أوباما والحرب ضد سوريا : مسألة مزاج!
محمد قواص حين خرج سيّد البيت الأبيض من خلوته وأعلن للعالم أنه سيستشير الكونغرس بشأن ضربة عسكرية ضد سوريا، اعتدل مزاج دمشق وتيار سياسي إقليمي دولي حليف، وتعكر مزاج تيار مضاد.أنسَ الرئيس الأميركي باراك أوباما، ولم يغضب، لتصويت مجلس العموم البريطاني ضد مشاركة بريطانيا في الضربة العسكرية ضد سوريا. خالجته الفكرة البريطانية فأراد مثلها في بلاده لعلّ فيها خروجا ما من المأزق. اتصل أوباما أدباً بنظيره الفرنسي يبشّره بقراره ناقلا الأزمة إلى الحضن الفرنسي.
تُختزل أمور العالم بمزاج الرئيس في البيت الأبيض. وفق ذلك المزاج شنّ الرئيس كلينتون حربه في يوغسلافيا، وتحت تأثير مزاج آخر خاض الرئيسان بوش، الأب والإبن، حربيهما ضد العراق، وخضوعا لمزاج مستحدث يتحفظ الرئيس أوباما عن الإقدام عما قرره، هو، وأعلنه بمزاجية، بعد أكثر من عامين على نأي مزاجي أيضا بالنفس عن التفصيل السوري.
والمزاجية حالة نفسية تخضع لعوامل ذاتية قد يصعب تفسيرها وفك رموزها، وبالتالي يصعب تعقلها بأدوات المنطق التي ما فتئت أقلام المحللين الدوليين عبثا تحاول كشف طلاسمها.
نعم قد لا تُحلّ المعضلة السورية بالخيار العسكري. يُرَدَدُ الأمر في عواصم الغرب منذ بدايات الأزمة السورية تبريرا لحالة الانكفاء اللافتة عن الميدان في سوريا. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يتحدث الغرب عن تسليح المعارضة تارة، وعن ضربة عسكرية «تأديبية» ضد دمشق مؤخرا؟ وإذا كانت المعطيات العلمية المنطقية المستندة على خبرات استراتيجية عالية تفيد بهراء الذهاب إلى الوسائل العسكرية في سوريا، فليعتمد الغرب مقاربة الانكفاء النهائي عن شؤون سوريا مستسلمين لقوى عالمية وإقليمية أخرى، كروسيا والصين وإيران. فعبثٌ عدم تقديم الحلول، وعبثٌ أكبر منعُ الآخرين من تمرير حلولهم.
واللافت أن التردد الحاصل لدى إدارة البيت الأبيض وحلفائها لا ينطلق من شكوك في هوية المسؤول عن استخدام السلاح الكيماوي (على النحو الذي تنفيه دمشق وتحمله موسكو للمعارضة). فواشنطن، كما لندن، كما باريس، يؤكدون (وفق روايتهم) امتلاكهم لإثباتات حقيقية على مسؤولية النظام السوري، بغض النظر عما ستفصح عنه لجنة التقصي التابعة للأمم المتحدة. ومع ذلك، وبناء على تلك التأكيدات، لا يجد أوباما أن الأمر يستحق تدخلا على منوال التجارب الأميركية السابقة (لاسيما ضد نظام صدام حسين في العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل وفق فضيحة الأدلة التي قدمها كولن باول أمام مجلس الأمن).
لم يتوقف البيت الأبيض كثيرا عند جدل الكونغرس لشن حروبه السابقة. راح رؤساء الولايات المتحدة يستخدمون المؤسسات التشريعية لرفد خياراتهم الحربية ويهملونها دستوريا في ما إذا كانت ستضعف تلك الخيارات. التحقت بريطانيا آليا بخيارات واشنطن العسكرية وقليلا ما أُستشير برلمانها في الأمر، إلا إذا كانت الاستشارة تأكيدا لمؤكد. وخاض الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند حربه في مالي، قبل أشهر، مستخدما صلاحياته الدستورية كاملة دون عودة تقريرية للجمعية الوطنية.
التمارين البرلمانية الجديدة التي يتم اعتمادها، تعكسُ خجلا في الإقدام وتوقاً الى عدمه. تأتي «المثالية» في احترام السلوك الديمقراطي (راقب الجدل الفرنسي هذه الأيام) التي تصحو عليها واشنطن ولندن وباريس، هكذا، وبشكل لا ينسجمُ مع ماض ولا يتّسق مع سلوك ولا يتأسسُ على سوابق، ليعكسَ ثابتةً حقيقية، هي أن تلك الدول لا ترى مصلحة استراتيجية كبرى تدفعها للإقدام العاجل، كما حصل الأمر بالنسبة للعراق (حماية للنفوذ على الطاقة) أو بالنسبة لأفغانستان (انتقاما من القاعدة على فعلتها في 11 سبتمبر) أو بالنسبة لمالي (صونا لمناجم اليورانيوم في المنطقة)…إلخ.
من يصنع القرارات المفصلية في العالم هي مجموعات الضغط (اللوبي) الاقتصادية الكبرى. تكشفُ الحروب السابقة دور تلك اللوبيات في مجالات الطاقة والصناعة العسكرية في إنتاج قرارات الحرب والسلم. فأي مجموعات ضغط يمكن أن تعمل لصناعة قرارات تتعلق بالشأن السوري حيث لا رهانات كبرى تُسقط المثاليات الديمقراطية الرائجة هذه الأيام؟ سوريا هي مسألة أمن إسرائيلي في العرف الدولي، ولا يتوقف عليها أي عمق استراتيجي آخر. وطالما أن أمنَ اسرائيل ليس في خطر، حتى الآن، فلا عجالة في الأمر مهما عملت آلة التدمير والقتل في سوريا من أي فريق أتت.
حين سوق الرئيس بوش الأب حربه لتحرير الكويت لدى الشعب الأميركي، لم يحدّثهم عن الديكتاتورية ولم يكلمهم عن تحرير الشعوب ولم يضجّرهم بخطبٍ عن الديمقراطية. قال بوش، وقتها، وبكل بساطة: هي حرب من أجل الحفاظ على طريقة عيش الأميركيين (your way of life).
لا يشعرُ المواطن الغربي أن المأساة في سوريا تؤثّر مباشرة على طريقة عيشه. لن توقف المأساة نفطاً ولن تعطّل غازا، ولا يبدو أنها ستزيد في شوارعهم من خطر الإرهاب.
ليس جديدا مقتُ الرأي العام الغربي للحروب، كل الحروب. لكن الجديدَ استناد أصحاب القرار هذه المرة على استطلاعات الرأي في هذا المضمار لتبرير تراجعهم الأخير. هل يجب التذكير أن سبعين في المئة من البريطانيين، على سبيل المثال، كانوا ضد الحرب في العراق وتظاهروا بالملايين من أجل ذلك؟ لكن ذلك لم يمنع الحكومة البريطانية المنتخبة بـ «مثالية» ديمقراطية من المشاركة الحيوية في المأساة العراقية. ثم أن الرأي العام الغربي تعرّض على مدى عامين، إما لغياب تغطية حقيقية إعلامية للحدث السوري، ما عكس إرادة حقيقية لعدم لفت النظر إلى ملف لا مصالح فيه، أو لتغطية تتحدث عن نفوذ القاعدة والجهاديين وهيمنتهم على المعارضة السورية. وبين ليلة وضحاها، ولأن مزاجية الحاكم أرادت ذلك، كان مطلوبا من هذا الرأي العام، بعامته وإعلامه وسياسييه وبرلماناته، أن ينقلب لصالح ما لم يُبرمج من أجله: الحرب.
أن يُستخدم السلاح الكيماوي (وهو خط أحمر حسب إعلان قديم لأوباما)، فذلك ليس سببا كافيا لخوض الحروب (الاندبندنت البريطانية تتهم لندن بتصدير غاز الأعصاب إلى دمشق العام الماضي). وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن يعلنها صراحة: «لن نشارك في أي ضربات عسكرية ضد سوريا، حتى فى حالة حدوث هجمات أخرى أكثر خطورة بالأسلحة الكيماوية».
في المزاج أيضاً أن الرئيس الأميركي يروم من خلال مناورته التسلّح بإجماع برلماني يمكّنه من التلويح بشنّ ضربته «المحدودة المتناسبة» للتأثير في مزاج روسيا التي يزورها (تصريحات بوتين حول وجوب معاقبة من استخدم الكيماوي يمثل تبدلا طرأ على مزاجه). ويريد أوباما من مناورته التلويح بنموذج عن مستقبل الصدام مع طهران سعيا وراء إمعانٍ في تغيير مزاج إيران الذي أُمل في تبدله منذ انتخاب روحاني رئيساً.
ما تقدمه العواصم الغربية كمسوّغ للتدخل في سوريا هي مسائل تتعلق بالأخلاق والقيم واحترام المعاهدات التي تحمي البشر. وهو أمر، للمفارقة، محل أخذ وردّ من قبل البرلمانات. فعنصر الأخلاق غير كاف لتحريك الجيوش. لخوض الحروب من قبل الغرب يجب توفر شروط غير الإبادة الجماعية والدمار الشامل. يجب توفر شروط «تِعْدِل المزاج» كما يقولون في مصر.
صحافي وكاتب سياسي لبناني