أحزان مريم العذراء أحــزان القديسة مريــم العذراءانّ عذابات مريم كانت عظيمة, وذلك لأنّها كانت تُحبّ يسوع محبّة طبيعيّة كإبن لها، ومحبّة فائقة الطبيعة كإله. فهاتان المحبتان إتحدتا في قلب مريم،حتى تركتا قلبها كآتون نار بالمحبّة، فأحبّت الله على قدر ما يُسمح لخليقة أن تحبّه. ومن هنا،نعلم أنّه لم يوجد وجع يوازي وجع مريم. إنّ مريم شاهدت آلام يسوع بعينيها. نحن المؤمنون لا نتمالك من ضبط دموعنا عند نظرنا صورةآلام المسيح،فكم كانت هذه الصورة الحيّة الحسّية، التي وقعت تحت أنظار مريم، جديرة بأن تثير في قلبها الأحزان على من تحبّه أكثر من نفسها! هذه الآلام كانت مطبوعة في ذاكرتها،حتى كان يمكنها أن تقول: "إنّ وجعي أمامي في كلّ حين"،ولكن هذه الآلام ازدادت شدّة، عندما إلتقت بإبنها على طريق الجلجلة.إنّ أحزان مريم استمرّت لفترة أطول من أحزان يسوع، لأنّها كانت تتوجّع عليه وهو طفل، وبقي صوت سمعان الشيخ يذكّرها بالرمح الذي سيجوز في قلبها كلّ أيام حياتها. ولمّا فارق يسوع الحياة، ولم يعُد يتألّم، بقيت هي واقفة تحت الصليب تتألّم عنه. هذه هي الآلام العظيمة التي احتملتها مريم، فكانت سبباً لإزدياد آلام يسوع, وسبب كل ذلك هو خطيئة أبوينا آدم وحواء ، وخطايا البشر عامة .ولكن هناك الكثير من الآلام والأحزان التى عاشتها أمنا مريم العذراء قبل وأثناء وبعد حياة إبنها على الأرض، منها نتذكر:مرحلة طفولتها، خطبتها للقديس يوسف، حياتها الفقيرة، البشرى العجيبة، الرحيل الى بيت لحم، ولادة إبنها فى مزود، صراخ أطفال بيت لحم، وخضوعها للشريعة،وختان يسوع،ونبؤة سمعان الشيخ،والهروب الى مصر والحياة فى غربـة،عودة وحياة فى بلدة مغمورة،فقدان للطفل السماوي فى الهيكل،موت الشريك ( يوسف البار ) ،رسالة الإبن،عرس قانا الجليل، رفض الشعب لإبنها وإهانة وتشكيك،دخول أورشليم الإنتصاري، خيانة تلميذ وصراخ فى البستان،محاكمة ظالمة وبيلاطس يحكم على ابنها بالموت، حمل الصليب، وبدأت المسيرة الى الجلجثة، تعرّيه الجنود لإبنها من ثيابه ويسقوه خلاًّ ومرارة، صوت المطرقة وهى تسمِّرُ ابنها على الصليب، وإبنها يفارق الحياة ويموت على الصليب، يسوع ينزل عن الصليب ويوضع في حضن أمه مريم،يسوع يوضع في القبر، قيامة مجيدة، رسالة أم ومسؤولية مستمرة،موت وإنتقال،ودور الأم مع الكنيسة وحزنها على خطـايا البشر وظهوراتها الـمستمرة لإنذار البشرية جتى مجيئ إبنها الثاني.فلنتأمل معاً كل تلك الأحداث والتى تضع أمامنـا كيف أن أم يسوع وأمنا قد شاركتنا نفس الآلام والأوجاع وتحملتها بشجاعة وإيمان وصبر وإستسلام لمشيئة الله جعلتها مثالاً يُحتذى به. أحزان الطفولــة جـاء فـى تقاليد الكنيسة مثل كتاب "السنكسار وهو عن سير القديسين والـمستخدم فـى الكنيسة القبطيةقد جاء ببعض الأخبار عن عائلـة مريـم ولقد جاء ايضاً ذكراً عن والداي مريـم فى كتابات بعض الأبـاء الأوليـن أمثال القديس افرام السرياني (+373)و القديس يوحنا الدمشقي (+746) والقديس غريغوريوس النارغي (+950) وغيرهـم. وتذكر لنـا تقاليد الكنيسة أن والدا مريم هما يواقيم وحنّـة وكانـا متقدمـان فـى السن ولـم يرزقـا بولد،وعدم الإنجـاب كان يعتبـر عاراً عند اليهود. وكان القديسان يواقيم وحِنـّة يعيشان فـى خوف الله وممارسة الفضيلة. وبحسب بعض الكتابات القديمة أن ملاكاً قد جاء مبشراً يواقيم وحِنـّة بـميلاد مريم العذراء ولقد قيل أيضاً أنـه كان الـملاك جبرائييـل وهو الذى بشرهـما بـميلاد إبنـة يدعونهـا مريـم ومنهـا يكون خلاص آدم ونسلـه. وعندما سمعت حنـة بتلك البشارة نذرت أن تكرّس الـمولود لله.وطبقاً للناموس اليهودي فإن "كل بِكر كل فاتح رَحم من بني إسرائيل" فهو مُقدس للرب (خروج2:13) ويجب تقديـمه لهيكل الرب. ولقد قررا والدا القديسة مريـم الوفاء بنذرهـما بتقديم طفلتهـما للرب فقدمـا إبنتهـما مريـم للهيكل عندمـا كان عمرهـا ثلاث سنوات. وتقدمـة مريم للهيكل لم يكن أمراً مفروضاً فى الشريعة،فالشريعة ما كانت تلزم إلاّ بتقدمـة الصبي بكر عائلتـه ولكن والدا مريم قدماها للرب وكرساها لخدمة الهيكل منذ ميلادهـا. والرأى العام عند مؤرخي حياة العذراء مريم هو انها مكثت سني صباها حتى سن الرابعة عشرعاما حيث سكنت مع رفيقاتها الـمكرّسات مثلها احدى الأبنية الـمتصلة بهيكل سليمان،وهى مثل دار للفتيات يربين فيه وفيها يعشن فى نظام مشترك مشابه لنظام الرهبنات الحالي.ولقد توفى والدى العذراء وهى فى سن الطفولة .وهنا قد نتسأل لماذا شاء الله أن مريم العذراء تعاني هذه الطفولة المعذبة؟ إنها لم تستمر في كنف والديها إلا ثلاث سنين، وبعد ذلك ذهبت الى الهيكل وبعد ذلك مات أبوها وماتت أمها وظلت يتيمة حتي سن12سنة؟. لا شك أن هذا كان فيه ألم كثير وعذاب، طفلة تحرم من الأب والأم، وكلنا نعلم مركز الأب والأم بالنسبة للطفل، هذه الإنسانة التي من المفروض إنها سيكون عن طريقها خلاص العالم، لماذا لم يبق والداها؟ ما هي الحكمة؟ لابد أن الله له حكمة أن مريم تعاني هذا العذاب، عذاب الحرمان من الأب والأم وتظل تعيش هذه الطفولة اليتيمة حتي كبرت، ولا يكون لها أحد تعتمد عليه أو تستند إليه. قد يرى البعض فى هذا حزن وألم وضيقة وتجربـة، ولكن القديسة مريم قد استسلمت لإرادة الله فكرّست ذاتهـا بكليتهـا للـه وأدركت تماماً دعوة الله لهـا متذكرة قول المرّنم:"قومي يـا خليلتي يا جميلتي وهلّمي"(نشيد الأناشيد13:2)، فلهذا نسيت كل شيئ و عاشت فى حضرة الله كقول المرّنم:"انسي شعبكِ وبيت أبيكِ فيصبو الـملك إلـى حُسنكِ" (مزمور11:44). مريم والقديس يوسف جاء فى التقليد الكنسي أن مريم العذراء قد أقامت فى الهيكل مع العذارى اثنتي عشرة سنة، إلى إن جاء الوقت الذي يأتي فيه الرب إلى العالم، ويتجسد من هذه التي إختارها، حينئذ تشاور الكهنة إن يودعوها عند من يحفظها، لأنها نذر للرب منذ ولادتها، إذ لا يجوز لهم أن يبقوها في الهيكل بعد هذه السن فقرروا إن تخطب رسميا لواحد يحل له إن يرعاها ويهتم بشئونها.وظهر ملاك الرب لزكريا الكاهن وأعلمة أن يجمع من سبط يهوذا اثني عشر رجلا أتقياء ويأخذ عصا كل واحد منهم ويدخلها إلى الهيكل، وبالفعل قام زكريا الكاهن بعمل ما أمرة به ملاك الرب، وأمام حشد كبير من المصلّين والحاضرين إذ بحمامة تاتى وتستقر على عصا القديس يوسف النجار وتفرخ براعم مزهرة. كيف أن العصا بعد أن جفت تخرج هذه البراعم؟ إنها معجزة لتكون علامة من السماء علي أن يوسف الذي اسمه مكتوب علي هذه العصا هو الرجل الذي اختارته السماء وعلموا إن هذا الأمر من الرب، ليكون هو الشخص الذي يأخذ مريم في كنفه ورعايته. لقد عزمت مريم على نذر البتولية،فالبتولية كانت منتشرة أيام الـمسيح وتُعد من علامات التقارب مع الله. فبتولية مريم أعطتها صفة التكريس وإمكانية حياة التأمل وحياة الخدمة. ولم تكن تعلم ان يوسف أيضا قد نذر نفسه للبتولية إذ يذكر عنه الكتاب المقدس "كان باراً" على الرغم من انه قد أطاع حكم الشريعة وقبِل أن يكون من عِداد من يتقدمون لخطبة مريم لأنـه كان من بيت داود ورضخ لإرادة الله بعد أن شاهد علامـة إلهيـة كما ذكر التقليد فأتمم مراسيم الخُطبـة، وهو على يقين تام أنـه سيطلب من خطيبتـه الحياة معـا فى نذر وتكريس كامل لله ولم يكن على عِلم بما نذرته خطيبته أن تكرّس ذاتها لله.أما مريم ففى فترة الخطبة وقبل حادثة البشارة كانت فى صراع خفي ما بين نذرها للبتولية وتكريسها لله وما بين خضوعها للشريعة وطاعتها للكهنة وقبولها أن تُخطب لرجل من بيت يعقوب أُختير من السماء وليس بإختيارها الإرادي.وبعد حادثة البشارة وعندما أخبر الـملاك يوسف فى حلم عن من هـى مريم العذراء وابنهـا عـمانوئيل فرح وأطاع أمـر السماء و"أخذ امرأتـه ولـم يعرفهـا"(متى25:1). وأيضاً كم كانت سعادة مريم بعدها عندما وجدت خطيبها بتولا مثلها، ولهذا كانت إجابتها للملاك جبرائيل:"كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً"(لوقا34:1) فلو كانت على علم إن يوسف رجلهـا رجلاً ليس ناذراً للبتوليـة ما كانت تجيب ملاك الله فى حادثة البشارة بأنهـا لا تعرف رجلاً. فعاشت مريم ويوسف فى حياة مشتركة مع الله قبل ان يعيشا معا تحت سقف واحد وحتى بعد ان أخذها إلى بيته كما أمره الملاك عندما ظهر له فى حلم. ولما عرف بأمر الحبل الالهي لم يجرؤ بعد كل هذا أن يلمس أم الـمسيّا هيكل الله،فعاشا معاً حياة كلها تكريس وخدمة ومحبـة. مريم وبشرى ملائكية غير عادية ذُكرت حادثـة البشارة العجيبة فى إنجيل القديس لوقـا (لوقا26:1-38)، وجاء فى نص البشارة انها قد أتت من السماء"إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم" (لوقا27:1)، وهنـا تحديد لإسم العذراء وعلاقـتهـا بيوسف،وانـه من بيت داود تحقيقـا لنبؤات العهد القديم أن الـمسيّا هو من بيت داود ومولوداً من عذراء. ثم قد أتت بتحية عجيبة:"السلام لكِ أيتهـا الـممتلئة نعـمة،الرب معكِ،مباركة أنتِ فى النساء" (لوقا28:1)، مع لقبـاً جديداً، فلم يناديها يا "مريم" بل أعطاها لقبا جديدا وهو "الـممتلئة نعـمة". فلم تكن هذه بالتحية العادية لكن الكلمة هنا كانت تعنى كمال معنى الفرح. +" فلما رأتـه اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى ان تكون هذه التحيـة"(لوقا29:1). اضطربت مريم فمنظر الملاك غير مألوف فى تلك الأيام،ومثل هذه التحيـة غير عاديـة أيضاً، ومثل هذا الخبر فوق الطبيعة. + فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم،لأنك قد وجدتِ نعمة عند اللـه وها أنتِ ستحبلين وتلدين إبناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإلـه كرسي داود أبيـه ويملك على بيت يعقوب إلـى الأبد ولا يكون لـملكه إنقضاء"(لوقا30:1-33). هنـا يؤكد ملاك اللـه انه لا داعي للخوف أوالقلق أو الإضطراب فهذا الأمر هو من الله، ويؤكد لهـا بسبب انهـا قد وجدت نعمة عند الله فلا يوجد اي مكان للخوف أو الإستغراب،ومن ان ما كُتب عنـه فى التوراة والأنبياء وما جاء من رموز وشخصيات وأحداث من قبل عن الـمخلّص الآتـي "ابن العلي" و "العظيم" و"إبن داود" و "الـملك" و "الـملك الذى لا إنقضاء لـملكه"، ها هو سيأتـى الآن عن طريق مريـم. وهنا كان التساؤل:"فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنـا لستُ أعرف رجلاً"(لوقا34:1)، فالـمنطق البشري يقول كيف يحدث هذا؟ وهذا ما أعلنته مريم "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً". فمريم قد تقول فى نفسها (انا ناذرة البتولية..أنا كنت أخطط حاجة أخرى لحياتي..أنا كنت أريد ..وانا كنت أخطط….) انها كلهـا تخطيطات بشرية. انـه ليس تساؤل فيه شك وإرتياب. انـه ليس تساؤل يطلب علامـة كما فعل زكريـا. انـه سؤال للإستنـارة "كيف يكون هذا". وهنا جاءت إجابة السماء على التساؤل المحيّر:"فأجاب الـملاك وقال لها الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تُظللكِ فلذلك أيضاً القدوس الـمولود منكِ يُدعى إبن الله"(لوقا34:1-35). أجاب الـملاك على تساؤل مريم "الروح القدس يحلّ عليكِ" و عرفت مريم ان هذه هي مشيئة الرب، وتذكرت إيـمـان ابراهيم وكيف ترك أرضه وعشيرته وعندما قدّم ابنه ذبيحة حسب إختبار الله لـه. وتذكرت ايضا إيـمـان موسى وقبوله قيادة شعب الله من أرض العبودية الى أرض الـمـوعد. وتذكرت معنى حلول الروح القدس ومجد الرب يحل فى مكان ما.فتذكرت خيمة الإجتماع "غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب الـمـسكن فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع" (خروج 35:40).. أن قوة العلي ستظللهـا (لوقا35:1)، إذن "انه ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يوحنا 23:2).انه أمر سماوي، وإرادة سماويـة. ثم أعطتها السماء علامة: "وهوذا اليصابات نسيبتك هى أيضاً حُبلى بإبن فى شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك الـمدعوة عاقراً لأنـه ليس شيئ غير ممكن لدى الله"(لوقـا 36:1-37). لـم تطلب مريم علامة لتؤمن ولكن أعطاها الـمـلاك العلامة،ان نسيبتها أليصابات العاقر حبلى فى شيخوختها. وهنا كان الإستسلام لمشيئة الله: "فقالت مريـم هوذا أنـا أمـةُ الرب ليكن لي كقولك. فمضى من عندهـا الـملاك"(لوقـا 38:1) - هنا جاءت اللحظة الحاسمة التى تنتظرهـا البشريـة. ماذا ستقول مريـم؟. ان اللـه يحترم تمامـا إرادة الإنسان،و قبول هذا الأمر ليس بالهيّن، لهذا لم يتركها الـملاك حتى يسمع قبولهـا أو رفضهـا للدعوة والخدمـة والخضوع لـمشيئة الله ومن أنهـا ستقبل طائعـة وبكامل إرادتهـا أن تصبح أمـا لقدوس اللـه والـمسيّا التى تنتظره هـى أولاً وباقـى البشر. وقبلت مريـم أن تكون خاضعـة للـه كعبدة بكل كيانها وقلبها وجسدها وفكرها. فى بيت زكريا الكاهن بعد ان مضى الملاك جبرائيل بعد سماعه قبول مريم العذراء، جلست مريم تتأمـل وحدها فى هذا السر العظيم. تُرى ما هذا الذى قاله الـملاك؟ أحقـاً ستُصبح مريم أمـاً للـمسيّا، أمنية كل الشعوب؟ أحقـا سيأتـى الخلاص للبشريـة؟ انهـا لحظـة هامـة فى حياة مريم،إنتظرتها هـى وإنتظرهـا الشعب العبرانـي كلـه. الـمخلّص،الوديع،الـملك،القدوس،شيلون،ورئيس السلام- هـا هو يأتـى وعن طريق من؟عـن طريق مـريـم. أي مشاعر إجتاحت تلك الإبنـة الـمختارة فى هذه اللحظات؟ ولـماذا يا تُرى ذكر لهـا الـملاك أعجوبـة حبل نسيبتهـا اليصابات؟. أهـو لتقويـة إيـمان مريـم فحسب؟، أم إشارة لهـا بضرورة الذهاب الى بيت زكريـا لتقدم نِعـمْ الخلاص؟إمتلأت مريـم بالفرح، فهـا هو مجيئ ملء الزمان،وهـا هى العاقر ستلد، فيلزم الذهاب سريعـاً وتقديـم العون ومشاركتهـا فى الفرح.كانت هذه اولا عادة شرقيـة،وثانيـا واجب تلزمـه أمومتهـا للـمخلّص العجيب،وثالثـا دفعهـا الروح القدس لأن تذهب حتى يتقدس إبن زكريـا بسلامهـا وهو فى بطن أمـه كما تنبأ الـملاك "ومن بطن أمـه يمتلئ من الروح القدس"(لوقا15:1). لقد أجمع علماء الكتاب الـمقدس أن الحبل الإلهـي قد تم فور إعلان مريم قبولهـا "ها آنذا أمـة الرب"، وعليـه فمريـم تحمل الـمسيح فى ذهابهـا الى بيت زكريـا،فكأنهـا أول مبشّرة تنشر بشرى الخلاص وتحمل الـمسيح الى العالـم. "فى تلك الأيام قامت مريم وذهبت مسرعـة إلـى الجبل الى مدينـة يهوذا" (لوقا39:1)،"ودخلت بيت زكريا وسلّمت على اليصابات"(لوقا40:1) ،"فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين فى بطنها وإمتلأت اليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنتِ فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنكِ فمن أين لي هذا ان تأتي أمُّ ربّي إلـيّ فهوذا حين صار صوت سلامك فى أذنيّ ارتكض الجنين بإبتهاج فى بطني فطوبى للتى آمنت ان يتم ما قيل لها من قِبلِ الرب"(لوقا41:1-45). هنا كانت القديسة اليصابات تحت تأثير الروح القدس الذى كان يتكلم بفمها. يوحنا ابتهج بقدوم مريم الحاملة للرب يسوع فإرتكض فى بطن امـه،تماما مثلما رقص داود بكل قوة امام تابوت الله حين دخوله اورشليم. مريم تنشر البشرى،تنشر السلام والفرح وتحمل المسيح للآخريـن.سمعت مريم مديح اليصابات، أي العلامـة السماويـة الجديدة لتؤكد أمومتهـا العجيبة،فها هو سرهـا قد أعلنـه الروح القدس على لسان اليصابات، فماذا يكون جوابهـا؟ملاك يبشر "يا ممتلئـة نعـمة"،وها هو لسان يهتف "مباركة أنتِ فى النساء"، وها هو جنيـن يركض فى إبتهاج،فـما كان من مريـم أن نطقت بكلمات وتسابيح وأناشيد روحيـة عـميقـة. + "تعظّم نفسي الرب،وتبتهج روحي بالله مخلّصي،لأنـه نظر إلـى إتضاع أمتِـه. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطّوبني،لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس،ورحمته الى جيل الأجيال للذين يتقونـه. صنع قوة بذراعـه. شتت الـمستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع الـمتواضعين. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين. عضّد اسرائيل فتاه ليذكر رحمة،كما كلّم اباءنـا لإبراهيم ونسله إلـى الأبد"(لوقا46:1-55). الحياة فى ناصرة الجليل يذكر القديس لوقا فـى إنجيلـه "مكثت مريم عندهـا نحو ثلاثـة أشهر ثم رجعت الى بيتهـا"(لوقا56:1)،وهذا يعنى أن القديسة مريـم مكثت فى بيت زكريـا الكاهن حتى حضرت ميلاد يوحنا الـمعمدان،ثم رجعت الى بيتهـا فى الناصرة. وبدأت تظهر علامات الحبل الإلهـي،وبدأ معهـا حيرتهـا. ان خطيئة الزنـا فى الشريعة اليهوديـة عقوبتها الرجم بالحجارة وعلى مشهد من الناس"يخرجون الفتاة ويرجمها رجال مدينتهـا بالحجارة حتى تموت لأنهـا عملت قباحـة فى اسرائيل بزناهـا فتنزع الشر من وسطك"(تثنية الإشتراع20:22-21).ماذا تفعل مريـم؟. أتبوح بهذا السر الإلهـي؟. انهـا لا تملك فهو سر عَلَوي ولـم يُكشف إلاّ لأليصابات ومن الروح القدس فقط. ولكن مريـم ترى يوسف فـى حيرتـه. ويوسف الذى يقول عنـه الكتاب "البار" ماذا يمكن أن يقول؟. أيشك فى هذه العذراء التى نشأت فى هيكل اورشليم وتغذّت بالترانيم والشعائر وعاشت حياتهـا فى بتوليـة وطهارة؟وقد يتسآل يوسف أيـمكن أن يحدث هذا؟،ومـريـم لـِمـا لا تنطق وتبوح بسر هذا الحبل؟ولكن مريـم العذراء كانت صامتـة، متأملـة، ومتفكرة فـى قلبهـا،وتواظب الصلاة. لقد أكدّ أكثـر علـماء الكتاب الـمقدس أن القديس يوسف لـم يشك لحظة فى طهارة العذراء،فهو يؤمن تماما بفضيلتهـا ولم يفترض أي إفتراض وإمتنع أن يوجـه أي سؤال لهـا، فربـما سؤالـه قد يسبب أي ألـم. ويؤكد هذا الـموقف صدق برارتـه "فهّم أن يخليهـا سراً"(متى19:1)، فهو من حقـه أن يُشهر أمر مريـم وأن يشكوهـا الى شيوخ الـمدينة، ولكنه تنازل عن حقـه حتى لا يقضي عليهـا أدبـياً وجسديـاً. وكان قرار السيدة العذراء هو ايضا الصلاة وترك الأمور للعناية الالهية. ولم يخب أمل مريم ولا يوسف ففى اللحظة التى أوشك فيها يوسف ان ينفذ قراره كقول الكتاب الـمقدس:"هـّم"،"وفيما هو متفكر فى ذلك" ظهر له ملاك الرب فى حلم قائلاً:"يايوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ امرأتك مريم فإن المولود فيها انما هو من الروح القدس وستلد إبناً فتسميه يسوع لأنه هو الذى يخلص شعبه من خطاياهم"(متى 20:1-21). ها هو ملاك الله يحمل البشرى ليوسف، يحمل الحل والخلاص.ان بشارة الملاك هذه تشابه فى عناصرها كل ما سبق وان ذُكر فى الكتاب المقدس عند ظهور ملاك الله ليحمل بشرى بميلاد شخص أوتكليف بمهمة إلهية. ومن تلك العناصر ان يُدعى بالإسم واللقب والدور المطلوب.جاءت أولى الكلمات ليوسف :"يايوسف ابن داود"(متى 20:1) بنفس الأسلوب الذى جاء به ملاك الرب الى جدعون قائلاً:"الرب معك أيها الجبـّار"(قضاة12:6) ليشير الى الدور الذى سيقوم به جدعون فى خطة الله. ثم قال له ملاك الرب: "لاتخف" وهو نفس التعبير الذى جاء كثيرا فى العهد الجديد فمثلا عند البشارة بميلاد يوحنا المعمدان لزكريا الكاهن "فقال له الـملاك لا تخف يا زكريا"(لوقا13:1)، وعند البشارة بميلاد يسوع للعذراء مريم"فقال لها الملاك لا تخافى يامريم"(لوقا30:1).فقول الـملاك ليوسف "لا تخف" لا يعني تخفيف الخوف والقلق والشك، ولكن كان للتأكيد والشرح ليوسف ان هذا الإرتباط بمريم العذراء هو إختيار سماوي كما شرح الملاك روفائيل لطوبيا الإبن عن زواجه من سارة ابنة رعوئيل التى كان قد عقد لها على سبعة ازواج فماتوا(طوبيا15:6-17). وعندما يعلن له الـملاك انه"ابن داود" اي انه من سلالة الـملوك،تلك السلالة الطاهرة التى جاء عنها فى النبؤات انه سيأتى منها شيلو المخلص كما جاء على لسان يعقوب قبل موته:"لايزول صولجان من يهوذا ومشترع من صلبه حتى يأتى شيلو وتطيعه الشعوب"(تكوين10:49)، وها هو قد آتى ملء الزمان. لقد أعطى الله ليوسف كرامة أخرى فلقد أعطاه أن يشترك مع مريم فى التسمية فلقد أمر الـملاك مريم قائلاً:"وتسمينـه يسوع" (لوقا31:1)، وأمر يوسف قائلاً:"فسمّيه يسوع"(متى21:1)، فلا مريم ولا يوسف قد إختارا هذا الإسم بل أعلنتـه السـماء لهـما.وبالفعل بعد ولادة الطفل وبلغ يومه الثامن "دعي اسمه يسوع كما سماه الملاك قبل الحبل به فى بطن امـه"(لوقا31:2) وفى انجيل متى جاء"فسمّاه يسوع"(متى 25:1). فعندما أزال شكه قال له "يايوسف ابن داود لاتخف ان تاخذ امراتك لان الذى حبل بـه فيها هو من الروح القدس فلمّا إستيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته"(متى20:1و24) منفذاً أحكام الله. _رحيل مفاجئ الى بيت لحم " فى تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يُكتتب كل الـمسكونـة وهذا الإكتتاب الأول جرى إذ كانكيرينيوس والي سوريـة. فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد الى قريتـه وصعديوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهوديـة الى مدينة داود التى تدعى بيت لحم لكونـه من بيت داود وعشيرتـه يكتتب مع مريم إمرأتـه الـمخطوبـة وهى حُبلى وبينما هما هناك تـمتّ أيامهـا لتلد فولدت إبنهـا البِكر وقـمّطته وأضجعتـه فى الـمذود إذ لـم يكن لهـما موضع فى الـمنزل"(لوقا1:2-20). لقد أصدر الإمبراطور الروماني الأمر بالإكتتاب ليكون عاماً ويشمل كل الأراضي التى تحت سلطان الإمبراطوريـة وذلك من أجل ترتيب إدارتهـا وتقنين الضرائب. وبهذا تضافرت القوة الرومانيـة واليهوديـة على تتميم الـمقاصد الإلهيـة،فلقد صدر الأمر من السلطة الرومانية وتم الإكتتاب على الطريقة اليهوديـة،وبهذا انتقل يوسف ومريم إلـى بيت لحم "لكونـه من بيت داود وعشيرتـه"(لوقا4:2). ان العقد الرسمي بين يوسف ومريم قد سمح ليوسف بأن يأخذهـا الى بيتـه وأن تنطلق معـه الى حيث شاء فهى إمرأتـه رسميـا وهذا ما أعلنـه الـملاك "لا تخف أن تأخذ أمرأتك"(متى20:1). لقد أدرك يوسف بالروح ومن إعلان الـملاك لـه بأنـه قد أصبح مسئولاً أمام الله والتاريخ عن العذراء وإبنهـا الـمنتظر وهو الـمخلّص ورجاء كل اليهود والعالـم،وكلّفه رسمياً بأن يـمثل نفسه أباً للطفل عندما أمره أن يأخذ العذراء الحامل وهى مخطوبة إمرأة له رسمياً،ذلك بحسب الله،ليتصدى أمام العالـم بأنـه رجل مريم وهكذا تسّجل فى سجلات الدولـة رسميـاً وبأنـه أباً ليسوع أمام العالـم. لهذا أجمع بعض الـمفسريـن ان يوسف حرص أشد الحِرص على أن يولد الـمخلّص فى بيت لحم اليهوديـة حسب النبوات وحسب رجاء كل اليهود،الأمر الذى جعله يسرع لأخذ العذراء وهى حُبلى فى شهرهـا الأخير ليتم ميلاد الطفل فى بيت لحم مهما كلّفه هذا من جهد ومخاطر. يقول التقليد الكنسي على لسان القديس الشهيد يوستين(150م)،إن القديس يوسف ومعه العذراء مريم عندما بلغا بيت لحم لم يكن لهما فيها أحد،إذ كانا قد استوطنا الناصرة منذ زمن بعيد. فإتجها الى الخان (الـمنزل أو النزُل) وهو مكان يشبه اللوكاندة تستقبل الـمسافرين،فلما لم يجدا فى الـمنزل مكاناً إلتجأ الى المغارة الـملحقة والتى كانت مخصصة للدواب وباتا فيهـا وهناك ولدت إبنها البِكر وقـمّطته وأضجعته فى الـمزود.وهنا علينا أن نتأمل فى مشاعر القديسة مريم فى ذلك الوقت وكيف تتضاربت ما بين الإعلان الإلهي بأن المولود منها هو "قدوس" وبين الحال انها تلد إبنها فى مغارة وفى أرض بعيدة عن عشيرتها فأين ترانيم الملائكة؟ وأين هم الكتبة والفريسين وكل من ينتظر المسيّا المنتظر؟.كانت مشاعر تتجاذب ما بين الفرح بميلاد قدوس الله وبأنها أم لمن أعلنت السماء من أنه "ابن العلي"، وبين مشاعر القلق والترقب. لقد أجمع علماء الكنيسة من أن القديسة مريم لم تشك لحظة فى مواعيد الله وأن إيمانها قد كان قوياً. القديسة مريم وخضوعها للشريعة تسمية يسوع والختان والتقدمـة فى الهيـكل تسميـة يسوع:"ولـمّا تـمّت ثـمانيـة أيام ليُختن الصبيّ سُـمّي يسوع كـما سـمّاه الـملاك قبل ان يُحبل بـه فـى البطن"(لوقا21:2). وإسم "يسوع" قد أعلنه الـملاك جبرائيل للعذراء عند البشارة:"ها أنتِ تحبلين وتلدين وتُسمينـه يسوع"(لوقا31:1)، وأيضاً أعطى هذا الإسم أيضاً للقديس يوسف فى حُلم:"وستلد إبنـا فتُسمّيـه يسوع"(متى21:1)،فكان تأكيداً أن لهذا الإسم السماوي معانِ عظيـمة، فلا مريم ولا يوسف قد إختارا هذا الإسم بل أعلنتـه السـماء لهـما. الختـان:" ولـمّا تـمّت ثـمانيـة أيام ليُختن الصبيّ"، والختان هوفى العهد القديم كان بمثابـة أول علامـة خارجية لعهد شخصي بين الله وشعبه وأعلنـه الله لإبراهيم (تكوين9:17-14). وختان الـمسيح فى اليوم الثامن كان خضوعا للوصيـة فهو قد وُلد "تحت الناموس"(غلاطية4:4). وطقس الختان هذا كان بـمثابـة رمز للـمعموديـة التى سينالهـا كل من يؤمن بالسيد لـمسيح فينال الختـان الروحـي الذى هو قوة الروح القدس. الصعود إلـى الهيكل: بعد مرور أربعون يوما على ميلاد يسوع الـمسيح يذكر الكتاب الـمقدس: "ولـمّا تمّت أيام تطهيرهاحسب شريعة موسى صعدوا به الى أورشليم ليقدموه للرب كما هو مكتوب فى ناموس الرب من أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوس للرب ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل فى ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام"(لوقا22:2-24). القديسة مريم كإمرأة مؤمنـة لم ترد أن تتجنب أمور الناموس بل أرادت أن تلتزم بـه، كما قال القديس بولس:"أرسل الله إبنه مولودا من إمرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس"(غلاطية4:4-5). والتطهير فى حالة القديسة مريم كان مجرد إلتزام بالناموس وليس من أجل نجاسة لحقتهـا لأن الـمولود منها هو قدوس القديسين. انهـا تتطهر من منطق إحترامها لقداسة اللـه وفرائضـه. الصعود الى الهيكل كان عملاً تقويـاً مستمراً عبر الأجيال، انه تقديم الإبن البِكر الى الله وتقديم ذبيحة عوضاً عنه حيث قال الناموس:"كل بِكر إنسان من أولادك تفديه ويكون متى سألك إبنك غداً قائلاً ما هذا؟، تقول له بيد قويتة أخرجنا الرب من مصر من بيت العبوديّة وكان لـمّا تقسّى فرعون عن إخراجنا ان الرب قتل كل بِكر فى أرض مصر"(خروج13:13-16). وكان البِكر بنوع خاص يعتبر مخصصاً للـه منذ ليلة نجاة أبكار إسرائيل ليلة خروجهم من أرض مصر، وسط اسرته بعد أن يقدم فديـة للكاهن بدلاً عنـه(عدد16:18). أمـا التطهيـر فكان بـمثابة رتبة دينية فرضتها الشريعة الـموسوية على الأم بعد ولادتهـا بأربعين يوما إذا ولدت صبيـاً وبثمانين يوما إذا ما ولدت إبنـة(لاويين6:12)، وفى هذه الـمدة كان يُحرّم عليها التقرّب من الهيكل ولـمّا تنتهى الأيام الـمحددة تصعد الى الهيكل لتقديم ذبيحة تكفير"ولـمّا تمت ايام تطهيرها حسب شريعة موسى"(لوقا22:2). الإلتزام بكل فروض الشريعة من القديس يوسف والعذراء مريم درساً لنـا بألاّ نخالف الوصايـا أو نحتقرهـا. أحضرت القديسة مريم طفلها يسوع وقدمتـه الى الهيكل كأعمق ما تحمله فريضة تقديم الأبكار من معانـي. القديس يوسف والقديسة مريم كانا فقراء ومساكين ولا يقدران سوى أن يقدما يمامتين بحسب الناموس كحد أدنى لتقدمة أفقر الناس (لاويين7:12)، المهم ليس الإحتفال بتقديم ذبيحة بقدر فرحهم بتقديم إبنهم كاملاً للرب. ان الاحتفال بتقديم الطفل يسوع الى الهيكل كان عمل له شقين: ليقدموه للرب (لوقا22:2)، ويقدموا ذبيحة (لوقا24:2). والآن ألم يكن لهذه الأم أن تقول فى نفسها لماذا يلزم عليّ الإلتزام بالشريعة وأنا أحمل بين يدي رب الشريعة؟. مشاعر قد تتجاذب أي بشر فى مكانها، ومشاعر قد تختلط بالشك والثورة والحزن فأين هو مجد الـمكانة الجديدة؟!. انها تشبه أية إمرأة يهودية عادية جاءت تتلمس بركات الكهنة وتقدم الذبائح، فأين هى مكانتها كأم للمسيّا؟!يا لكِ يا مريم من أم عجيبة مؤمنة قادرة لم تستسلمي للمشاعر والأحساسيس الأرضية الزائلة وكان خضوعكِ للـه أمراً محفوراً ومطبوعاً فى قلبك لأنك أحببتِ الرب من كل قلبكِ ومن كل نفسكِ ومن كل فكركِ"(متى 22: 37، 38) لقاء سمعان الشيخ فى الهيكل تقابلت القديسة مريم مع سمعان الشيخ الذى يذكر الكتاب الـمقدس عنـه:"الروح القدس كان عليه وكان قد أُعلم بوحي من الروح بأنـه لا يرى الـموت قبل أن يعاين الـمسيح الرب فأقبل بالروح الى الهيكل"(لوقا25:2-27).وإقترب سمعان الشيخ وحمل الطفل يسوع بين يديه وإهتز فرحـاً قائلاً:"الآن تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتـا خلاصك الذى أعددتـه أمام جميع الشعوب نوراً تجلّى للأمم ومجداً لشعبِك اسرائيل"(لوقا29:2-32)،وها هو يُعلن عن رسالة الـمسيّا للـمسكونة كلهـا كما تنبأ من قبل اشعيا النبي"فقد جعلتك نوراً للأمملتكون خلاص الى أقصى الأرض"(اشعيا6:49). ولكن إلتفت سمعان الشيخ إلى مريم وتنبأ بالروح عـمّا سيكون فقال:"ها ان هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين فى اسرائيل ولعلامة تقاوم"(لوقا34:2) ،إنها نبؤة عن ان الـمسيّا سيتمم رسالته وسط مقاومة والآلام،فمع وجود الـمسيح ستنكشف كل أفكار القلوب. وتنبـأ ايضاً عن مريـم قائلاً:"وأنتِ أيضاً يجوز فى نفسِكِ سيفُ. لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة"(لوقا35:2). انـه سيف كبير حاد جداً فقد ذُكر بهذا الوصف فى سفر الرؤيا ستة مرّات (رؤيا8:6و17:1و12:2و19:16)وهذا السيف يرمز الى كلمة الله التى تحكم وتكشف أعماق الإنسان. ان هذا السيف سيظهر فى حياة مريم فيما بعد فى مواقف عديدة،فبعد لحظات ستهرب الى مصر وتعيش فى منفى ثم تعود منزويـة فى الناصرة وقبلها تسمع صراخ أطفال بيت لحم ويستمر هذا السيف العميق حتى عند الصليب.كم كانت كبيرة صدمة قلب مريم ، لدى سماعها الكلمات المُحزنة التي تنبأ فيها سمعان الشيخ عن آلام ابنها الحبيب يسوع الموجعة وموته. يا مريم الحبيبة، استمدي لي أسفا حقيقيا على خطاياي.. -صراخ أطفال بيت لحم ذُكرت هذه الحادثة بعد زيارة المجوس لأورشليم والى بيت لحم وعودتهم الى كورتهم "حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جداً. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها، من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس. "حينئذ تم ما قبل بأرميا النبي القائل: "صوت سمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى، لأنهم ليسوا بموجودين."(متى16:2-18). هنا نرى وحشية هيرودس الملك،الذى قتل أولاده وزوجاته وأقربائه وها هو يفعل هذا لنفس السبب من قتل أطفال بيت لحم ألا وهو خوفه وحرصه على عرشه. وهذا يرينا نتائج الحسد والغضب ومحبة العالم،وصار هؤلاء الأطفال أولا شهداء المسيحية. وسمعت القديسة مريم بقتل أطفال بيت لحم وتذكرتهنا الآية التى قالها أرمياء النبي (ارميا15:31) عمن قُتلوا أثناء السبي وعمن ذهبوا سبايا إلى بابل. وتذكرت أيضاً راحيل زوجة يعقوب وهي أم البنيامينيين، والرامة في بنيامين، وقبر راحيل قرب الرامة،وكأن راحيل هنا ترمز لإسرائيل التي تبكي على أولادها ضحايا السبي -الهروب الى مصر وحياة المنفى والغربة تكلّم الـملاك مع يوسف فى حلم ليوجه له أمراً غريبـا أنـه الرحيـل والهروب إلى مصر قائلاً له:"قم وخذ الصبي وأمه وإهرب إلى أرض مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكـه فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وإنصرف إلى مصر"(متى13:2).وكان الرحيـل حسب أمـر الرب. لقد أمر الرب ابرام فى القديم أن يترك أهله وعشيرتـه، وها هو يطلب الآن من مريم ويوسف أن يتركا الأهل والعشيرة الى أرض غريبـة ووثنيـة. لابد من التضحيـة إذن ولا بد من حياة الكمال من فضيلة التجرد ولا بد من حمايـة الطفل. وسار يوسف ومريم الى الطريق الـمؤديـة الى مصر. بعد ذلك وجه الملاك أمراً ليوسف بالعودة قال له:"قم وخذ الصبي وأمـه وإذهب إلى أرض إسرائيل لأنـه مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي فقام وأخذ الصبي وأمـه وجاء الى أرض إسرائيل"(متى20:2-21). ولنتأمل فى مشاعر تلك الأم القديسة وما سمعته من قبل فها قد بدأ فيها حياة الألم عند العذراء حسب نبؤة سمعان الشيخ لها فى الهيكل:"وأنتِ سيجوز سيف فى نفسِك"(لوقا35:2).وبعد قضاء حوالي ثلاث سنوات فى أرض الغربة جاء قول الملاك ليوسف فأطاعت وأكدت ايمانها فالإيمان هو "الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه"(عبرانيين1:11). وتذكرت النبوة القائلة "من مصر دعوت إبني"(هوشع1:11)، وتذكرت أيضاً ان رحلتهم فيها تشابه ما بين 40 يوم عبور ارض سيناء وعبور بنى اسرائيل الى ارض الميعاد فى 40 سنة. تأمّلوا الحزن الشديد الذي شعرت به مريم عندما اضطرت أن تهرب مع القديس يوسف فجاة في الليل لحماية طفلها الحبيب من أمر الذبح الذي أصدره هيرودس. أي كرب هذا الذي عانته، كم هو شديد الحرمان الذي قاسته في هذه الرحلة الطويلة، وأيّة آلام تلك التي تحملتّها في أرض الغربة. فقدان الطفل الإلهي في الهيكل "وكان ابواه يذهبان كل سنة الى اورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا الى اورشليم كعادة العيد.وبعدما اكملوا الايام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في اورشليم ويوسف وامه لم يعلما. واذ ظناه بين الرفقة ذهبا مسيرة يوم وكانا يطلبانه بين الاقرباء والمعارف. ولما لم يجداه رجعا الى اورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة ايام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم.وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه واجوبته. فلما ابصراه اندهشا.وقالت له امه يا بنيّ لماذا فعلت بنا هكذا.هوذا ابوك وانا كنا نطلبك معذبين. فقال لهما لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما انه ينبغي ان اكون فيما لأبي. فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما. ثم نزل معهما وجاء الى الناصرة وكان خاضعا لهما.وكانت امه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها.واما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس"( لوقا2 :41-52). كم كان حزن مريم كأم مفزعا عندما اكتشفت أنّها أضاعت ابنها الحبيب. عادت مريم مع القديس يوسف إلى أورشليم وبحثا عنه طيلة ثلاثة أيام حتّى وجداه في الهيكل. هنا نجد أن يوسف ومريم كانا "معذَّبين"، لا لإِعتقادهما أن الصبي قد فُقد أو مات، فلم يكن ممكنًا لمريم أن تشك هكذا، وهو الذي حُبل به من الروح القدس، وبشَّر به الملاك، وسجد له الرعاة، وحمله سمعان، ولا يمكن أن تنتاب نفس يوسف هذا الفكر، وهو الذي أمره الملاك أن يأخذ الطفل ويهرب به إلى مصر وسمع هذه الكلمات: "لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها من الروح القدس" (متى 1: 20). لا يمكن أن يخَف يوسف على الطفل وهو متيقِّن أنه الله (الكلمة)، إذن فعذاب الأبوين وسؤالهما له مغزى آخر، فلقد بحثا عن يسوع وذُهلا لمجرَّد التفكير أنه ابتعد عنهما، أو تركهما وذهب إلى موضع آخر. أن من يكون مع يسوع قد يفقد صوابه لمجرد إبتعاده ولو لبرهة. فحزن مريم وعذابه لأنها لم ترى يسوع طفلها ثلاث أيام متصلة وكأن الله يعد تلك الأم لتلك الأيام الثلاث التى سيبقى فيها يسوع فى القبر. موت القديس يوسف لقد مات يعقوب بن اسحق بفرح القلب بعدما رأى وجه ابنه يوسف "فقال اسرائيل ليوسف دعنى اموت الآن بعدما رأيت وجهك لأنّك بعد باقِ" (تكوين30:46)، وسمعان الشيخ قد ماتا بعد ان حمل على ذراعيه مخلص العالم"الآن تُطلق عبدك ايها الرب على حسب قولك بسلام.فإن عيني قد ابصرتا خلاصك"(لو29:2). فما كان أشد فرح قلب القديس يوسف فى الساعات الأخيرة من حياتـه فها هو يسوع قدوس الله عن يمينه ومريم عروسه على يساره وهما ينظران اليه ويشكرانه على ما تحمله من شتى الأتعاب والأحزان لأجلهما ففاضت روح يوسف بهدوء بين ايدي يسوع ومريم. وهذا إنعام كبير جعله شفيع الميتة الصالحة فلقد كان موته فى حضور يسوع ومريم وهو موت يرجوه كل مسيحي. اما متى مات القديس يوسف فغير معلوم تماما لكن من المؤكد انه مات قبل ان يبدأ يسوع خدمته العلنية وهو فى سن الثلاثين"ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة"(لوقا33:3). أما مريم فها هى تفقد شريك اختاره الله ليحمل معها مسؤولية العناية بالطفل الإلهي ورسالته. مريم وبدء رسالـة يسوع قبل بدء يسوع حياتـه العلنيـة "كان لـه نحو ثلاثين سنة"(لوقا23:3)، ذهب إلـى الأردن وهناك أعلن الآب السماوي انـه "الإبن الحبيب" وحلّ الروح القدس عليـه على هيئة حمامـة (لوقا22:3)،وبعد هذا قصد يسوع إلـى البريـّة حيث صام أربعين يوما (لوقا1:4-13)،ثم عاد الى الجليل. بعد أعجوبـة عُرس قانـا الجليل والتى فيهـا صنع يسوع أولـى عجائبـه الزمنيـة (يوحنا1:2-11)، يذكر لنـا القديس يوحنا الإنجيلي:"وبعد هذا انحدر الى كفر ناحوم هو وأمـه واخوتـه وتلاميذه ولبثوا هناك أيامـا غير كثيرة"(يوحنا12:2)، ثم بعد هذا ترك يسوع كفر ناحوم وذهب الى أورشليم "وكان فصح اليهود قد قرب فصعد يسوع الى أورشليم"(يوحنا13:2)، ومن الـمرّجح ان مريم العذراء قد رافقت إبنهـا فى هذه الزيارة فهى تعودت ان تذهب الى اورشليم بمناسبة العيد "وكان أبواه يذهبان الى اورشليم كل سنة فى عيد الفصح"(لوقا41:2). وهنا فى أورشليم يظهر يسوع للـمرة الأولـى كـمرسل من الله يتفقد الهيكل وطرد الباعة والصيارفة "لا تجعلوا من بيت أبي بيت تجارة"(يوحنا16:2). وفى فترة العيد "آمن باسمه كثير من الناس لـما رأوا الآيات التى أتـى بهـا". وبعد هذه الأيام غادرت مريم أورشليم وتركت يسوع يتابع جولاتـه التبشيريـة فى مدن اليهوديـة وقراهـا، امـا مريم فمن الـمحتمل انهـا عادت الى الناصرة موطنها الأول وعاشت فيهـا، على الرغم مما ذكره متى الإنجيلي "ولما سمع يسوع ان يوحنا قد ُسلم انصرف الى الجليل وترك الناصرة وجاء فسكن فى كفر ناحوم التى على شاطئ البحر فى تخوم زبولون ونفتالي"(متى12:4-14) ويذكر ايضا فى موضع آخر "فركب السفينة وإجتاز العبـر وأتى الى مدينته فى كفر ناحوم" (متى1:9)، وهذا لا يؤكد إذا ما كانت مريم كانت تعيش مع يسوع فى كفر ناحوم أم انها كانت تقيم فى الناصرة حيث قد تركته لرسالتـه التى جاء من أجلهـا للعالـم. وكانت تلتقى بيسوع فى فترات قصيرة للغايـة فكان اللقاء والإفتراق صعب ومؤلـم على الأم، ولكن كانت القديسة مريم تقبل فى أستسلام لـمشيئة اللـه. وهذه اللقاءات تمت فى أعياد الفصح فى أورشليم (ثلاث أعياد مرّت فى حياة يسوع العلنيـة)، وفى كل مرّة كان يـمر يسوع فى الناصرة أو بجوارهـا، وعندما ذهبت مع الأقرباء محاولـة منعهم "فخرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا انه شارد العقل"(مرقس21:3).وبدأت أخبار يسوع وأخبار العجائب تتناقل وتعاليـمه تنتشر "وسار بعد ذلك فى كل مدينة وقريـة ينادي ويبشر بـملكوت الله ومعه الإثناعشر(لوقا1:8). فكان يسوع يعلّم "كـمن لـه سلطان وليس كالكتبة والفريسيين"(متى28:7)، وكانت الجموع فى بلدته تتعجب قائلة:"من أين له هذه الحكمة والقوات. أليس هذا إبن النجّار"(متى54:13). كانت تعاليـم يسوع تعاليـم بسيطة فى كلمات بسيطة لهذا نفذت الى القلوب.ووصل يسوع فى جولاتـه التبشيرية الى الناصرة حيث موطنه الذى عاش فيـه وعـمل،والقديسة مريم كانت مقيمة فيهـا و"أتى الناصرة حيث نشأ" (لوقا16:4-30)، وفى مجمع الناصرة أعلن يسوع صراحـة أنـه الـمسيح الـمنتظر بعد أن قرأ نص اشعيا النبي الذى يتنبأ عن الـمسيّا،فقال لهـم: "اليوم تـم هذا الـمكتوب فى مسامعكم". ولكن كان هجوم أهل الناصرة عليـه شديد :"أليس هذا إبن يوسف" و "اصنع ههنا كل شيئ سمعنا انه جرى فى كفر ناحوم"، وتعجّب يسوع من عدم إيمانهم حتى ان الكتاب الـمقدس يذكر "غير انه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم"(مرقس5:6)وإمتلأ أهل الناصرة من الغضب "فقاموا وأخرجوه خارج الـمدينة وإقتادوه إلى قمة الجبل الذى كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه عنهـا"(لوقا28:4). وذكر هذه الواقعة بهذه التفاصيل من القديس لوقا الإنجيلي يؤكد مرة أخرى أن مريم العذراء كانت حاضرة فى مجمع الناصرة ورأت ما حدث وذكرتهـا كأحد شهود العيـان. ويـا للأم الـمسكينة فقد شهدت كل هذا وبكت من قلة الإيمان ومن غلاظة القلوب وعلى شعب لا يبغى الخلاص والتوبـة، وعلى إخوة يريدون التخلص من أخوهم وها هو سيف آخر ينغمس فى قلب الأم. وتـمر الأيام وقبل عيد الفصح فى السنة الثالثة لخدمة يسوع العلنيـة، سمعت العذراء مريـم عن إقامـة لعازر من بين الأموات وهياج رؤساء الهيكل ضده حتى أن يسوع أقام بالقرب من أورشليم. وقبل الفصح أيضاً أتى يسوع الى بيت عنيـا وأخبر تلاميذه بـما سيحدث لـه حتى يجنبهم ضعف الإيمان. وفى أحد الشعانين أراد يسوع زيارة أورشليم وإنتشر خبر مجيئه فإهتزت الـمدينة كلهـا وصرخت الجماهير "هوشعنا إبن داود" و"مبارك الآتـى بإسم الرب"، وربـما قد شهدت مريم العذراء هذا الإستقبال الرهيب لإبنهـا فهى كعادتهـا تذهب للعيد كل عام. وأمضت مريم الأيام الأخيرة مع يسوع وحضرت العشاء الأخيـر فى العليّة ورأت الإسخريوطي خارجـاً ليلاً ليتتم ما قد إتفق عليـه مع رؤساء الهيكل. صراخ فى بستان الزيتون تروي لنا الأناجيل أنّ يسوع خرج من علّيّة صهيون ليلة الخميس المقدس بعد العشاء الأخير ومضى إلى جبل الزيتون حيث كان يعتاد الذهاب إلى ضَيْعَة تدعى جَثْسَيْمَانِي (متى 26: 36; مرقس 14: 32). ولما بلغ هناك ترك تلاميذه في مغارة (متى 26: 38) وقال لهم: " أمكثوا ههنا ريثما أمضي وأصلّي هناك" (لو 22: 41 ) واصطحب معه بطرس ويعقوب ويوحنا وتنحى جانبا في البستان وقال لهم: " أمكثوا هنا واسهروا معي". ثمّ ابتعد عنهم مقدار رمية حجر أي حوالي 30 مترا وبقي هناك يصلّي وحيدا ويتأمل سرّ عذاباته. ولما حانت الساعة عاد إلى تلاميذه لأن يهوذا الاسخريوطي أوشك على الوصول. بالتأكيد ان مريم الأم أحست بالألم الذى عاناه ابنها الحبيب عند جبل الزيتون عندما توسل لأبيه السماوي ان يعبر عنه، إن شاء، كأس الآلام القادمة. وأحست بتوسلات إبنها وصلاته ثلاثة مرات فى البستان والتى فيها إكتئب وحزن حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض وحتى اللحظات الأخيرة من آلامه وموته. وانغرس فى نفسها الحزن والمرارة عندما سمعت ان وليدها صرخ بلسانه: "نفسي حزينة حتى الموت". وشعرت بكل الخوف ، والحزن والألم الذي عاناه ابنها قبل العذاب على الصليب، من خيانة يهوذا الأسخريوطي، ذاك التلميذ الذى خصّه بأمانة الصندوق. وعندما أُلقي القبض عليه من قبل أناس جاءوا بمصابيح ومشاعل وأسلحة وسقطوا أرضاً عندما أجابهم "أنا هو". وتـم القبض على يسوع فى بستان الزيتون ليلة الخميس وحوكم وأديـن ووقف شهود زور ضده وفى فجر الجمعة يأخذونـه الى بيلاطس ثم هيرودس ثم بيلاطس مرة أخرى ويُسلّم يسوع للـموت ويُطلق باراباس. وأقتيد يسوع الى الصلب وسار فى أروقة أورشليم، هذه الأروقـة التى شهدت تعاليمه وعجائبه وشهدت أيضاً هتاف الشعب "أنت ملك اسرائيل". فى طريق الجلجثـة تعالوا أيّها الخاطئون، تعالوا وأنظروا إن كان يمكنكم تحمّل مشهد محزن كهذا. هذه الأم الرقيقة والمُحبة تلتقي ابنها الحبيب وسط أولئك الذين يجرّونه إلى ميتة قاسية. تأملوا أيّها الأحباء الحزن الكبير عندما التقت أعينهما، حزن الأم القديسة وهي تنظر إلى ابنها. في طريقِ الجلجثة سار السيّد والجنودُ تسعى كي تُخلي الطريق، إذ تزاحمَ الجميع ليَرَوْ كيف يُكافئُ من صنع المعجزات. كان ينزِفُ الحبيب بعد أن ضُرب بسياطٍ وبتاجِ الشوكِ ملّكوه وبصُراخ الهازئين وبحكم موت العارِ لكي يكرّموه. في طريقِ الجلجثة، سارَ الحبيب، سارَ طوعاً وأختياراً للصليب مثلَ شاةٍ ساقوه للذبحِ وكانت مريم واقفة بين الجموع وبقربها يوحنا وبعض النسوة.بالأمس لم يغمض لها جفن، إذ كان ابنها يسوع في أيدي أعدائه. ها هو بيلاطس يقف فيغسل يديه من دم ابنها ويعلن تنازلاً لرغبة الجماهير المطالبة بقتله "ليصلب" وعندما رنَّ في أذنيها قرار الحكم جاز في قلبها سيف الحزن عميقاً، ورفعت عينيها إلى السماء، واستسلمت لمشيئة الآب السماوي دون أيّ تذمرّ، وصلّت لتوبة أعداء ابنها.ورأت صليباً كبيراً يوضع على كتف ابنها، والجنود ينهالون عليه بالضرب واللكم، ويا لهول وقع هذا الحمل الثقيل على قلب الأم! وكأني بها تصرخ: لماذا كلّ هذا! لماذا الصليب على كتفك الناعم يا حبيبي! يا ليتني أحمله مكانك، فأنا فداك... ولكنّها تيقّنت بأنه سيعانق صليبه راضياً هادئًا وكأنه يعانق العالم بكلّ خطاياه. لقد بدأت المسيرة الصاعدة إلى القمّة، قمّة الجلجلة، إنها لا تتوانى من الصعود معه، وكأنها تحمل الصليب معه. هيّا يا إخوتي، نصعد نحن أيضاً معها وبرفقتها.لم يَغب يسوع عن نظرها لحظة، فهي تحمل معه الصليب، ومعه تسير على طريق الاستشهاد والفداء، ومعه تتلقّى الضرب واللطم، وتسمع صراخ الجماهير الهائجة، وها هو يسوع يسقط تحت الصليب الثقيل، وتحاول من بين الجموع أن تصل إلى ابنها لعلّها تساعده وتشدّده وتعانق معه مشيئة الآب السماوي.وتمكّنت مريم اختراق الجماهير واستطاعت أن تقف أمام ابنها. مسحت دموعها لأن إيمانها أقوى من حزنها، ولأن استسلامها لمشيئة الآب هي كاستسلامه هو. نظرت إليه كما نظر إليها، وفهمت أن ضرورة مشاركتها له في آلامه وصليبه هو في مخطّط الله. فشجّعها كما شجّعته، وابتسما معاً لسرّ الفداء الذي سيتمّ بعد ساعات قلائل، فتتصالح البشريّة بموت ابنها مع الخالق وتحرّر الأرواح المسجونة في مقرّ الموتى وتنطلق إلى السماء التي ستُفتح لهم من جديد بعد لحظات.الجموع تتدفّق من كلّ صوب وناحية، والطريق تصعد رويداً رويداً إلى الجبلوالصليب يزداد ثقلاً كلّما زاد تعب يسوع المنهوك القوّى. مريم تصلّي، مريم تستصرخ الآب السماوي، مريم تتحدّث في قلبها مع ابنها وربّها. ها قد اقتربتَ يا بنيّ من الجبل، تمالك نفسك، ها هي البشريّة من أول الخليقة حتّى القيامة تنتظر تحقيق الفداء، فتشدّد يا بنيّ. نعم إنهض من جديد وتابع الدرب، فالمسيرة شاقّة ولكن الثمرة شيّقة وشهيّة.بدأت نهاية حياة ابنها منذ أن خانه يهوذا وأنكره بطرس وهرب التلاميذ.قواه تخور، فقد أصبحت واهية، ولكنه لم ينبس ببنت شفة. انظروا إليه تحت الصليب، لا يصرخ ولا يتأوّه ولا يتذمّر وهو البريء، بل البراءة بالذات. هل يمكن أن ترى ابنها يقبل أشنع الآلام وترفض هى أن تتحمّل أقلّ الصعاب؟! لقد قالتها من قبل: "ليكن لي بحسب قولك" واستسلمت دوماً لمشيئة الله .يا للصوت القاسي، صوت المطرقة، وهى تدخّل المسامير في يدي ابنها على الصليب، ويا لعظمته في صمته وهو يلتصقُ بهذا الصليب الذي من أجله جاء وتجسّد. ها انها تخشعُ مع الملائكة وترفع نظرها إلى الأب السماوي وتتَّحدُ بكلّ قواها بآلامه المبرحة.أيتها الجراحات المقدسة، فأنت مزمعة أن تبقي مفتوحة في جسم الإبن الحبيب لكي تكوني ملجأً منيعاً لجميع أولئك الذين يبادرون نحوك محتمين فيك. لأنه كم وكم من البشر هم عتيدون أن يقبلوا بواسطتك غفران خطاياهم، وبك تلتهب قلوبهم بمحبة الخير الأعظم.أيتها الأشواك القاسية والمسامير والحربة الجارحة المؤلمة، كيف أمكنكِ أن تعذِّبي بهذا المقدار خالقك؟ فهوذا يسوع قد مات ليخلصك أيها العالم، فليس هو زمنك بعد الآن زمن الخوف والفزع، بل زمن الحب والمحبوب. زمن الانعطاف بالحب الحقيقي، نحو من أظهر لك حقائق حبه إياك باحتماله حباً بك هذا المقدار من الآلام الشديدة. -عند الصليب" وكانت واقفة عند صليب يسوع مريم أمه ". ( يوحنا 19: 25 ) مريم الأم شاهدت تهتك جسد إبنها الذى بلا خطيئة نتيجة جروحات السياط والجلد وهو مربوط وعندما عرّي من ثيابه وتهكموا عليه جلاّديه. مريم الأم عاينت وشاهدت السخرية والإستهزاء والبصق والمعايرة والتهم الباطلة وشهادات الزور والحكم الظالم بموت إبنها والذى تحمله بكل صبر وإستسلام. مريم الأم رأت تلك الدموع التى سالت من عينيي إبنها والدم الذى اريق،وهو صامت وحزن قلبه العميق. مريم الأم رأت هذا الدم الذى سال من رأس إبنها الأقدس الملكي عندما انغرس فيه اكليل الشوك. مريم الأم أحسّت بالعذاب الأليم الذى عاناه إبنها عندما دًُقت المسامير فى يديه وقدميه وعُلّق على خشبة الصليب. مريم الأم أحسّت بعطش إبنها الذى لا يُحتمل ومذاق شربة الخل الممزوج بمرارة. مريم الأم سمعت صرخة وليدها على الصليب "الهى الهى لِم تركتنى". مريم الأم عاينت رحمة أبنها التى امتدت الى اللص اليمين. مريم الأم عاينت تسليم إبنها للروح الى الأب الأزلي بعد ان قال"قد أُكمل". مريم الأم رأت الدم الممزوج بالماء الذى انسكب من جنب وليدها الأقدس مريم الأم طُعنت فى قلبها عندما طُعن بالحربـة وليدها فسال فيضان النعمة والرحمة نحونـا. مريم الأم تأملت حياة إبنها الطاهرة ورحمته الحانية وموته المشين على الصليب حتى ان الطبيعة نفسها حزنت فتشققت الصخور وانشق حجاب الهيكل وتزلزلت الأرض وصارت ظلمة للقمر والشمس. ان مريم هى حقاً أم الأحزان. أنه مشهد مهيب، يسوع معلق على خشبة العار، غارق في بحر النزاع الأليم، عيناه غائصتان، شفتاه مزرقتان، وجهه مكفهر، رأسه مهدول، شعره منكوث، ركبتاه متصلبتان، جسده كله صائر جرحاً واحداً من الرأس حتى الأقدام. وهناك على مقربة من صليبه أمه مريم، وعلامات الحزن والغم لائحة على محياها، ضروب الشجون والكروب قد انقضت على فؤادها، وقد كتب لها أن تحضر موت وحيدها، وتراه يفارق الروح على أيدي جلادين شرسين قساة. إن مريم على مثال يسوع قد ذاقت علقم الاستشهاد، فالابن يضحى جسده بالموت، والأم تضحى ذاتها لمساهمة آلامه. ولأجل هذا فمريم لم تشعر فقط جسدياً كل ما تكبده يسوع في جسده، بل أن رؤيتها عذاباته قد ألمت قلبها بنوع أبلغ مما لو كانت احتملتها هي عينها، وذلك لأنها كانت تحب يسوع أكثر من نفسها، وحياة يسوع كانت أعز لديها من حياتها ذاتها. وأن نوعين من المحبة قد تقارنا وتألفا في قلب مريم نظراً إلى يسوع، وهما محبة طبيعية ومحبة فائقة الطبيعة. فبالأولى أحبته كابنها، وبالثانية أحبته كإلهها. ومن تآلف وتمازج هاتين المحبتين نجم حب واحد هذا، عظم مقداره حتى أن مريم قد أحبت يسوع غاية ما في وسع خليقة من الخلائق أن تحب. وهذه الدرجة من المحبة الفائقة الوصف لم تحزها إلا بامتياز علوي، إذ أن الآب الأزلي لما أراد أن يشركها في الزمان في الأداة الأزلي للكلمة، قد ألقى في قلبها شرارة من حبه غير المتناهي لأبنه الوحيد. ويؤكد القديس أوغسطينوس أن عذاب البنين هو نفس عذاب الأمهات، لا سيما إذا كن حاضرات لتلك العذابات. إذ لاحظ الألم الذي أصاب شموني أم المكابيين السبعة عند حضورها استشهاد بنيها فقال:" إن هذه الأم المسكينة قد قاست بمجرد نظرها عذاب كل واحد منهم". فعلى هذا النحو قد تم في مريم، إذ أن كل العذابات التي ألمت جسد يسوع قد أثرت في جسد مريم، وولجت في الوقت عينه قلبها لإتمام استشهادها بنوع أن قلب مريم أضحى كمرآة لآلام الابن. فكان يشاهد فيه المجالد والمطارق وأشوك والحبال والمسامير والصليب وباقي آلات العذاب. " ألا يا أماه بحق حنوك الوالدي أخبرينا وقولي لنا أين كنت في ذاك الحين. أهل كنت قائمة عند الصليب؟ آه كلا ثم كلا بل لنقل بالأحرى أنك كنت مسمرة فوق الصليب مع ابنك الحبيب. وبناء عليه يجدر بنا القول أن كل من كان حاضراً في الجلجلة، لمشاهدة تلك الذبيحة العظمى المقرب فيها الحمل البريء من كل عيب، لكان يرى مذبحين عظيمين: أحدهما في جسد يسوع. وثانيهما في حب مريم. ألا يا ملكتي الحنونة لماذا أراكِ مقبلة إلى الجلجلة. ألم يكن يا ترى واجباً أن يصدك عن ذلك الخزي والعار العائدان عليك، لكونك أم هذا المحصى بين الأثمة. أو لم يكن أقله لائقاً أن تمنعك عن ذلك فظاعة هذا الأثم الجسيم، وهو موت إله على أيدي خلائقه. كلا يا أم الأحزان هذا كله كان عاجزاً عن منعك للذهاب إلى الجلجلة، ليس فقط لتندبي موته، بل لتؤازريه وتشاطريه في تقدمه ذبيحة للعدل الإلهي " . وبحضور مريم آلام يسوع ومكوثها عند صليبه، قد شاءت بذلك أن تعلن جهراً أنها ليس فقط قد شعرت بمفاعيل الحزن والألم، بل هي عينها قد صادقت على صيرورة يسوع ضحية لخطايانا. فأتت خاضعة لتقربه بيدها للآب الأزلي، ولم تعرف وتصادق على آلام ابنها في ذلك الحين فقط، بل إن ذلك كان نصب عينها منذ اليوم الذي أجابت الملاك قائلة: " أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك ". وبنوع أجلى منذ يوم سماعها من فم سمعان الشيخ تلك العبارة الخارقة الألباب: " ها إنه جعل لسقوط كثير من الناس، وقيام كثير منهم في إسرائيل، وآية معرضة للرفض. وأنتِ سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة ". ومن هذا القول نجد مريم قد أصبحت ملكة الأوجاع، وشبيهة بابنها في كل الظروف والأحوال. فرافقتها الشجون والكروب في كل خطوة من خطواتها. فقد علمت أن ابنها مزمع أن يموت فداء عن البشر. وقد علمت أنه سيضطهد في تعاليمه، إذ ينكر لاهوته ويُعتبر كمجدف. يُضطهد في شرفه وحكمته، إذ يحسب كأحقر الناس وأجهلهم كمجنون ومعترى من الشيطان. كسكير ومعاشر الخطأة والعشارين. يُضطهد في نفسه إذ أن أباه الأزلي لإنجاز قضاء عدله يرفض طلبته في بستان الزيتون، ويهمله للخوف والحزن. أخيراً يضطهد في جسده وحياته إذ يُعذب في كافة أعضائه المقدسة، في يديه ورجليه في وجهه ورأسه وبدنه كله، بنوع أنه يسلم الروح بين لصين على خشبة الصليب، صائراً جرحاً واحداً، ومشبعاً عاراً وهواناً. هذا ما كانت تشعر به مريم في كل ساعة ودقيقة، هذا ما كان يخرق قلبها ويمزق أحشاءها في عيشها بصحبة يسوع موضوع فرحها وحزنها، وموضوع سعادتها وعذابها. وكما أن ابن الله كان هادئاً ساكناً في حال نزاعه على الصليب، لاشتغاله في أعظم الأعمال أي فدائنا. فقد منح هذه الحالة لوالدته لكونها اشتركت معه في ذبيحته. ولذا نراها رافعة لواء النصرة على الأحزان والكروب، واقفة عند الصليب ثابتة الجنان حاصلة على ملء السكينة والهدوء، مبينة بذلك أنها بحرية وطيبة خاطر تقرب ابنها الوحيد للآب الأزلي، ليصبح ضحية انتقامه من الخطيئة وعدله. لقد اشتركت مريم مع ابنها في خلاصنا باحتمالها آلاماً روحية، وذلك بخضوعها وتسليمها إرادتها بين يدي المشيئة الإلهية، التي شاءت وحتمت أن يحل بها كل ما حل بيسوع. لقد صعدت إلى الجلجلة لتقف قرب الصليب، ليس للبكاء والحزن على موت وحيدها فقط، بل لتعلن للآب الأزلي وللبشر أنها تقدم ابنها الحبيب كفارة عن مآثم البشر، ووفاء للعدل الإلهي المهان.وما تحملته من عذابات حسية وروحية قد عقد على هامتها إكليل مشاركة يسوع في عمل الفداء البشري. لذا حق للبتول أن تتوجه نحونا مشتكية قائلة: " ألا يا أولاد آدم الأشقياء يا قساة الرقاب. ما بالكم ترتكبون الأثم كشربكم الماء. ما بالكم تصلبون ابني وتضفرون هامه الإلهي بالأشواك وتجدون بذلك ما قاسيت من الأوجاع المرة. ما بالكم تدوسون بأرجلكم تحت أنظاري دم العهد الجديد. ألا يا أولادي الذين يخطئون ناشدتكم بحق محبتي وتنهداتي أنا أمكم، بحق أوجاعي وأحزاني ألا كفوا كفوا عن تعذيبي، كفوا ولا تعودوا تلتطخوا بحمأة الأثم والخطأ. آه يا معشر المفتدين بدم الحمل المجزوز لنسمع صوت مريم العذراء الحزينة الواقفة عند الصليب، ولنصغِ إلى تنهداتها، وليحن قلبنا إلى صرخاتها الأليمة، ولنقصد من صميم القلب أن نقلع عن الخطيئة، وأن نقلع عنها باستنجاد حماها القدير . والآن علينا أن ننظرإلى التضحيتين على الجلجلة، الأولى جسد يسوع، والثانية قلب مريم، حزين مشهد هذه الأم الحبيبة وهي ترى ابنها الحبيب مصلوبا بقسوة على خشبة الصليب. وقفت عند أقدام الصليب وسمعت ابنها يعد اللص بالسماء ويغفر لأعدائه.آخر كلماته كانت مركّزة على أمه وموجّهة إلينا، هذه أمّك (أمكّم). فلنقرر دائما أن ننظر إلى مريم كونها أمّنا ونتذكر أنّها لا تخذل أبناءها أبدا.وتأمّلوا الحزن المرير الذي ملأ قلب مريم عندما أُنزل جسد حبيبها يسوع عن الصليب ووُضع بين ذراعيها. أيّتها الأم الحزينة، إنّ قلوبنا لتلين عند رؤية هذا الأسى.أكثر الأيام مأساويّة في التاريخ ينتهي ، ولم يبقَ للأم سوى مرافقة جسد ابنها إلى القبر. أيّ حزن كان حزنها وهي ترى وللمرة الأخيرة جسد ابنها الميت فيما يُدحرج الحجر الكبير ليُغلق مدخل القبر. ومريـم الأم ترى كل هذا، ترى وليدهـا "رجل أوجاع متمرساً بالعاهات محتقر ومرذول..."(اشعيا53)، وتراه يسقط تحت الصليب، وترى نسوة أورشليم يبكين،وترى سمعان القيراونـي، وترى الـمسامير تُدق ويُعلّق حبيبهـا على الصليب،وتسمع كلماتـه السبع الأخيرة،وما يطلبـه منهـا أن تكون أمـاً للحبيب وللجنس البشري كلـه "هوذا إبنكِ"(يوحنا26:19) وبقيت معـه حتى "نكّس رأسـه وأسلم الروح"(يوحنا30:19)، ثم رافقت يوسف الرامي عندما وُضع يسوع فـى القبـر. دموع الفرح فى حياة السيدة العذراء : ربما نجد فى حياة السيدة العذراء أوقات فيها دموع فرح .. وذلك فى بعض المناسبات مثل : 1 – يوم ميلاد الطفل يسوع : مثل أى أم تفرح بوليدها .. 2 – فرحة العذراء أثناء خدمتها الروحية : مثل خدمتها فى عرس قانا الجليل .. 3 – دموع فرحة قيام إبنها وربها من بين الأموات ....دموع فرح القيامـة عاشت العذراء حياة كلها دموع .. دموع الألم والتجارب ... والآن نرى دموع الفرح فى عينيها .. بقيامة الفادى من الأموات .....يسوع : ثقوا قد غلبت العالم وغلبت الموت. نعم يا أمي، أنا قد غلبت الموت وقد قمت... قمت منتصراً على الموت... مثبتاً للجميع أني الإله القادر على كل شيء... إفرحوا فسلطان الموت لن يقوى عليكم. يا أحبائي أنا القيامة والحياة، من أمن بي وأن مات فسيحيا، وكل من يحيا ويؤمن بي لن يموت للأبد. أتومنون بذلك؟ إنتقـال العذراء مـريـم للسماء صعود جسد القديسة مريم العذراء (16 مسرى) في مثل هذا اليوم كان صعود جسد سيدتنا الطاهرة مريم والدة الإله فأنها بينما كانت ملازمة الصلاة في القبر المقدس ومنتظرة ذلك الوقت السعيد الذي فيه تنطلق من رباطات الجسد أعلمها الروح القدس بانتقالها سريعا من هذا العالم الزائل ولما دنا الوقت حضر التلاميذ وعذارى جبل الزيتون وكانت السيدة مضطجعة علي سريرها. وإذا بالسيد المسيح قد حضر إليها وحوله ألوف ألوف من الملائكة. فعزاها وأعلمها بسعادتها الدائمة المعدة لها فسرت بذلك ومدت يدها وباركت التلاميذ والعذارى ثم أسلمت روحها الطاهرة بيد ابنها وألهها يسوع المسيح فأصعدها إلى المساكن العلوية آما الجسد الطاهر فكفنوه وحملوه إلى الجسمانية وفيما هم ذاهبون به خرج بعض اليهود في وجه التلاميذ لمنع دفنه وأمسك أحدهم بالتابوت فانفصلت يداه من جسمه وبقيتا معلقتين حتى آمن وندم علي سوء فعله وبصلوات التلاميذ القديسين عادت يداه إلى جسمه كما كانتا. ولم يكن توما الرسول حاضرا وقت نياحتها، واتفق حضوره عند دفنها فرأي جسدها الطاهر مع الملائكة صاعدين به فقال له أحدهم: "أسرع وقبل جسد الطاهرة القديسة مريم " فأسرع وقبله. وعند حضوره إلى التلاميذ أعلموه بنياحتها فقال: "أنا لا أصدق حتى أعاين جسدها فأنتم تعرفون كيف أني شككت في قيامة السيد المسيح". فمضوا معه إلى القبر وكشفوا عن الجسد فلم يجدوه فدهش الكل وتعجبوا فعرفهم توما الرسول كيف أنه شاهد الجسد الطاهر مع الملائكة صاعدين به.وقال لهم الروح القدس: "أن الرب لم يشأ أن يبقي جسدها في الأرض " وكان الرب قد وعد رسله الأطهار أن يريها لهم في الجسد مرة أخري فكانوا منتظرين إتمام ذلك الوعد الصادق حتى اليوم السادس عشر من شهر مسرى حيث تم الوعد لهم برؤيتها وهي جالسة عن يمين ابنها وإلهها وحولها طغمات الملائكة وتمت بذلك نبوة داود القائلة: "قامت الملكة عن يمين الملك " وكانت سنو حياتها علي الأرض ستين سنة. جازت منها اثنتي عشرة سنة في الهيكل وثلاثين سنة في بيت القديس يوسف البار. وأربع عشرة سنة عند القديس يوحنا الإنجيلي، كوصية الرب القائل له: "هذا ابنك " وليوحنا: "هذه أمك".شفاعتها تكون معنا. آمين. حزن الأم ما بعد الإنتقال مــريم الأم لا تـتحمل أن ترى أبناؤها فى خطر دون أن تسرع لحمايتهم وأنقاذهم .لم تترك مريم ابناءها لحظة واحدة،فبصلواتها وشفاعتها الدائمة أمام عرش إبنها الإلهي تحمي الأبناء وترعاهم.ولكن فى بعض الحالات تجد مريم نفسها مـجبـرة ومضطرة كأم الى التدخل الـمباشر فى عالـمنا وحياتنا، فتظهر لنا نفسها لتحمل رسالة تحذير لخطر لا نراه بعد.مئات الظهورات تعددت تحمل معان كثيرة .. سواء تقوية إيمان المؤمنين ..أو معجزات لأشخاص تشفعوا بها .. أو تحذيرات من ضيقات وأضطرابات .........الخ ولكن فى مجملها تقول لنا أن رب المجد يسوع موجود وسط شعبه .. وعلى الناس تنفيذ وصاياه .. وأن نعمل من أجل التوبة .. والرجوع عن الخطية .. بركة وشفاعة وصلوات أمنا العذراء الحنونة تكون معنا آمين