته ليعقوب ليقدمه لأبيه..
وتقدم يعقوب إلي أبيه، وبدأ الموقف المخرج.
أسئلة سألها إسحق، تدل علي شك في قلبه: تعجب أولًا كيف أتي هكذا مسرعًا. وأجاب يعقوب أن الرب إلهك قد يسر لي!! وقال إسحق: تقدم لأجسك يا أبني. أأنت عيسو أم لا؟ وجسه وقال "الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو" ولم يعرفه لأن اليدين كانتا مشعرتين. وعاد ليسأل: هل أنت هو أبني عيسو؟ فأجاب: أنا هو..
لحظات حرجة جدًا. وخطايا كذب كثيرة وقع فيها يعقوب. ومع ذلك فإن الله ستر، ولم يكشفه..
أعجب حنان الرب تلك اللحظات!! بينما كان يعقوب يغش ويخدع ويكذب وينتحل شخصية أخري. ولا يحترم أباه الضرير.. ومع ذلك نري ستر الرب عليه وهو في عمق الخطية، فلم ينكشف علي الرغم من كل شكوك أبيه التي تدل عليها أسئلته.. وعلي الرغم من كل حرص إسحق، في أنه يجسه ويشمه، ويبدي ملاحظته أن الصوت صوت يعقوب!! ربما ما كان يتصور ذلك البار أن ابنه يخدعه. وأخيرًا باركه..
نوعية البركة
"فليعطيك الله من ندي السماء ومن دسم الأرض. وكثيرة حنطة وخمر..".
إنه كلام جميل لنتأمله.. فليعطك من ندي السماء من فوق.. ومن دسم الأرض.. من الله ومن البشر.. من الروح ومن المادة أينما سرت تجد خيرًا.. تصوروا الإنسان الذي يسير في طريق الروح..
إن ندي السماء بالنسبة إليه هو عمل النعمة فيه..
ندي السماء هو صلوات الملائكة وتشفعاتهم.. ندي السماء هو مواهب الروح القدس التي يسكبها الله عليه من السماء. أنها زيارات النعمة.. عمل الله.. ومن دسم الأرض.. الأرض هي الطبيعة البشرية لأن الله خلق الإنسان من دسم الأرض.. من تراب.. يعطيك الله من دسم الأرض، أي أن عمل الروح الذي يعمل فيك يستجيب له إنسانك الداخلي أيضًا.. يعطيك محبة للتوبة وقبولًا للنعمة.. استسلامًا لعمل الروح القدس.. يعطيك رغبة في الخير وحبًا في الله.
الأرض لا تتمرد عليك.. والسماء تحنو عليك..
وبالنسبة لقايين وآدم الأمر كان عكسيًا، فبالنسبة لقايين الله.. عندما تعمل في الأرض لا تعود تعطيك قوتها.. الأرض تتمرد عليك.. وبالنسبة لآدم قال ملعونة الأرض بسببك، الأرض تنبت لك شوكًا وحسكًا. نحن نحتاج إلي بركة السماء والأرض.. نحتاج إلي.. نحتاج إلي عمل النعمة وإلي نقاوة طبيعتنا.. نحتاج إلي قوة من الروح القدس، وألي عدم مقاومة من المادة..
يعطيك الله من ندي السماء ومن دسم الأرض.. يعطيك الله من الخيرات الروحية والمادية أيضًا.. كل ما تمتد إليه يدك ينجح.
الودعاء والمساكين بالروح، لهم ملكوت السموات، ويرثون الأرض. مسكين الإنسان الذي لم يحصل علي الأرض ولا علي السماء.. تصوروا أنه عندما خرجت الكلمة من فمك إسحق كانت أمر للسماء وأمر للأرض.. وضع إسحق يده علي يعقوب وأمر صدر للسماء أن تنزل نداها عليه، وأمر صدر للأرض أن تعطي دسمها لهذا الإنسان.. وحقًا كما قال السيد المسيح "وأعطيكم مفاتيح السماء والأرض".. هنا إسحق أخذ مفاتيح السماء والأرض، يفتحها لتعطي نداها ودسمها وكلاهما في طاعته انه يمنح البركات كوكيل لله استؤمن علي خيرات يوزعها كما يشاء.. أنها بركة عجيبة تعطي. أما بالنسبة لعيسو فبلا دسم الأرض ندي السماء.. بالنسبة إليه عملية إغلاق، لقد أعطي الله إسحق المفاتيح يفتح بها ويغلق في السماء والأرض.. إنها بركة الأبوة بركة وكيل الله الذي استؤمن علي السماء والأرض.. ليعطك الله ندي السماء ودسم الأرض وكثرة حنطة وخمر..
أن الحنطة والخمر يرمزان إلي سر الإفخارستيا في العهد الجديد.
وهكذا فإن أعطاه خيرات العهد القديم وما فيها من رموز للعهد الجديد في الحنطة والخمر اللذين يشيران أيضًا إلي كهنوت العهد الجديد.. وأبونا إسحق عندما تحدث عن هذه البركة في حديثة مع عيسو، قال عن يعقوب "وعضدته بحنطة وخمر" (تك 27: 37). وقال أبونا إسحق في مباركته يعقوب أيضًا:
"ليستعبد لك شعوب، ولتسجد لك شعوب، ولتسجد لك قبائل". "كن سيدًا لأخوتك، وليسجد لك بنو أمك".
إن الإنسان الذي يسير في طريق الله يعطيه الله موهبة السيادة.. الله يعطي من سلطانه للناس.. عندما خلق آدم جعله سيدًا علي كل الكائنات الموجودة طيور السماء وحيوانات الأرض وسمك البحر.. جعله الأرض.. وعندما أخطأ الإنسان بدأت السيادة تتزعزع، وبدأت الكائنات تتمرد عليه.. الحية تلدغ عقبه، والأرض تنبت شوكًا وحسكًا.. لقد تمردت الأرض والنبات.. السيادة ضاعت.. المرأة قال لها إن الرجل يسود عليها. في يعقوب.. بدأت البركة تعود ثانية.. تستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل.. كن سيدًا لأخوتك، وليسجد لك بنو أمك".
عجيب أن يسمح الله لإنسان أن يسجد له الناس.
يسجدون لوكيل الله علي الأرض، للشخص الذي يمثل الله، أو يكون مسيحًا له إنها موهبة السيادة أو كرامة يسبغها الله علي أولاده. وأيضًا يقول له:
"ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين".
من يلعنك، ألعنه أنا. ومن يباركك أباركه. أنت سوف لا تدافع عن نفسك، أنا سأدافع عنك.. أنت سوف لا ترد الإساءة بالإساءة، لكنني أنا من السماء سأدافع عنك.. الذي يلعنك، ترتد اللعنة إلي نفسه.. والذي يباركك، يأخذ البركة لنفسه ويصير مباركًا. حماية من الله عجيبة لكل واحد من أولاده.. يقف بجواره، يدافع عنه ويعمل من أجله كل شيء حتى لو كان صامتًا.. يقاتل عنكم وأنتم تصمتون (خر 14: 14) أنها عبارات معزية سمعها يعقوب الضعيف المسكين الخائف من عيسو الجبار الصياد.. كان يعقوب راكعًا عند قدمي أبية، وكانت فاتحة أبوابها والنعم تنزل علي رأسه أمينة صادقة من فم أبيه ومن عند الله نفسه.