الانطلاق لمعرفة الله
أعترف أمامك يا رب أن اتجاهي في الكتابة كان ينبغي أن يتغيَّر. وأعترف في خجل أمامك أنني كثيرا ما حدثت الناس عن الفضيلة، وقليلًا ما حدثتهم عنك، بينما ينبغي أن تكون أنت الكل في الكل....
غير أنني لكي أتحدث عنك، لابد أن أعرفك. وكيف أعرفك وأنا إنسان محدود؟! بل كيف أعرفك وأنت غير المُدْرَك، وغير المفحوص، أنت النور الذي لا يُدنى منه، ولا يستطيع إنسان أن يراه ويعيش...؟!
ولقد حاولت أن أسأل قديسيك الذين عرفوك، أو الذين عرفوا عنك {بعض المعرفة} فاقتربت إلي بولس الرسول الذي صعد إلي السماء الثالثة، وسألته عنك فقال أن الذي سمعه ورآه أمور {لا ينطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم عنها} {2كو4:12}. وكذلك يوحنا الحبيب الذي رأى بابا مفتوحًا في السماء، وشاهد عرش الله، لم يشرح لنا رؤياه إلا في رموز لا يمكن أن تعطي الصورة الذاتية للحقيقة كما هي..
وأحيانا أسأل نفسي: أهي كبرياء منى أن أحاول أن أعرفك بينما ما أزال جاهلا بحقيقة نفسي، وما أزال جاهلا بكثير من الأمور البشرية والمادية؟ أن كنت لم أعرف كنه ذاتي، فكيف أعرف خالق هذه الذات؟
وأن كنت لم أعرف بعد سماءك وملائكتك، فكيف أعرف ذاتك الإلهية.
كل ما أعرف عنك، هو ما تكشفه لنا من ذاتك. وأنت لا تكشف لنا إلا ما تستطيع ذاتنا أن تحتمله. لأنك أن كشفت لنا أكثر، ستقف طبيعتنا البشرية مبهورة في دهش، وقد وقف عقلنا عن الفهم، وعجزت مفرداتها اللغوية عن التعبير، وتعترف أن ما تراه هو من الأمور التي لا ينطق بها.
وأنا أحاول في معرفتك أن أخرج عن نطاق الكتب بكل ما فيها من عمق، بل أن أخرج أحيانًا عن حدود معرفة العقل، لكي أعطى للروح في انطلاقها مجالها الواسع الذي تفوق فيه في قدراتها وفي مواهبها، وفي معرفتها.. كما أنها تقاسى كثيرًا من ضباب هذا الجسد المادي.
أترانا يا رب سنعرفك أذن في الملكوت الأبدي؟ وسننظرك حينذاك وجها لوجه كما قال عبدك بولس؟ أراني حقا حائرا أمام عبارة {وجهًا لوجه}.
أننا في الملكوت علي الرغم من القيامة الممجدة، وما سنلبس من أجساد نورانية روحانية، لابد أن سنظل – كما نحن – بشرًا محدودين...
ستكشف لنا شيئاَ عن ذاتك لم نكن نعرفه في العالم، فنسر بذلك ونفرح، ثم تكشف لنا أكثر فأكثر، على قدر ما نحتمل.
وقد تكشف لنا أكثر فتصرخ نفس كل واحد منا وهي مريضة حبا {كفانا كفانا}.. وتظل أنت توسع في قلوبنا، وتوسع في أرواحنا لنستوعب عنك المزيد.. وتظل أنت يا رب كما أنت... غير محدود،.. ونظل نحن – كما نحن – على الرغم من اتساعنا، محدودين، نعرف عنك بعض المعرفة..
ويطول بنا الزمن في الأبدية. ونحن نستمتع بمعرفتك، نذوق وننظر ما أطيب الرب، ونكشف كل حين شيئًا جديدًا عنك، فنتغذّى بهده المعرفة الحلوة المشبعة ولكننا لا يمكننا أن نلم بك كلك.
أذن متي نعرفك المعرفة الحقيقية ؟
يجيب ربنا يسوع ويقول "هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك..."... أذن فمعرفتك ليست موضوع سنين أو أيام، وإنما طريقها هو الأبدية كلها، الأبدية التي لا تنتهي..
أن كان الأمر هكذا في الأبدية، فماذا نقول أذن عن جهالتنا علي الأرض؟ أحقا نحن نعرف شيئًا؟
لذلك أتوسل إليك أيها الخالق العظيم، أن تعذرني أن كنت أحدث الناس عن الفضيلة أكثر مما أحدثهم عنك.
فذلك يرجع إلي سببين:
السبب الأول: هو أنني لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني أصلى إليك أن تكشف لي شيئًا عن ذاتك، وما تكشفه لي أخبر الناس به، لكي يجربوا مذاقة الملكوت علي الأرض.
والسبب الثاني: هو أنني عندما أحدثهم عن الفضيلة إنما أريدهم أن يعدوا قلوبهم لمعرفتك. أريدهم أن يرفعوا البخور عشية وباكر على هذا القلب حتى يستحق أن تقدم عليه السرائر الإلهية.
ونحن بذاتنا لا نعرف، لكننا نريد بنعمتك – أن نعد ذواتنا لمعرفتك، وهذه المعرفة تأتي منك أنت، بما تكشفه لنا، ولا تأتي بمجهود عقولنا، ولا حتى بمجهود أرواحنا. أن كل جهاد عقولنا وأرواحنا – مع ضرورته – أنما يدخل في حقيقته تحت معني الصلاة أو التوسل، لكي يملأ السحاب البيت، وتشتعل النار في العليقة، ويكشف الرب ذاته.. وحينئذ يسجد القلب في خشوع، ويرتل في شكر:
{أعطيتني علم معرفتك}.
هذه المعرفة الإلهية هي اللؤلؤة الكثيرة الثمن، التي من أجلها باع التاجر كل أمواله واشتراها.
ولعله من الأموال التي باعها، ما نكنزه في عقولنا من معارف بشرية متعددة تشغل كل أوقاتنا حتى لا نتفرغ لمعرفتك أنت، وحتى لا نجلس مع مريم عند قدميك تسكب في قلوبنا ذلك الماء الحي، الذي
كل من يشربه لا يعود يعطش أيضًا...
ليتنا نسعي إلي هذه المعرفة، ونطلبها بكل قلوبنا، ونجدها في داخلنا، في عمق أعماقنا، حيث تسكن أنت، وحيث هيكلك المقدس الذي تدشن يوم المسحة المقدسة منك.