الفضائل الجسدية الظاهرة
يغري الإنسان بالفضائل الظاهرة الجسدية، بدلًا من الفضائل الروحية الخفية.
ونقصد بالظاهرة، الظاهرة لصاحبها، وليس فقط الظاهرة للآخرين. وهذه الفضائل الظاهرة يمكن أن يلقبه بها في الإعجاب بالنفس والغرور، أو يلقيه في احتقار الآخرين الذين لم يصلوا إلى نفس المستوي.
وهذه الحرب يحارب بها الرهبان كما يحارب بها العلمانيين أيضًا.
فإذا بدأ الراهب جهاده، يجعله الشيطان يهتم بالصوم، وبالمطانيات، والسهر، والصمت، والاعتكاف. وكلها أمور ظاهرة.. وفي نفس الوقت لا يهتم بفضائل القلب من الداخل مثل الفرح والسلام والنقاوة والوداعة والهدوء... إلخ.
وفي الصوم يحارب بالأسلوب الجسداني ويترك الروحي.
فيجعل كل اهتمام الصائم بفترة الانقطاع وكم نتكون، وبنوع الأكل ووجوب الامتناع عن بعض مشتهيات، والإقلال من كمية الماء التي يشربها. وكل هذه أمور جسدية، ولا يشغل نفسه أبدًا بالفضائل الروحية التي في الصوم مثل: انسحاق القلب، وسمو الروح، وضبط النفس في كل الأمور.
والشيطان يعرف أن مثل هذا الصوم الجسدي قد لا يفيد الإنسان روحيًا. ويستغل هذا الأمر فيما بعد، لكي يبعده عن الصوم كلية.
ونفس الوضع بالنسبة إلى المطانيات. المهم هو عددها، ونمو هذا العدد باستمرار. أما أن الإنسان فيما يسجد، تلصق بالتراب نفسه (مز119) كما تلصق رأسه بالتراب، فهذا ما لا يجعله يفكر فيه! كذلك لا يجعله يهتم بالمشاعر الروحية يهتم بالمشاعر الروحية التي تصحب المطانيات، وربما تصحبها أيضًا من صلوات... وكل ما يقصده هو أن تتحول هذه المطانيات - على الرغم من كثرة عددها - إلى عمل جسداني يمكن أن يرهقه دون أن يفيده، كما يلقيه به في المجد الباطل!
والوحدة أيضًا يهتم بمظهرها وليس بروحياتها.
كإنسان يحيا الوحدة كطقس، وليس كمنهج روحي يتميز بفضائل معينة، فيها يكون الفكر منفردًا بالله في حب، ويكون القلب قد مات كلية عن العالم، ولكن كثيرًا ما يجعل الشيطان هذا المتوحد يقنع بمجرد سكني المغارة والبعد عن الدير، ويملأ قلبه بالكبرياء والسخط على الدير ومن فيه، دون الاهتمام بالعمل الروحي داخل المغارة. وكما قال ماراسحق "يوجد إنسان قد يسكن في القلاية خمسين سنة وهو لا يعرف طريقة الجلوس في القلاية".
وما ينطبق على الوحدة، ينطبق على الصمت أيضًا.
فالمفروض أن هدف الصمت، وأن يريد الإنسان يبعد عن أخطاء اللسان، ويعطي نفسه فرصة للحديث مع الله. أما أن يقنع الإنسان بمجرد الصمت، فهذا عمل جسداني ظاهر. إذ أن كل الأخطاء التي يقع فيها بلسانه، يمكن أن يقع فيها بفكرة مثل الإدانة والغضب والشتيمة والحدة... إلخ. فإن كان قلبه خاليًا في نفس الوقت من الحديث مع الله. يكون صمته بعيدًا عن العمل الروحي.
وبنفس الطريقة قد يقنع الإنسان باختيار البتولية.
ويظن أن البتولية هي ذلك العمل الظاهر الذي هو عدم الزواج. وقد تكون نفسه غير بتوله، وأفكاره دنسة. والعنصر الإيجابي في البتولية الذي هو توجيه الحب كله نحو الله، قد لا يكون موجودًا أيضًا. وهكذا يكون قد أخذ من البتولية ظاهرها، دون روحها ودون فاعليتها داخل القلب...
المفروض فينا أن نهتم بالعمل الروحي الداخلي، فهو الأهم.
والرب قد قال "يا إبني أعطني قلبك" (أم23: 26). فيبدأ الإنسان بنقاوة القلب، وبمحبة الله، وبالفضائل الداخلية. ثم من القلب النقي تخرج الصلاة النقية والمطانيات الطاهرة، والصوم الروحاني، وكل فضيلة أخري...
والعجيب أن المهتم بالفضائل الظاهرة، كثيرًا ما يصطدم بأب اعترافه، وربما يفكر في تغييره، بينما حياته هو من الداخل ليست نقية أمام الله!