بنوة المسيح لله
المسألة التي كانت تحير الشيطان هي بنوة المسيح لله العبارة التي سمعها وقت العماد (مت 3: 17). والتى سمعها أيضًا وقت البشارة بميلاده.
وذلك حينما قال الملاك للعذراء "الروح القدس يحل عليك، وقوة العلى تظللك. لذلك فالقدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو 1: 35). ولكن بشرى الميلاد هذه، غطى عليها أمران:
أولهما: ميلاده في مزود بقر من أم فقيرة.. والثانى هربه إلى مصر. وليس من المعقول -في فكر الشيطان- أن ابن الله يكون فقيرًا وأن يهرب!
أما الشهادة له بأنه ابن الله -في المعمودية- فيغطى عليه أنه جوعان على الجبل، فهل يعقل أن يكون ابن الله جوعانًا؟! إنه أمر يثير التساؤل.. وهنا ارتبك الشيطان.. وأراد أن يتأكد: لو كان هو ابن الله فيجب بذل كل الجهد حتى لا يتم الفداء على يديه. ولو كان ابن الله، فكيف يجوع: ولماذا لا يبعد الجوع عن نفسه؟
إذن فليتقدم ويسأل لعله يفهم! ولا مانع من أن يقدم أفكاره ويرى ماذا تكون النتيجة.. ويحاول أن يختبر هذا الذي أمامه، ليرى ما هو عنصره، وهكذا كانت التجربة الأولى وهى تجربة الخبز..
يقول الإنجيل عن المسيح أنه جاع أخيرًا (لو 4: 3) "جاع أخيرًا، فتقدم إليه المجرب" (مت 4: 2، 3).
.
لاشك أنه كان جوعًا من نوع قاس غير عادى..
طبيعي أن فترة الأربعين يومًا، كانت كلها جوعًا. ولكن الجوع في نهايتها، كان قد وصل إلى قمته، وصار جوعًا لا يحتمل. وهذا الجوع يدل على أن ناسوته كان مثلنا قابلًا للجوع. كما يدل أيضًا على أن لاهوته لم يمنع الجوع عن ناسوته. ذلك لأن السيد المسيح كان قد أتخذ مبدأ ثبت عليه، وهو أنه:
قرر أن لا يستخدم لاهوته لأجل راحة ناسوته.
فلاهوته لا يمنع عن ناسوته التعب ولا الألم، ولا الجوع ولا العطش.. وإلا فإن التجسد يكون صوريًا أو شكليًا، حاشا. لذلك فهو على الصليب أيضًا قال "أنا عطشان" (يو 19: 28).
وهنا على الجبل قيل إنه جاع.. نلاحظ إنه في صوم القديس بطرس الرسول قيل عنه إنه "جاع كثيرًا واشتهى أن يأكل" (أع 10: 10). أما بالنسبة إلى السيد المسيح، فلم يذكر أنه اشتهى أن يأكل وهنا تقدم له الشيطان وقال له: إن كنت ابن الله، فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا (مت 4: 3).
"إن كنت.." عبارة تحمل الشك.
إما أنه - أي الشيطان - في شك من هذه البنوة، وهذا هو المعنى الأكثر إحتمالًا، وإما أنه يريد أن يقدم هذا الشك لسامعه،أو هو يقدم الشك لهذا الصائم، لكى يعالج شكًا له هو - أي الشيطان - في قلبه: أين محبة الآب، حتى يترك الآبن في جوع، على الجبل وحده، وأين سلطان الأبن؟ ألا يستطيع أن يحول الحجارة إلى خبز ويأكل؟ إن الشك والتشكيك هما من طبائع الشيطان.
وضع هذا بالمثل قديمًا أمام آدم وحواء.. لو كان الله يحبكما، فلماذا يمنعكما عن المعرفة؟! "هل حقًا قال لكما الله.." (تك 3: 1). ومن جهة الموت، "لن تموتا". كله أسلوب تشكيك. إن الشك عكس الإيمان. والشيطان ضد الإيمان.
وهنا يسأل عن بنوة المسيح لله. ويقينا إنه لا يقصد البنوة العامة التي لجميع المؤمنين.. بل البنوة التي تستطيع أن تحول الحجارة إلى خبز..
أى البنوة التي لها القدرة على الخلق، وليست البنوة التي نقول بها جميعًا "أبانا الذي في السموات".
ولا هي البنوة التي قال عنها الوحى الإلهى عما قبل الطوفان "رأى أولاد الله بنات الناس أنهن حسنات" (تك 6: 2). ولا هي البنوة التي قال فيها القديس يوحنا الحبيب فيما بعد عن المسيح "وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو 1: 12). وأيضًا "انظروا أية محبة أعطانا الآب: أن ندعى أولاد الله" (ايو3: 1).
إنما هي البنوة القادرة على كل شئ، التي نستطيع أن تصنع المعجزات بمجرد أن تأمر. وهكذا قال للمسيح "قل أن تصير الحجارة خبزًا".
لم يقل له: إن كنت ابن الله، يمكنك أن تصلى إلى أبيك السماوي، فيحول لك الحجارة إلى جبز. وإنما قال له: قل أن تصير الحجارة خبزًا..
إذن فهو يسأل عن طبيعة المسيح ما هى؟
ونفس السؤال قدمه إلى المسيح فيما بعد، على لسان البعض "إن كنت ابن الله، انزل من على الصليب" (مت 26: 40). إن البنوة والصليب معًا، هما اللذان يزعجان الشيطان في اجتماعهما، لأنهما يحطمان دولته وكل تعبه. سأل أحدهما في بداية استعداد المسيح لخدمته على الأرض. يسأل الآخر للمسيح، وهو في طريقه إلى عبارة "قد أكمل" (يو 19: 30).
هنا على جبل التجربة، قال للسيد المسيح- وهو صائم وجائع: إن كنت ابن الله، قل أن تصير الحجارة خبزًا"..
وكان المسيح قادرًا على ذلك، ولكنه لم يفعل.