أنسيمس
" لا كعبد فى ما بعد بل أفضل من عبد أخا محبوبا " فل 16
مقدمة
لست أدرى هل استطاع أحد أن يتأمل الشبه العجيب بين قصة أنسيمس، وقصة اندروكليس والأسد، القصة القديمة المشهورة، كان أندروكليس عبداً هرب من بيت سيده، وقد ضاق ذرعاً بطغيانه وقسوته واستبداده، وظل يضرب فى القيافى والقفار، حتى وجد مغارة آوى إليها من التعب والمشقة والاجهاد، وبينما هو فى الداخل روع إذ سمع زئير أسد يدوى فيها، إذ كانت مغارة أسد، وأيقن أن موته قد جاء، ولكنه لاحظ أن الأسد يرفع قدمه ويئن وتبين أن شوكة دخلت فيها، استطاع أندروكليس أن ينتزعها، فيستريح الأسد، وتنشأ صداقة عجيبة بينهما، والأسد يأتيه كل يوم بغزال يشاركه الطعام فيها،.. وبعد فترة استطاع صاحب أندروكليس أن يجده، وقدم العبد للحكم عليه بالموت فريسة للوحوش فى حلبات المصارعة المعروفة عند الرومان،.. وأطلق الوحش الجائع على أندروكليس ومن حظه العجيب كان هو الأسد الذى اصطاده الصيادون وجاءوا به إلى روما ليستخدم فى مثل هذه الألعاب الوحشية، ورأى الناس وحشاً جائعاً لا يقفز على فريسة أمامه، بل يحك فيه رأسه وعرفه كأنما يقبله أمام ذهول المشاهدين، وتحول الموت إلى أعظم مشهد مثير، وعفى عن أندروكليس لأن الوحش الضارى أضحى أرق من الإنسان وأوفى!!.. ومهما يكن حظ هذه القصة من الواقعية أو الخيال، فإنها تشبه إلى حد بعيد قصة أنسيمس العبد الهارب من سيده فليمون،.. ولكن صداقة عجيبة صحيحة حدثت بين أنسيمس وبين « الأسد الخارج من سبط يهوذا» غيرت كل شئ، بل صححت مسار التاريخ بين العبد والحر وربطت أحدهما بالآخر: «لاكعبد فيما بعد بل أفضل من عبد أخاً محبوباً».. هل يمكن أن نتابع هذه القصة فيما يلى:
انسيمس العبد المذنب
ليس من السهل علينا نحن أبناء القرن العشرين أن نفهم معنى كلمة عبد فى القرن الأول الميلادى، مهما وصف لنا أو كتب المؤرخون، ولكن يكفى أن نعلم أن الإمبراطورية الرومانية، والتى كانت تعد فى ذلك الوقت ستين مليوناً من الناس كان نصفهم من العبيد،.. على أن هذه النسبة كانت تختلف من مدينة إلى مدينة، ففى بعض المدن الكبيرة كان الأغنياء يستطيعون اقتناء العبيد، وقد قيل عن عائلة واحدة إنها كانت تملك عشرين ألف عبد، ومن ثم كانت الغالبية فى مثل هذه المدن من العبيد، حتى أنهم فى مدينة روما صدر قرار بأن يلبس العبيد ثياباً معينة تميزهم عن غيرهم، ثم ألغى هذا القرار بعد فترة قصيرة، لأن روما اكتشفت أن أربعة أخماس سكانها من العبيد، وخافوا لئلا يدرك العبيد عددهم الهائل فيتفقون على التآمر والثورة على سادتهم، وقيل إن أثينا مدينة الحكمة كان بها مائة ألف من الأحرار، وعشرة آلاف من الأجانب الأحرار، وأربعمائة ألف من العبيد،... وقد حرم القانون الرومانى العبيد من كافة الحقوق، فهو عند صاحبه لا يفترق عن الجماد أو الحيوان،... يفعل به كما يحلو له ويشاء، وقد أراد مواطن رومانى اسمه بولايو أن يلقى بعبد له أغضبه فى بركة بها السمك المتوحش لكى يموت نهشاً بأسنانها القاسية، ولم يمنعه سوى، رجاء من الامبراطور أوغسطس قيصر ولكن هذا الامبراطور نفسه قتل عبداً، لأن العبد قتل طائراً من طيور السمان!.. وقد قيل إن سيدة قتلت عبداً لمجرد أن ترى كيف يموت، وعندما قيل لها إنه لم يصنع شيئاً وليس هناك من سبب يدعو إلى قتله، قالت: ولكن مهما يكن من أمر، أليست رؤيتى له، وهو يموت تصلح أن تكون سبباً!!.. وقد وصلت أثمان العبيد فى بعض الأوقات إلى مالا يكاد يصدق لتفاهتها،... وعلى أية حال كان الإنسان يباع عبداً وفاء لدين أو سداً لحاجة أو يؤخذ أسيراً فى معركة، أو يولد عبداً موروثاً عن أبائه وأجداده العبيد،.. وكان هناك كثيرون من العبيد من الكتاب والشعراء والفلاسفة والأطباء، وقد قيل إن ابكتيتوس الفيلسوف الرواقى وكان عبداً، طلب من أحد الأغنياء أن يقتنيه، لأنه لاحظ غباء الرجل وأراد أن تكون له فرصة لتعليمه وتثقيفه،.. ولكن الغالبية العظمى من العبيد، نشأت - برد الفعل للمعاملة القاسية التى كانوا يعاملون بها- شريرة وحشية قاسية تلجأ إلى كل ضروب الفساد والشر، وكان بعضهم إذا سرق مثلا، يجوز أن يرسم على وجهه بحرفين معناهما « احترس من اللص ».. فى هذا الجو والبيئة نشأ أنسيمس العبد القديم، ويبدو أنه خرج من بيت سيده، ولعله أتلف شيئاً هناك أو لعله سرق يده وهرب، إلى حياة بلا حقوق، تحمل ذنبها وتعطى الصورة الدقيقة للعبد القديم!!..
انسيمس العبد الهارب
سار أنسيمس من كولوسى إلى روما فى رحلة ألف ميل، وسنتابع مشاعره وأحاسيسه، وهو ينطلق إلى المدينة الكبيرة روما،... ولعله فى حياته القديمة يبدو أمامناً أولا: العبد الحاقد، وقد خلا من كل مشاعر المودة والحب تجاه سيده فليمون، بل تجاه الدنيا بأكملها التى صنعت منه عبداً يعانى الضيق والتعب والمشقة والاستعباد شأنه شأن كل العبيد، ومع أننا نثق أن معاملة فليمون المسيحى له كانت معاملة طيبة متميزة،.. إلا أن العداوات الضارية بين الأحرار والعبيد، والتفرقة القائمة بينهما تجعل من الطبيعى أن تنمو عاطفة الكراهية والحقد والبغضاء وتترعرع فى القلوب،... ومع أن العالم ألغى الرق، إلا أن التفرقة العنصرية بأسبابها المختلفة ما تزال إلى اليوم واحدة من أهم أسباب الكراهية بين الناس،.. جلست سيدة مسيحية أرستقراطية مع عدة سيدات ثريات، وكن يتحدثن عن الخدم ومشاركهم ومتاعبهم، وأنهم لا يمكن أن يستقروا بهدوء وسلام فى البيوت فترة طويلة،.. وقالت السيدة: ولكن الخادم التى عندى لها فى بيتى أربعة عشر عاماً، وصاحت الأخريات: هل هى بيضاء أم زنجية، وأجابت السيدة الكريمة بأنها صاحبة قلب أبيض!!.. ولقد تحدثنا فى مواطن كثيرة سابقة عن المعاناة والمتاعب والأحقاد المتسببة عن مثل هذه الأوضاع فى الأرض،.. منذ سنوات قليلة نجحت جراحة القلب، وحدثت المعجزة فى نقل قلب إنسان إلى آخر، وبدأت هذه الجراحة فى جنوب أفريقيا حيث التفرقة العنصرية، وحيث يبدو الرجل الأبيض يحمل قلباً قاسياً عنيفاً أشد فحمة من سواد الليل، ولكنها الخطية التى فعلت كل هذا فى الأرض، وقد سئل أحد الأطباء المشهورين فى جراحة القلب عن أنسب قلب حيوانى للإنسان، وكان إجابته: قلب الخنزير، وقد صدق الرجل وهو لا يدرى أن قلب الإنسان المتمرغ فى الخطية، هو قلب الخنزيرة المغتسلة عندما تعود إلى مراغة الحمأة.
وذهب أنسيمس - ثانياً - فى رحلة الانحراف،.. فهو شخص منحرف خرج من بيت سيده سارقاً أو ظالماً، وهو يمثل الإنسان الخاطئ الذى تنحرف به الخطية عن خط الحياة المستقيم، والخطية دائماً تفعل هكذا، لأن الكلمة خطية في أصلها اللغوى تعنى القصور أو الانحراف، فإذا رمى الإنسان سهماً نحو هدف لا يبلغه فهو مقصر، ومن ثم قال الوحى: « من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له »!!.. (يع 4: 17) خطية التقصير أو القصور أو عدم الوصول إلى الهدف من الحياة!!.. أما إذا انحرف السهم فى هذا الجانب أو ذاك فقد انحرف وأخطأ الهدف، وقد انحرف أنسيمس بما سرق أو فعل من شر، وهو صورة للمنحرفين فى الأرض!!.. بل صورة البشر لأن « الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد »!!.. (رو 3: 12).
وذهب - ثالثاً - فى رحلة الانحدار، لقد قطع ما يقرب من ألف ميل بين كولوسى وروما، ولنا أن نتأكد أنه فى كل ميل من الرحلة كان يزداد سوءاً وانحداراً،.. والخطية تدفع أبناءها دائماً إلى الكورة البعيدة،.. كانت الكاتبة المشهورة جورج اليوت فى بدء طريقها مع الحياة، رقيقة العواطف، مترعة المشاعر، حساسة القلب، وعندما كانت تكتب عن الإيمان أو عن غيره من الصور الكريمة فى الحياة، كانت تبلل كتاباتها بالدموع،.. لكنها وقد سارت إلى الكورة البعيدة، لم تظل على الصورة القديمة الجليلة، لأنها استقرت هناك فى الكورة البعيدة،. والشاعر مايثور أرنولدز وهو ينحنى على إيمانه الضائع يبكيه، كان صورة للإنسان الذى يسير فى طريق الانحدار فى الرحلة القاسية مع الخطية فى الأرض!!..
وذهب - رابعاً - فى رحلة الضياع. إن الاسم « أنسيمس » يعنى « نافع » وهذا هو الأمل الذى راود من أسماه بهذا الاسم، سواء أكان أبوه أم سيده، ولكن الحقد والانحراف والانحدار جعلته كما قال بولس غير نافع، وربما سخط عليه فليمون مرات، وقال له: أنت غير نافع بالمرة، والحيوان أفضل منك لأنه نافع، وهكذا تفعل الخطية فى حياة الإنسان، إذ تهوى به لتجعله أحط من الحيوان وأقل فائدة،.. لقد خلق اللّه كل واحد منا ليكون نافعاً صالحاً معيناً، ولكن الخطية تدفعه فى الخط العكسى تماماً، فتجعله يعيش لنفسه، يؤذى بدلا من أن ينفع، يحطم بدلا من أن يعاون، وما أكثر الناس الذين لا يرتفعون حتى إلى مستوى الحيوان الذى ينفع ويقدم مقابل ما يأخذ دون أن يفسد ويؤذى ويضر!!
وذهب - خامساً - فى رحلة الاختفاء.. لقد قصد روما بالذات، وقطع هذه الرحلة الطويلة، لأن روما كانت مدينة الاختفاء، والذاهب إليها - كما يقولون - مفقود،... والخاطئ فى العادة يود أن يعيش فى الظلام كقول السيد: « وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة » (يو 3: 19).. وما الكبت - كما يقول علماء النفس - إلا محاولة طرد الإنسان الكثير من عقله الواعى إلى عقله الباطن، حتى لا يتأمله أو يذكره، ولكننا نعلم أن هذه المحاولة تنتهى عند حد ما، عندما يثور العقل الباطن وينفجر، لكثرة ما يختزن من إثم وفساد، وكثيراً ما أصيب الناس بالجنون لأنهم أرادوا أن يخبئوا كل شئ فعجزوا عن ذلك!!..
وكانت الرحلة أخيراً رحلة الفزع والخوف العذاب، ولا شبهة فى أنه عاش فى روما خائفاً معذباً، وهو يتصور عند أقل حركة من إنسان، أنه اكتشف، وأنهم جاءوا ليقبضوا عليه، إنه مجرم هارب ينتظره حكم الموت والإعدام، والخطية دائماً تترك صاحبها معذباً، لو علم الذين يرتكبون الخطية أنها لا يمكن أن تتركهم فى راحة، لترددوا آلاف المرات قبل الإسراع إليها، والانكباب على شهوتها الفاسدة المحرمة!! ولا فرق فى ذلك غنى أو فقير، بين متعلم أو جاهل، بين قوى أو ضعيف.. عندما ذهب مودى فى رحلته التبشيرية إلى بلاد الإنجليز.. قال له أحدهم: يامستر مودى أرجو أن تفعل شيئاً من أجل الفقراء المعذبين.. فأنصت مودى قليلا وقال: وأرجو أيضاً من أجل الأغنياء المعذبين.. إن الخطية دائمة مفزعة بالنسبة للفقير والغنى على حد سواء!!..
أنسيمس العبد المجدد
إذا كانت رحلة أنسيمس مثيرة وعجيبة، فإن تجديده فى روما أغرب وأعجب، لقد سار الرجل - على غير ما يتصور أو يتخيل - فى خط العناية المرسوم،.. لقد هرب من سيده الأرضى، دون أن يستطيع الهروب من سيده السماوى، لقد ظن عندما وجد سفينة تأخذه من أسيا إلى إيطاليا، أنها صدفة عابرة، أو ضربة حظ كما يقولون، وعندما قبلته السفينة ويممت شراعها فى اتجاه الغرب، لم يكن يعلم أنه يندفع فى الاتجاه الذى يريده له اللّه بالتمام. قديماً صاح المرنم: « من خلف ومن قدام حاصرتنى وجعلت علىّ يدك. عجيبة هذه المعرفة فوقى ارتفعت لا أستطيعها. أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك » (مز 139: 5 - 10).. لقد أمسك به اللّه وهو لا يدرى، ودفعه دفعاً إلى المدينة الكبيرة، وهو لا يعلم!!.. لقد كان لابد لتجديده أن يقطع رحلة ألف ميل حتى يلتقى بالرجل المعين من اللّه لينال الخلاص على يديه!!.. على أنه من المناسب أن نرى يد اللّه أيضاً فى الضيق الذى كان يعانيه، وسواء أكان هذا الضيق فى الفزع أو الخوف أو كما يتصور أحدهم أنها الحاجة أو الفاقة، إذ يبدو أنه أضاع ما بيده من نقود، واحتاج وجاع، ولم يجد مكاناً فى المدينة يسكن إليه أو يستريح فيه، فذهب تحمله قدماه المتعبتان ليجلس جائعاً مضطرباً مهموماً عند أعتاب هيكل من هياكل روما، وتمر به فى تلك اللحظة: إمرأة مسيحية، لتتحدث إليه عن نفسه، وإذا به يقول لها - كما تخيل الكاتب - أنا لا يهمني شئ اسمه النفس، ولكنها تحدثه عن المسيح يسوع... فيقول لها: لقد سمعت هذا الاسم فى كولوسى، فتأخذه إلى بولس، حيث يقدم له رسالة المسيح، رسالة الخلاص،.. والكاتب يتخيل أن المرأة أطعمته وكسته، ولكنى أعتقد أنه حدث ما هو أكثر من ذلك، فبولس لم يقدم له الرسالة فحسب، بل قدم له الحب والعطف والحنان والأمان!!.. لقد دعاه بولس ابنا... وسمع أنسيمس بولس يناديه يا ابنى... ويصيح الرجل بدموع: لا يا سيدى هذا كثير على، إن الناس تعتبرنى عبداً حقيراً مهاناً مشكوكاً فيه يعاملونه أقسى المعاملة، ويرون الحيوان أهم منه وأفضل،.. ولكن بولس يقول له كلا يا ولدى، أنت ابنى، وابنى المحبوب العزيز!!.. وفتحت المحبة قلب الرجل لا إلى بولس فحسب، بل إلى رب بولس، إلى يسوع المسيح نفسه!!.. ما أكثر ما تفعل المحبة فى جذب الناس إلى الفادى!!.. قالت افنجلين بوث عن أبيها القديس العظيم الجنرال بوث إنه كان يملك نوعاً عجيباً من العيون تختلف عما تراه فى عيون غيره من الناس، إذ كان يملك أن يرى الحلاوة الكامنة فى أشر الناس واللصوص والزناة، ومن ثم استطاع أن يرفع آلاف الناس من مهاوى الخطية التى سقطوا فيها!!.. لقد رأى بولس أنسيمس القديس خلف العبد الآبق الشرير الضائع!!..
انسيمس العبد النافع
وما أجملها وأعظمها من عودة، لقد عاد شيئاً بل بتعبير أصح شخصاً آخر، خليقة جديدة فى المسيح، لقد عاد العبد حراً، كانت مشكلته الحقيقية أكثر من عبودية فليمون له، إذ كانت عبودية الفساد والشر والخطية، ولابد أن فليمون حاول تقويمه عشرات المرات دون جدوى، ربما قيده أو أوقع به ضربات قاسية موجعة مزقت جلده، ولكنها لم تستطع أن تمس قلبه.. عندما رأى تشارلس لام سلطان الخمر عليه وأنه لا يستطيع أن يملك إرادته عليها كتب ما يأتى: هل يستطيع الشبان الذين تستهويهم رائحة الكأس الأولى الجميلة أن يلقوا نظرة علىَّ ليفهموا كم هو أمر مرعب أن يرى الإنسان نفسه يتدحرج إلى هاوية سحيقة بعيون مفتوحة وإرادة معدومة، ينظر هلاك نفسه ولا يملك قوة الإرادة التى توقفه، ويحسن أن كل صلاح قد تركه، ومع ذلك لا يستطيع أن ينسى الوقت الذى لم يكن فيه كذلك، آه لو نظروا لاحترسوا بشدة من الكأس الأولى!!.. وقفت المرأة أمام القاضى باكية.. قالت: ياسيدى أرجو أن ترسلنى إلى السجن. لقد جربت كل طريقة أخرى وفشلت. إنى مستعبدة لسلطان المسكر. أرسلنى إلى السجن فهناك سأُمنع عن الشرب،... ما أكثر العبيد الذين قيدتهم الخطية بقيود أقسى من الأغلال، ولم يجدوا نجاتهم إلا فى المسيح محرر العالم ومحطم الأغلال التى تستعبدنا بعنف!!.. تعبت الحكومة فى معالجة زوجين سكيرين. حاولت معهما بكل وسيلة وفشلت. سلمتهما إلى جيش الخلاص الذى، بواسطة إنجيل النعمة، استطاع أن ينقذهما من شيطان المسكر، وقامت الحكومة بدفع مصاريف علاجهما إلى جيش الخلاص. دفعت الحكومة أجرة المكان. ولكن هل نستطيع أن ندفع أجرة «الخلاص» نفسه؟ لقد دفع السيد الثمن!!.. ومن المؤكد أن أنسيمس فى ذهابه إلى روما كان كمن يرزح تحت جبل ثقيل موضوع على كتفيه ولكنه وقد نال الخلاص عاد متحرراً يقفز ويطفر ويسبح اللّه بعد أن سقط جبل الخطية عن كاهله!!..
لم يعط التجديد أنسيمس الحرية فحسب، بل أعطاه المساواة أيضاً، فلم يعد عبداً،.. وهنا لابد أن نتوقف لنرى أسلوب المسيحية فى مواجهة مشكلة الرق العاتية، وهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون ثورياً، فالمسيحية لا تؤمن بالعنف أو ترضاه، سبيلا للاصلاح والعلاج،.. وربما نفهم هذا لو قرأنا ما كتبه جيمكس م. ستيفلر عن السيد المسيح عندما قال: عندما سار المسيح بين الناس... رأوه ينظر بعينيه إلى النساء والأطفال بنفس النظرة التى كان ينظر بها إلى الرجال،.. وهو لم يقل هذا، ولكنه أظهره بالصورة الواضحة التى يفهمها الجميع،.. والأمر نفسه بالنسبة للرق والعبيد، وهو لم يخطب ضد مظالم العبودية الواضحة فى العصر الذى عاش فيه، أو يتكلم عن الطبقات المختلفة، ولكنه تصرف كما لو لم تكن موجودة، لقد تناول طعامه مع الأغنياء ومع الفقراء دون أدنى تفرقة، وزار رجال الدين المحافظين كما زار العشارين والخطاة على السواء، ودون إثارة،.. وإنك تستطيع أن تثق فى التصرف السليم لأى إنسان يضع قلبه على الأمور السامية،... ولعل هذا هو السبب فى أن الناس لم تقدر أن تفهمه، لأنهم يقسمون الناس إلى طبقات متعددة، أما هو فلم يفعل هكذا، ونحن مانزال إلى اليوم نقسم الأشياء، إلى وطنى وأجنبى، ومادى رورحى، ودنيوي ومقدس،.. أما بالنسبة للمسيح فلم يكن هناك إلا صنفان من البشر، أولئك الذين يعيشون مع اللّه ويضعونه أولاً، وغيرهم ممن يحيون ويعيشون للجسد، وحتى مع هذا التقسيم، فإنه لا يمكن تجاهل الحقيقة أن الجميع إخوة، وأبناء للإله الواحد!!.. فإذا تحولنا مع المسيح إلى رسوله بولس نجد ذات الشئ.. أو كما وصفه كوستن ج. هاريل فى كتابه: « أصدقاء اللّه » إذ قال: « إن الناس لا تفكر فيه عادة على هذه الصورة،... ولكن بولس كان رجلاً ناجحاً على وجه عجيب، ومقتدراً. كان أبوه يتمتع بالجنسية الرومانية، وكل الدلائل تدل على أنه كان من طبقة عالية ميسورة الحال، ولكنه لم يبال بهذا كله، بل رمى به عندما دعى لمركزه الرسولى، وترك ميراثه ليعيش من صناعة الخيام، وتخلى عن أسرته من أجل المسيح، وأصبح رحالة يجوب الأرض، وهو يفعل ذلك فى منتهى السعادة، وكان متعلماً، ولكن الرجل الذى تعلم عند رجلى غمالائيل كان آية فى التواضع، وقد وجد أنسيمس العبد الهارب مكانه ومكانته عنده، وهو فى وداعته يشبه ذلك العالم الذى قال لقد شعرت أنى ألتقط بعض الأصداف القليلة من على شاطئ بحر الحقيقة الواسع العظيم، ولم تدر رأسه المعرفة التى وصل إليها أو تفقده عطفه على الآخرين من بنى الإنسان، ولم يقدم على أية محاولة دون أن ينجزها، فى سجله الحافل فى العمل الرسولى، وقد أمكنه بنعمة اللّه أن يزرع كنيسة المسيح فى أنحاء العالم الرومانى بنجاح وقوة، ومع ذلك فإن نجاحه العظيم لم يجعله يرفع عقيرته على غيره من بنى البشر، كان عطوفاً كأرق العطوفين، ولم يجرفه التعالى أو الكبرياء، وهو دائماً عند الفكر المسيطر عليه أنه أول الخطاة الذين افتقدتهم نعمة الله العظيمة المتفاضلة، وبالحقيقة كانت وداعته الأخاذة أكثر بروزاً فى نجاحه مما فى استسلامه القانع الهادئ فى شجنه »... لقد كسب بولس السيد والعبد معاً ليسوع المسيح، وهو لا يرفع أحدهما، ويهبط بالآخر، بل يرفعهما كليهما إلى المستوى المسيحى، والمساواة التى جاء المسيح بها، لم تفرق بين عبد وحر، ذكر وأنثى،.. ومع ذلك فهو يرتفع فوق كل قانون، ويرى المسيحية أعلى من القانون الذى يمكن فليمون من كل تصرف تجاه عبده وخادمه، فهو إن شاء أبقى عليه، وإن شاء قتله، دون تدخل أو عقاب من القوانين الرومانية الوضعية، ولكن من قال إن المسيحية يمكن أن تنزل أو تتساوى مع أية قوانين بشرية، أو من قال إن القوانين الأرضية يمكن أن تحكم المبادئ المسيحية أو تحتويها، إن العكس هو الصحيح... يقول يوحنا فم الذهب: إن فليمون لا يكون مسيحياً أو إنساناً بل وحشاً إذا رفض نداء بولس بمسامحة أنسيمس ورفعه إلى مستوى الأخوة المسيحية!..
ومن المناسب أن نذكر أيضاً، ولهذا السبب، أن بولس لم يناد بالحرية والمساواة بل بالإخاء أيضاً: « لا كعبد فى ما بعد بل أفضل من عبد أخا محبوباً ولا سيما إلىَّ فكم بالحرى إليك فى الجسد والرب معاً » (فل 16).. ولم يحتج الأمر إلى العنف أو الثورة لتحقيق كل هذا كما أطلقت الثورة الفرنسية شعارها المعروف « الحرية والمساواة والإخاء » وسفكت الدماء وأسالتها أنهاراً، إذ قام الحب فى المسيحية مقام العنف والطغيان والثورة، وعلا الحنان والجود والرفق والسلام على كل حواجز الحقد والشر والتحزب والانقسام،... ومع أنه من المؤسف أن البشر يتحركون ببطء نحو المبادئ المسيحية السامية العليا، ولكن المسيح لا يقبل أن يتحول الناس إليها قسراً أو عن اكراه أو بقوة السيف أو القانون، ولكن بسلطان روحه الذين يتملك الجميع، فيقف بولس وفليمون وأنسيمس على خط واحد من الحرية والمساواة والإخاء والحب الحقيقى فى المسيح يسوع: « بل أخا محبوباً ولاسيما إلىَّ فكم بالحرى إليك فى الجسد والرب معاً »..
لم تعط المسيحية أنسيمس الحرية والمساواة والإخاء والحب، بل أعطته إلى جانبها جميعاً الصلاح والنفع، إذ عاد أنسيمس إلى معنى اسمه الذى أفقده إياه الشر والاثم، إذ أصبح نافعاً، ومن الواضح أنه كان نافعاً لبولس فى روما، ولم يرغب بولس أن يكون هذا النفع قسراً بدون إرادة فليمون، ولم يشأ أن يحرم فليمون أيضاً من هذا النفع، فأعاده إليه والحياة المسيحية الجديدة، لابد أن تكون نافعة، وصادقة فى نفعها، مهما بدت الطريق أمامها قاسية وخشنة،... لقد حمل أنسيمس كتاب بولس إلى فليمون، وكان على الجميع أن يشتركوا فى المنفعة، فبولس كان على استعداد للبذل والعطاء موفياً ما يمكن أن يكون لفليمون من دين على أنسيمس، وكان أنسيمس يسير بخطى ثابتة إلى بيت فليمون مهما تكن النتائج التى قد تواجهه، إذا لم يقبل فليمون توبته ورجوعه، وهو كإنسان نافع على استعداد أن يقدم هذا النفع فى الحياة أو الموت على حد سواء، كما تفعل كل حياة تصمم على الحق والشرف والأمانة والصدق مهما تتكلف من متاعب أو مشقات أو آلام،.. وكان على فليمون ألا يكون أقل فى الشهامة والكرامة والنفع، فيقبل عرض بولس، وتوبة أنسيمس، وانتصار الشركة المسيحية التى ترفعهم جميعاً إلى أعلى مستوى!!.. وإذا صح التقليد القائل أن أنسيمس عاش مع فليمون ومات مع ابنه شهيدين من أجل المسيح، فنحن هنا ازاء أسمى ما يمكن أن تكون عليه الرابطة المسيحية التى تربط المسيحيين معاً فى الحياة أو الموت بالأخوة المسيحية!!..
مات أحد القضاة الأمريكيين فى سان فرانسيسكو عن عمر ناهز الواحدة والتسعين، وقد أرسل أصدقاؤه وأصدقاء الأسرة فى الجنازة مئات من باقات الورود، ولكن أجمل باقة وأكبرها كانت من شخص مجهول للأسرة، وإذ استفسروا عن الصديق المجهول وجدوه رجلا فقيراً جداً يلبس بدلة العمل الزرقاء!!.. ولما سئل لماذا قدم أعظم باقة وأجملها، أجاب: إنى كناس الشارع، وقد كنت كل يوم أنتظر القاضى فى خروجه من البيت، وكان يسير إلى جوارى وأنا أكنس الشارع!!.. وقد ظللنا على هذه الحال عشرين عاماً!!.. القاضى العظيم لا يأنف أن يسير إلى جوارى ويتكلم معى، أنا الذى لا أساوى شيئاً، ويقول لى: يامستر مورفى!!؟.. لقد وضع بولس يده فى يد أنسيمس ويد فليمون، وعاش الثلاثة على مر القرون والأجيال رمزاً صحيحاً للمسيحية التى تعطى العبد الحرية والمساواة والإخاء والحب والصلاح والخدمة!!..