دعوة إلى التوبة
إن الله المحب للبشر، بدافع من محبته لأولاده، يدعوهم للتوبة.
ذلك لأنه "يريد أن الجميع يخلصون" (1 تي 2: 4). هو لا يشاء أن يهلك أحد، بل أن يقبل الجميع إلي التوبة (2 بط 3: 9). وهو من أجل خلاصهم مستعد أن يتغاضى عن أزمنة الجهل (أع 17: 30). بل إنه يقول في محبته العجيبة "هل مسرة أسر بموت الشرير.. إلا برجوعه.. فيحيا" (حز 18: 3). هو يحبنا ويريدنا بالتوبة أن نتمتع بمحبته..يريد بالتوبة أن يشركنا في ملكوته، ويمتعنا بمحبته.
إنها ليست مجرد أوامر يصدرها الله علي أفواه أنبيائه القديسين، بل هي دعوة حب للخلاص "توبوا وارجعوا، لتمحي خطاياكم" (أع 3: 19). "من رد خاطئًا عن طريق ضلاله يخلص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا" (يع 5: 20). إذن هذا الأمر من أجلنا نحن ومن خلاصنا، الذي جعله يتجسد ويتألم لأجلنا، والذي لا نستطيع أن نناله إلا بالتوبة.
لذلك نري في دعوته لنا للتوبة، مشاعر الحب..
إذ يقول "ارجعوا إلي، أرجع إليكم" (ملا 3: 7)، "توبوا وارجعوا (حز 14: 6)، "ارجعوا إلي بكل قلوبكم.. ارجعوا إلي الرب إلهكم" (يوئيل 2: 12، 13). ويقول في محبته علي لسان أرمياء النبي "أجعل شريعتي في داخلهم، واكتبها علي قلوبهم. وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا.. أصفح عن إثمهم، ولا أذكر خطيتهم بعد" (أر 31: 33، 34).
وفي دعوته لنا للتوبة، وعد بتطهيرنا وغسلنا.
إنه يقول "اغتسلوا، تنقوا، أعزلوا شر أفعالكم.. وهلم نتحاجج يقول الرب: إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج.." (أش 1: 16، 18). ويقول" أرش عليكم ماء طاهرًا فتطهرون. من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أطهركم. وأعطيكم قلبًا جديدًا.."(حز 36: 25، 26).
وهو يدعونا للتوبة، لأننا نحن نحتاج إليها فهو يقول "ما جئت لأدين العالم، بل لأخلص العالم" (يو 12: 47)، "لا يحتاج الأصحاح إلي طبيب بل المرضي. لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاه إلي التوبة" (مر 2: 17). نعم إن ابن الإنسان جاء يطلب ويخلص ما قد هلك" (متي 18: 11). هذه التوبة إذن من صالحنا. وليست أمرًا مفروضًا علينا.
ولنا نحن كامل الاختيار. الله يدعونا للتوبة ثم يقول "إن شئتم وسمعتم، تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم، تؤكلون بالسيف" (أش 1: 19،20). والصالح لنا أن نسمع ونطيع، من اجل نقاوتنا ومن أجل أبديتنا، ومن أجل أبديتنا، ومن أجل أن نتمتع بالله. هوذا الرسول يمسي دعوته لنا للتوبة "خدمه المصالحة"، وينادي "تصالحوا مع الله" (2كو 5: 18، 20). فهل نحن نرفض أن نتصالح مع الله؟! وهل من صالحنا رفض المصالحة؟!
التوبة نافعة، مهما كان أسلوبها، باللين أو بالشدة. ولهذا يقول القديس يهوذا الرسول "ارحموا البعض مميزين. وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار مبغضين حتى الثوب المدنس من الجسد" (يه 22، 23). كان القديس يوحنا المعمدان شديدًا في مناداته بالتوبة (متي 3:8-10). ويقول القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس "الآن أنا أفرح، لا لأنكم حزنتم، بل لأنكم حزنتم للتوبة" (2 كو 7: 9). ولذلك كان بعض القديسين في عظاتهم يجعلون الناس يبكون، وكان ذلك نافعًا لهم. كما كانت عقوبات الكنيسة نافعة للتوبة وللخلاص..
لذلك كانت الدعوة للتوبة، أهم موضوع في الكتاب.
لكي يتنقى الناس، ولكي يخلصوا.. ولما كانت التوبة لازمه للخلاص، بذلك أرسل السيد المسيح قدامه يوحنا المعمدان، يهيئ الطريق أمامه بالتوبة، فنادي بالتوبة قائلًا "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" (متي 3: 2). هذا الملكوت الذي لا يمكن أن تنالوه إلا بالتوبة. وقد للناس معمودية التوبة..
وهكذا عمل التوبة سبق عمل الفداء. والمعمدان سبق المسيح والسيد المسيح نفسه نادي للناس بالتوبة "من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز قائلًا: توبا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" (متي 4: 17). وكان يقول "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (إنجيل مرقس 1: 15). ولما أرسل الاثني عشر "خرجوا يكرزون أن يتوبوا" (مر 6: 12). وقبيل صعوده أمر أن يكرز باسمه للتوبة ومغفرة الخطايا لجميع المم مبتدأ من أورشليم" (لو 14: 47).
كان أول كارز بالتوبة هو نوح. وتبعه أنبياء كثيرون. مثل أشعياء (أش 1)، وحزقيال (حز 18)، ويونان (يون 3)، ويوئيل (يوء 2)، وأرمياء (أر 31).. وهي أيضًا واضحة كل الوضوح في أسفار العهد الجديد. والدعوة إلي التوبة هي عمل جميع الرعاة والمعلمين والوعاظ ورجال الكهنوت وكل المرشدين إلي التوبة هي عمل جميع الرعاة والمعلمين والوعاظ ورجال الكهنوت وكل المرشدين الروحانيين.. وهي واضحة في أقوال الآباء. لقد اهتم الآباء جدًا بالدعوة إلي التوبة:
قال القديس الأنبا أنطونيوس: أطلب التوبة في كل لحظة.
وقال القديس باسيليوس الكبير:" جيد ألا تخطئ. وإن أخطأت، فيجد ألا تؤخر التوبة. وإن تبت، فيجد ألا تعود إلي الخطية. وإن لم تعد، فجيد أن تعرف أن هذا بمعونة من الله. وغن عرفت فجيد أن تشكره علي ما أنت فيه". وقال مار اسحق:" في كل وقت من هذه الأربع والعشرين ساعة من اليوم، نحن محتاجون إلي التوبة". وقال أيضًا "كل يوم لا تجلس فيه ساعة بينك وبين نفسك، وتتفكر بأي الأشياء أخطأت، وبأي أمر سقطت، وتقوم ذاتك فيه.. لا تحسبه من عدد أيام حياتك". إن الدعوة إلي التوبة لازمه للكل. ومما يستلفت النظر:
إن الدعوة للتوبة، وجهت حتى إلي ملائكة الكنائس السبع, فالرب يقول لملاك كنيسة أفسس "أذكر من أين سقطت وتب" (رؤ 2: 5) وكلمه "تب" يقولها أيضًا لملاك كنيسة برجامس (رؤ 2: 16) وملاك كنيسة ساردس (رؤ 3: 3)، ولملاك كنيسة لاودكية (رؤ 3: 19). وقد أرسل الله ناثان النبي لينادي بالتوبة إلي داود النبي مسيح الرب..
أن دعوة الله بالتوبة تحمل شعور الإشفاق علي أولادة.
فهو يريد الذين ضلوا أن يرجعوا إليه، ليكون لهم نصيب في الملكوت وفي ميراث القديسين، وفي شركة الكنيسة. لأن السلوك الخاطئ يمنع شركتنا بالله (1 يو 1: 6)، ويمنع شركتنا مع بعضنا البعض "ولكن إن سلكنا في النور، كما هو في النور، فلنا شركة مع بعضنا البعض. ودم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية" (1 يو 1: 7).
والله يقبل التائبين. وأمثلة ذلك كثيرة في الكتاب:
لقد قبل الابن الضال في سوء حالته (لو 15).وقبل المرأة السامرية التي كان لها أكثر من خمسة أزواج (يو 4). وقبل اللص اليمين علي الصليب (لو 23: 43). وصلي من اجل صالبيه لتغفر لهم خطيتهم (لو 23: 34). وصلي من أجل صالبيه لتغفر لهم خطيتهم (لو 23: 34). وقيل زكا رئيس العشارين (لو 19: 9). ومنحه الخلاص صالبيه لتغفر لهم خطيتهم (لو 23: 34). وقبل متى العشار وجعله رسولًا من الاثني عشر (متي 10: 3). ويكفي قوله:
من يقبل إلي، لا أخرجه خارجًا (يو 6: 37). بل أكثر من هذا، أن الرب هو الذي يقف علي الباب ويقرع منتظرا من يفتح له (رؤ 3: 20). فإن كان يفعل هذا، فبالحري يفتح لمن يقرع أبواب رحمته الإلهية.
ومن جهة مراحم الرب علي الخطاة، صدق من قال:
إن مراحم الرب اقوي من كل دنس الخطية.
إن أبشع الخطايا وأكثرها -بالنسبة إلي مراحم الله- كأنها قطعه طين قد ألقيتها في المحيط.. أنها لا تعكر المحيط، بل يأخذها ويفرشها في أعماقه، ويقدم لك ماء رائقًا. وقبول الله للتوبة، إنما يكشف عن أعماق محبته الإلهية.
لذلك لا نستكثر خطيتنا علي فاعليه دمه..
ولا نستكثرها علي عظم محبته وعظم رحمته. وقد قال احد الشيوخ القديسين: لا توجد خطية تغلب محبة الله للبشر. إنه هو الذي يبرر الفاجر (رو 4: 5). أقول هذا حتى لا ييأس الخطاة إذا نظروا إلي خطاياهم.