الذكريات المقدسة القديمة
هناك خاطئة أخرى، لها قصة شبيهة، وقد أيقظتها الذكريات المقدسة القديمة، التي أثارها فيها إفتقاد قديس لها، وهى:
مريم الخاطئة التي تابت بافتقاد عمها القديس إبراهيم المتوحد لها.
كانت قد بدأت بحياة نسكية طيبة في مغارة مدى عشرين عاما تحت رعاية عمها. ثم أغواها الشيطان، وسقطت وهربت، واستمرت في السقوط، كأنها نسيت حياتها القديمة البارة.. ربما ليأسها من الرجوع إلى الله وبحث القديس الأنبا إبراهيم عنها. وأخيرا عرف مكانها، وذهب إليها متنكرا. وجلس إليها.. ولما لمحت المسوح التي كان يلبسها تحت ثياب تنكره، واشتمت منه رائحة عرق النسك، ثارت فيها الذكريات القديمة، وبدأت تستيقظ. بينما كان القديس يصلى من أجلها. وتذكرت مريم أيام عفافها ونسكها، وانفجرت باكية، وهى تقول:
(ويل لى، إننى أتعس كل بنى البشر) واستغل القديس تأثرها، فقال لها (أيتها القديسة إبنة المسيح، هل أنت مقتنعة ومسرورة بما أنت فيه).. وحدثها القديس عن ذكريات نسكها القديم. ومرت لحظات وهى جامدة أمامه من الخوف والخزى، فأخذ القديس يعزيها ويقيمها من هوة اليأس. ثم أخذها وأخرجها من ذلك الفندق وقادها إلى حياة التوبة مرة أخرى، ورجعت إلى مغارتها، تبكى خطاياها، ولكن في رجاء التوبة.. وفي ساعة إنطلاقها من العالم، بعد سنوات في التوبة، كان وجهها يضئ كالمصباح
إن الذكريات القديمة المقدسة قد هزت نفس القديسة مريم وأيقظتها، ولم يكن عمها الأنبا إبراهيم محتاجا إلى مجهود كبير معها لإيقاظها.
وكم من أناس توقظهم ذكرياتهم القديمة المقدسة....
عندما يتذكر الإنسان محبته الأولى، وعمق حياته الروحية في ماضيه... عندما يتذكر أيامه الحلوة مع الله، والحرارة التي كانت له في صلواته وفي خدمته، وعمل الله معه ما أسهل حينئذ أن يتحرك قلبه فيستيقظ، ويبكى على ما هو فيه.. ربما تقع في يده مذكرة تأملات قديمة له... وإذ يعاود قراءتها تهتز نفسه من الداخل، فيصحو.. قد تصادقه صورة له مع أشخاص روحيين كانوا زملاءه في طريق الرب، فتذكره هذه الصورة بأيام سعيدة مع الله، يشتاق قلبه إليها فيصحو.. وربما يزوره صديق قديم، يحكى له ذكريات الخدمة، أو ذكريات رحلاته معه إلى الأديرة ومواضع القديسين، فتتأثر نفسه ويستيقظ... ياليتنا كلما نفتر، نعود فنتذكر ماضينا الحلو فنصحو .. وليتنا أيضا نضع أمامنا قنوات ثابتة بيننا وبين الذكريات القديمة، نعيدها إلي أذهاننا بين الحين والآخر، لنمتص عصارتها وتسرى في عروقنا فتنعشها...