انفعالات داخل نفسية أيوب
قدمت له زوجته اقتراحًا يمس علاقته بالله، فرفضه، ووبخها قائلًا تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. هل الخير من الله نقبل، والشر لا نقبل؟!"(أي2: 10).
في هذا الموقف كان أيوب أحكم من جده آدم، في التعامل مع امرأته.
آدم خضع لزوجته في كسر وصية الله. وقال في تبرير كسره للوصية, "المرأة التي جعلتها معي، هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (تك3: 12). أما أيوب فرفض أن يستمع لامرأته، بل وقف منها موقف المعلم والمؤدب، وقال لها "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات"، كإحدى "العذارى الجاهلات" اللاتي وقفن خارج عرش الله (مت 25: 2، 11).
أيقول أحد: هل هذه خطية إدانة لأنه وصفها بإحدى الجاهلات؟
كلا. فهذه حقًا إدانة، ولكنها ليست خطية إدانة. لأنه من حقه – بل من واجبه – أن يدينها باعتباره "رأس المرأة" (1كو11: 3). ولأنها تجاوزت الحد بقولها" إلى الآن أنت متمسك بكمالك؟! (إلعن) الرب ومت" (أي 2: 9) كإحدى الترجمات: Curse God and die.
"في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي2: 10).
بشفتيه قال كلامًا حكيمًا، يدل على حياة التسليم، وقبول كل ما يفعله الله معه. ولكن هل في داخله كان كذلك؟ هذا ما سنبحثه معًا...
قال "هل الخير من الله نقبل، والشر لا نقبل؟!". وكلمة الخير كما تعني الفضيلة، تعني هنا الخيرات الأرضية، أو نعم الله وإحساناته إليه. كذلك كلمة (الشر) كما تعني الخطية، تعني هنا المصائب والضيقات التي حلت به. لهذا قيل عن أصحابه الثلاثة إنهم "لما سمعوا بكل (الشر) الذي أتى عليه، جاءوا.. ليرثوا له ويعزوه"(أي 2: 11).
ولما رآه أصحابه هكذا، ظهر ما في قلبه من مرارة وسخط.. قيل إن أصحابه "قعدوا معه سبعة أيام وسبع ليالِ، ولم يكلمه أحد بكلمة، لأنهم رأوا أن كآبته كانت عظيمة جدًا" (أي 2: 13).
وقد تبدو الكآبة شيئًا طبيعيًا في حالته بعد التجربة الشديدة التي مرت به. وقد قال القديس بولس الرسول عن متاعبه هو وزملائه في الخدمة "مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين" (2كو4: 8). ولكن أيوب كان متضايقًا جدًا من الداخل...
كانت التجربة الثانية الخاصة بصحته، قد هزته من الداخل.
وهناك فرق ملحوظ في ردود فعله في التجربتين:
قال في التجربة الأولى "الرب أعطى، والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركًا" (أي 1: 21). ولكنه لم يقل هكذا بالنسبة إلى صحته في التجربة الثانية. يكفي أنه لم يجدف على الله، ولم يخطئ بشفتيه.
ولكنه لم يحتمل أن يراه أصحابه وهو "جالس في وسط الرماد، يمسك شقفة ويحتك بها" (أي 2: 8). حتى أنهم لما رأوه "لم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم وبكوا. ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابًا فوق رؤوسهم نحو السماء" (أي2: 12). وكان موقفًا مؤثرًا لنفسيته.. نعم، هناك من يحتمل المذلة، ولا يحتمل أن يراه الناس ذليلًا! وهكذا أيوب لم يحتمل أن يكون موضع الإشفاق، بعد أن كان موضع التمجيد.
بدأ تعب أيوب، حينما جاءه أصحابه الثلاثة، ورأوه في مذلته. لقد كان محطمًا، ولا أحد من معارفه يدري. فلما جاء أصحابه يعزونه، عزّ عليه أ، أنكشف أمامهم.. حتى أنهم مزقوا ثيابهم رثاءً لحالته.
لا شك أن حالته الاجتماعية قد تغيرت العكس تمامًا، من حيث موقف الناس منه، هذا الذي قال عنه فيما بعد "ليتني كما في الشهور السالفة، وكالأيام التي حفظني الله فيها.. حين كنت أخرج إلى الباب في القرية، وأهيئ في الساحة مجلسي. رآني الغلمان فاختبأوا، والشيوخ قاموا ووقفوا. العظماء أمسكوا عن الكلام.. صوت الشرفاء اختفى.." (أي 29: 2- 10).
أما الآن فهو جالس على الرماد، يحتك بشقة..!
لهذا بعد السبعة أيام لجلوس أصحابه معه، يقول الكتاب:
"بعد هذا فتح أيوب فاه، وسبّ يومه.." (أي 3: 1).
وقال "ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه، والليل الذي قال: قد حُبل برجل. ليكن ذلك اليوم ظلامًا. لا يعتني به الله من فوق، ولا يشرق عليه نهار.. لا يفرح بين أيام السنة، ولا يدخلن في عداد الشهور.." (أي3: 3-6)..
أخذ أيوب يخرج ما في نفسه من مرارة...
في بادئ الأمر كانت شفتاه مغلقتين على ما في داخل قلبه من تعب نفسي. وقد سمح الله لأيوب بمجئ أصحابه إليه ليكشف ما في داخله. وإذا بهذا القديس يلعن اليوم الذي وُلد فيه..!
لماذا تلعن يوم ولادتك يا أيوب البار؟!
في بادئ الأمر كانت شفتاه مغلقتين على ما في داخل قلبه من تعب نفسي. وقد سمح الله لأيوب بمجيء أصحابه إليه ليكشف ما في داخله. وإذا بهذا القديس يلعن اليوم الذي وُلد فيه..!
لماذا تلعن يوم ولادتك يا أيوب البار؟! يقول "لأنه لم يغلق أبواب بطن أمي، ولم يستر الشقاوة عن عيني؟ لمَ لمْ أمت من الرحم؟! عندما خرجت من البطن لمَ لم أسلم الروح.."(أي3: 10، 11).
أهذه هي حياة التسليم التي قال عنها لزوجته: "هل الخير من الله نقبل، والشر لا نقبل؟!" (أي 2: 10).
لقد كان صليبًا ثقيلًا على أيوب. ولكن رحمة الله كانت تريد أن تخرج من هذا المر شيئًا حلوًا.
إن الله لا ينظر إلى الحاضر الذي نحن فيه، بقدر ما ينظر إلى المستقبل الذي نصل إليه.
إنه ينظر إلى عذابات القديسين في ضوء أكاليل سيأخذونها فيما بعد.
نعم، لقد قبلَ أيوب التجربة، ولكن التجربة سببت له تعبًا داخليًا. فقد يقبل إنسان أن تجرى له عملية جراحية. ولكن هذا لا يمنع من أن تسبب له العملية آلامًا، فيصرخ ويقول آه.
كانت آلامه فوق الاحتمال، جسديًا ونفسيًا. فمن ذا الذي يستطيع أن يحدث له كل ذلك: أن يموت كل أبنائه وبناته في يوم واحد، وأن يخرب بيته، ويفقد صحته وكرامته، دون سبب يستدعي هذا كله؟!
هل يحدث كل هذا لشخص، ولا يتألم ولا يشكو؟ إنه قد يصبر، ولكن الألم شيء طبيعي، فهل لا يشكو في كثرة آلامه؟! هل لا يئن؟! إن الله "يعرف طبيعتنا، يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14).
لذلك لم يغضب الله من أيوب في كل ما قال. بل إنه – تبارك اسمه – بعد انتهاء التجربة، وبخ أصحاب أيوب الثلاثة قائلًا لهم".. لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب" (أي 42: 7).
هل كانت انفعالات أيوب مركزة في لعنة يومه؟
كلا طبعًا. بل ظهرت له انفعالات أخرى كثيرة...
منها حديثه مع أصحابه وتضايقه منهم، ووصفهم بأنهم "أطباء بطالون" و "معزون متعبون" كما سنشرح فيما بعد...
كما ظهر ذلك في عتابه الطويل مع الله...
وأيضًا في افتخاره ببره الذاتي، ردًا على ما قد اتهمه به أصحابه من اتهامات باطلة، أمكنهم بها أن يثيروه ويخرجوه عن هدوئه...
لم يذكر الكتاب أخطاء لأيوب قبل التجربة.
أما بعدها، فالأمر يحتاج إلى كثير من التأمل.
قبل التجربة قال عنه الرب إنه رجل كامل ومستقيم.
أما بعد التجربة، فماذا قال عنه أليهو الصديق الرابع؟ (أي 32- 37).
وماذا قال عنه الله؟ (أي 38 – 41).
هذا ما سوف نراه في آخر هذا الكتاب بمشيئة الرب.