رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حياة البر في البعد عن الإثنينية عندما خلق الله الإنسان، خلقة بارًا قديسًا بسيطًا، لا يعرف سوي الخير فقط. ولما سقط الإنسان في الخطية، وأكل من شجرة معرفة الخير والشر، بدأ يعرف الشر إلي جوار الخير. وفقد بساطته، وعرف أنه عريان، واستحي من عريه وتغطي. ومن ذلك الحين، وقع الإنسان بين شقي الرحى، أعني الخير والشر. ودخل في الصراع الداخلي بين الخير والشر والحلال والحرام، وما يليق وما لا يليق. الصراع عاش الإنسان في صراع الإثنينية. أمامه الاثنان "أيهما يختار؟ وكما قال له الله في سفر الشريعة "أنظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر.. قد جعلت قدامك الحياة والموت،والبركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك" (تث30: 15،19). وأول صراع عاشه الإنسان: هو الصراع بين الروح والجسد. وفي ذلك قال القديس بولس الرسول "اسلكوا بالروح، فلا تكلموا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان أحدهما الآخر.."(غل5: 16،17). ويقول في هذا الصراع الروحي "فإني أعلم أنه ليس ساكنًا في، أي في جسدي، شيء صالح.. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة في.." (رو7: 18-20). ويكمل الرسول كلامه عن هذا الصراع فيقول: "أري ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلي ناموس الخطية" (رو7:23). وبهذا يكون الإنسان قد تحول إلي اثنين يتصارعان معًا. وكما قال أحد الأدباء الروحيين "كنت أصارع نفسي وأجاهد حتى كأنني اثنان في واحد: هذا يدفعني، وذلك يمنعني.. إنه صراع داخلي. صراع سببه معرفة الخطية، ثم محبة الخطية. وقد يكون أحيانًا صراعًا بين الشهوة والضمير. وهو صراع في هذا العالم فقط، الذي نوجد فيه بالجسد، ونحاط بالمادة، ونعرف الخطية. أما في العالم الآخر، في الأبدية السعيدة، فسوف نعود إلي بساطتنا، ولا نعرف سوي الخير فقط. وتنزع منا تمامًا معرفة الخطية. ولا يوجد صراع بين الروح والجسد، لأننا في القيامة العامة سنقوم بأجساد روحانية. ولا نلبس بعد أجسادًا ترابية، بل سماوية. لأن هذا الفاسد لأبد أن يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت (1كو15: 44-53). أما علي الأرض، فلا يزال صراع الإنسان قائمًا. إنه صراع مع نفسه، حتى يصل إلي ضبط النفس. صراع مع رغائبه، ومع أفكاره، ومع حواسه. وينتهي الصراع حينما يصير الإنسان واحدًا، وليس جبهات داخلية تقاوم إحداها الأخرى. وعلي رأي مار اسحق "إذا أصطلح العقل والجسد والروح، حينئذ تصطلح معك السماء والأرض".. ولكن الصراع الداخلي هو مرحلة للمبتدئين، أو للذين لم يتحرروا بعد من الداخل. فإن تحرروا، يكون منهجهم هو النمو في النعمة، وليس الصراع بين الخير والشر... بالإضافة إلي الصراع في حالة الإثنينية، يوجد أيضًا: الخوف مادام الإنسان لم يتحرر من شهوات العالم والجسد، فلابد أن يقع في الخوف". لأنه يشتهي، ويخاف أن شهوته لا تتحقق. فإن تحققت، يخاف إنها لا تستمر. فإن استمرت قد يخاف من نتائجها. وفي حالة الخطية، يخاف أن تنكشف، ويخاف من العقوبة ومن الفضيحة. وإن لم يستيقظ ضميره، يخاف من غضب الله، بل قد يخاف من كيفية الاعتراف بخطئه. وإن ترك الخطية، وقد يخاف من إمكانية عودته إليها..! إن حالة الإثنينية ترتبط بالخوف، كما ترتبط بالشهوة. ولذلك لما تخلص منها القديس أغسطينوس، قال عبارته المشهورة: "جلست علي قمة العالم، حينما أحسست في نفسي: أنني لا أشتهي شيئًا، ولا أخاف شيئًا". الخوف مرتبط دائمًا بالشهوة وبالخطية. ونقصد هذا المعني للخوف، ليس الخوف الصبياني من الظلام والأرواح.. فالإنسان الروحي لا يخاف أبدًا. إنه يشعر بوجود الله معه يحميه ويخلصه ويقويه. لا يخاف الموت، لأنه يعرف أن الموت يوصله إلي حياة أفضل. أما الخاطئ فيخاف، لأنه لا يضمن حياته بعد الموت.. وإذا صار الإنسان واحدًا، يتحد هذا الواحد بالعشرة مع الله وملائكته، أما إن كان بعيدًا عن هذه العشرة، فإن يخاف.. ولعل الخوف بهذا المعني، هو الذي وضعه القديس يوحنا الرائي في المقدمة حينما تحدث عن الهالكين! فقال "وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت" (رؤ21:8). مادام هناك خوف، إذن لابد من وجود خطًا في الداخل. الثلاثة فتية لم يخافوا من أتون النار، ولا دانيال خاف من جب الأسود. ولا الشهداء خافوا من الموت أو التعذيب. لأن كلًا منهم واحدًا، يشتاق إلي الله. ولم يكن أحدهم إنسانين: أحدهما يحب الله. والثاني يخاف الموت!! الإثنينية تقود إلي الصراع، والخوف، وإلي أخطاء كثيرة: أخطاء كثيرة الإثنينية تقود إلي الرياء: فالإنسان هنا اثنان: أمام نفسه شيء، وأمام الناس شيء آخر..! أمام الناس يلبس ملابس الأبرار والقديسين، وأمام نفسه قد يكون عكس ذلك تمامًا.. حينما يكون وحده قد يسلك بإهمال أو بخطأ أو بما لا يليق. وأمام الناس ربما يحرص علي أن يكون محترسًا مدققًا في تصرفاته. وبالإثنينية يكون إنسانه الداخلي غير إنسانه الخارجي. ربما تكون كل أفكاره، ومشاعره ونيته، غير ما يظهر للناس. أو أن الناس -بسلوكه أمامهم- محال أن يظنوا أن له أفكارًا حسب واقعه! حقًا لو كشف الله أفكارنا ومشاعرنا، كم تكون دهشة الناس، وكم يكون خجلنا؟! بالإثنينية قد يكون قلب الإنسان غير لسانه! فهو يقول ما يعجب سامعه، وقد يكون قلبه غير ذلك أو عكس ذلك! وقد يصلي بشفتيه، وقلبه مبتعد عن الله تمامًا (أش13:39) (مت8:15). فهو من الظاهر يبدو قريبًا من الله بشفتيه، بينما قلبه مبتعد. أليس هذا الإنسان اثنين؟! ولذلك نحن نقول في التسبحة "قلبي ولساني يسبحان القدوس". إنسان آخر تتدرج به الإثنينية إلي التملق وإلي النفاق. يكون في قلبه كارهًا لرئيسه، حاقدًا عليه، ومع ذلك يكلمه بكلام المديح والملق! أليس هذا لونًا من النفاق، صار فيه هذا الإنسان اثنين: الإنسان الداخلي فيه يختلف عن الخارجي، بل يتناقض معه إلي أقصى حد.. متى يصير الإنسان واحدًا؟ قلبه واحد مع لسنه؟! وليس معني الوحدة أن يخطئ لسانه كما يخطئ قلبه! كشخص باسم الصراحة يقع في أخطاء عديدة. كلا، بل يصلح قلبه، وينقيه من الحقد والكراهية، حتى يصير واحدًا مع لسانه،أو علي الأقل يصمت، فلا يتكلم بلسانه ما لا يعتقد به في قلبه. وفي كل علاقاته إذا لم يستطيع أن يوبخ الخطية، فعلي الأقل لا يتملقها! ولا يكون اثنين: قلبه في جهة، ولسانه في جهة مضادة.. أو إنسان داخل الكنيسة بصورة، وخارجها بصورة عكسية. سواء في عبادته أو في خدمته.. في محيط الخدمة: بمنتهى الرقة واللطف والأدب. وفي البيت أو العمل بمنتهي الشدة والعنف والقسوة.. أو يكون داخل الكنيسة في أسبوع البصخة كما يليق بأسبوع الآلام، وخارج الكنيسة ضحك وهزل.. إنه إنسانان مختلفان... وفي معاملات لا يجوز أن يكون اثنين، أو بوجهين، أو يلعب علي حبلين! فهو يعامل شخصًا برقة أو بإخلاص أو باحترام! ومن خلفه يدبر له مكيدة، أو يتكلم عليه بالسوء.. أو يكون معه بكل القلب، أو يبدو كذلك، فإذا انقلب الجو انقلب معه وكما يقول المثل العامي (معاهم معاهم، عليهم عليهم)...! وهذا الذي يعيش بالإثنينية، لا يكون له ثبات. فهو كثير التغير، وقد يكون أيضًا كثر التردد. ويتحول من حال إلي حال بغير ثبات وقد يفكر فكرًا، ثم يجد فكرًا في داخله ضده. وتتصارع أفكاره أو قد تتصارع أذنه مع عقله. ولا يعرف هل يصدق أذنيه ويتبعهما، أو يصدق قلبه وإقناعه الداخلي. الإثنينية قد تقود إلي انقسام الشخصية. وربما تقود إذا استمرت إلي ازدواج الشخصية، أو تؤدي به إلي الشيزوفرينيا. وتري مثل هذا الشخص في أحد الأيام بصورة، وفي يوم آخر بصورة مُغايرة. وتقول في نفسك "ليس هذا هو الذي عرفته بالأمس. إنه شخص آخر تمامًا!! الإثنينية قد تقود الإنسان إلي التحايل. وقد يريد غرضًا سليمًا، ويلجأ في سبيل تحقيقه إلي وسيله خاطئة. وهكذا يجتمع فيه الخير والشر في عمل واحد. والوسيلة الخاطئة تشوه الخير الذي يريده. وتعجب كيف يجتمع الاثنان معًا. ولكنه التحايل علي الوصول! وقد يتعامل مع الناس بأسلوبين، ويزن بميزانين. صديق له يعمل عملًا، فيحكم عليه بميزان. ونفس العمل يعمله شخص آخر، فيحكم عليه بميزان آخر. وإذا بالإثنينية تخرجه عن نطاق الحق والعدل، وتخرجه عن مبدأ المساواة في التعامل. وتقف متعجبًا أمام مصداقيته... وقد يغضب من كلمة تقال له، ويبرز غضبه بأنه إنسان حساس لكرامته. بينما يقول هو نفس الكلمة لغيره، ولا يضع في ذهنه حساسية هذا الغير وشعوره! وتجد مثل هذا التناقض في تصرفات امرأة أب: تعامل ابنها بمنتهي العطف والحنو. بينما بمنتهي القسوة والظلم تعامل أبناء زوجها من زوجته الأولي. ويقف الإنسان متعجبًا: كيف يجتمع الحنو والقسوة في قلب واحد؟! ولكنها الإثنينية، الحكم بأسلوبين، وبميزانين، وربما أيضًا بمنطلقين متناقضين.. في معاملة القريب والغريب! في اليوم الأخير، حينما يكشف الخفيات، تري أين نخبئ وجوهنا. حينما تفتح الأسفار، وتكشف الأفكار، وتعلن الخفيات، ويري الناس إنساننا الذي لم يكن ظاهرًا لهم.. تراهم ماذا يقولون؟! أما أنت يا أخي، فدرب نفسك أن تكون واحدًا. إن كنا نبحث عن الوحدة بين الكنائس، والوحدة بين الأمم والشعوب، ألا نبحث بالحري عن الوحدة داخل النفس الواحدة، فلا يكون داخلها صراع بين طرق متعددة. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
حياة البر |
أمثلة فى حياة البر |
بركات حياة البر |
صراع الإثنينية | الثنائية |
البعد الرهبانى فى حياة قداسة البابا شنودة |