يشوع المجهز من الله للعمل بعد موسى
كان اسمه في الأصل "هوشع" أو "خلاص" ودعاه موسى "يشوع" أو "خلاص الله" ولد في مصر عبداً في بيت العبودية، ومن نسل يوسف، وسبط إفرايم، وهو الحادي عشر من سلسلة أحفاد يوسف، وكان أبوه "نون" وجده "أليشمع" الذي كان رئيساً لبني إفرايم عند الخروج،.. ومن المؤكد أنه كان فوق العشرين، وربما في الثلاثين من عمره، عندما ترك مصر، إذ كان كما يصفه الكتاب غلام موسى الذي يحرس الخيمة، عندما يتركها الرجل العظيم، وكان هو وزميله كالب بن يفنة اللذين نجوا من الموت، من كل الجيل الذي فوق العشرين الذي سقط في البرية لتمرده وعصيانه على الله!!.. وعلى أي حال لقد جهز الله يشوع في بطن الزمن ليكون الرجل التالي بعد موسى، وكان تجهيز الله له عميقاً وبعيداً، من مطلع الحياة، وربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن عناصر هذا التجهيز بدأت أولاً بالمرارة النفسية العميقة، إذ ولد الصغير وشب ليدرك أنه عبد في مصر، تحكمه كل قواعد العبودية القاسية، وكان وهو يتدرج نحو الشباب، تثور نفسه بثورة عارمة هائلة، وهو يرى السخرية والقسوة ومذلة الشعب، ولا أعلم ماذا أصابه هو شخصياً من هذه كلها، إنما أعلم أن الآلام دائماً تعد النفوس النبيلة لمستقبلها العظيم،.. عندما أبصر ابراهام لنكولن فتاة تباع في سوق النخاسة، وتعرض أمام الناس كما تعرض السائمة، يتزايد عليها المشترون، رأى الإنسانية تباع وتشترى في هذه الفتاة، فآلى على نفسه، أنه إذ واتته الفرصة لابد أن يحرر بلاده من هذه الوصمة، ويضع أكثر من ذلك مسماراً كبيراً في نعش الاستعباد، وقد تم له ما أراد، وإن كان قد دفع حياته ثمناً لهذه الحرية الغالية!!.. فإذا كان الاستعباد هو الذي حرك موسى ليكون محرراً للأمة،.. فإنه كان النخاس القاسي في صدر يشوع حتى لا يقع الشعب مرة أخرى فريسة الذل والألم والتعاسة والشقاء،.. كان رائداً من رواد الحرية، دخل الحرب بأمر الله، وكان مثل "غريبلدي" الذي تستهويه المعارك لا في إيطاليا وحدها، بل في كل مكان يرى فيه الاستعباد جاثماً على صدر الناس،.. لكن المرارة وحدها، لم تجهزه، بل لعله أدرك أنه ينتمي إلى جد عظيم تشرب الكثير من روحه وسيرته، وعندما مات هذا الجد في مصر دفن في تابوت وحنط هناك، وحمل التابوت بكل إجلال وإكرام يوم الخروج من مصر، وحمله سبط إفرايم الرحلة كلها، ولعل الشاب يشوع كان يأتي بين الحين والإخر، ليرى التابوت، والرجل المسجى فيه، والتاريخ العظيم لهذا الجد القديم، التاريخ الحافل بأروع السير وأمجد الذكريات، ولعل يشوع وقف مرات متعددة، وهو يعاود معنى الحياة وقصتها، ومغزاها، في هدوء الصحراء وعزلتها، وفي أعماق الليل، حيث تلمع فوقه النجوم وتضيء، ويتذكر يوسف في إيمانه وحياته ووداعته ورسالته، وهو يأمل أن يكون بصورة ما امتداد لهذه القصة العظيمة، وبالأسلوب الذي يريده الله أن يكون،.. في الحقيقة إنه شيء مجيد أن يعود الإنسان في رحلة الحياة إلى ذكريات أبائه وأجداده، والتاريخ البعيد القديم إن كان من حظه أن يكون له مثل هذا التاريخ، ليقول مع بولس: "الله الذي أعبده من أجدادي". ولعله من حظ كل إنسان سعيد أن يسير على الدرب الطويل لآبائه وأجداده، فمن أعطاهم الله مثل هؤلاء الآباء والأجداد، كالركابيين الذين رفعوا رؤوسهم أمام إرميا النبي، قائلين بكل نشوة وفخر: "فسمعنا لصوت يوناداب بن ركاب أبينا في كل ما أوصانا به".. كانت عظام يوسف تتحدث في صمت طوال الطريق إلى يشوع بن نون ابنه!!.. على أن الأمر مع ذلك كان أكثر عنده، إذ كانت هناك صحبة موسى العملاقة، كان يشوع محظوظاً جداً، إذ عاش في صحبة موسى، وفي خدمته، وكانت العلاقة بين الاثنين من أسمى وأعمق وأرقى وأوفى العلاقات على الإطلاق، فموسى أحبه كنفسه وكان دائماً أقرب إلى قلبه من أي شخص آخر، حتى ولو كان هذا الشخص جرشوم وأليعازر ابنيه،.. وكان الغلام يغار لموسى غيرة عظيمة، إذ كان هو الوفاء مجسماً لأبيه الروحي العظيم، وعندما أبصر اليداد وميداد يتنبآن في المحلة، طلب من موسى أن يردعهما، إذ لا يجوز لأحد أن يرتفع إلى مقام القائد العظيم، ورد عليه موسى قائلاً: أتغار أنت لي، دعهما يتنبآ، ويا ليت شعب الرب كله أنبياء،.. وما من شك بأن هذه الصحبة التي عاشت إلى آخر حياة موسى، طبعت يشوع بأقوى الانطباعات وأسماها، وأن الشاب إذ كان قد أخذ من ذكريات يوسف جده الكثير فإنه أخذ الأكثر من الصحبة الرائعة لموسى معلمه وأستاذه!!.. وكان يشوع مجهزاً بالتقوى العميقة، بالتقوى التي صاحبته إلى آخر عمره، في مطلع حياته وفي نشوة الصبا، وحلاوة الأيام، قيل عنه: "وإذا رجع موسى إلى المحلة كان يشوع بن نون لا يبرح من داخل الخيمة".. وفي خيام الحياة، وهو يواجه الشعب، قال قوله العظيم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون.. أما أنا وبيتي فنعبد الرب".. كان قلبه عامراً بالحب الإلهي، والله في العادة عندما يختار العاملين ينظر: "ليس كما ينظر الإنسان لأن الإنسان ينظر إلى العيني وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".. وعندما نظر إلى القلوب، لم ير هناك قلباً بعد موسى أصلح لقيادة الشعب من قلب يشوع بن نون!!.. وكان يشوع مؤمناً، وهو من ذلك النوع من المؤمنين الذين لا يبالون بالعدد الذي يمكن أن يقف إلى جوارهم، فسواء وقفوا منفردين، أو وقف إلى جانبهم الجمهور الغفير، فإنهم يحملون ذات الإيمان دون تراجع أو رهبة أو تزعزع، بل إنه من ذلك النوع من المؤمنين الذين يرون كل شيء في ضوء الإيمان، فإذا واجهوا العمالقة بعين الإيمان، فهم في نظرهم أقزام، في الوقت الذي يراهم الغير بالعين المادية، وكأنهم أكثر طولاً، وكأن نفوسهم في الوقت عينه أحقر قدراً وأضأل شأناً!!.. وقد أضاف يشوع إلى الإيمان، اختباره في الحياة والمعارك، لقد خرج من مصر مزوداً بمعجزات الإيمان العظيم، ولقد عبر في البحر الأحمر، وهو يرى المعجزة الكبيرة، وكان كل يوم يلتقط المن المرسل من السماء، وكان يرى المياه تتفجر من الصوان في الصحراء!!.. ولم يقف الأمر عند هذا، بل دفعه موسى في صدر الشباب إلى قيادة المعركة مع عماليق، وذهب الشاب، وحارب العمالقة ورأى السند الإلهي، في عصا موسى المرتفعة، فهو يغلب إذا ارتفعت العصا، وهو يهزم إذا كلت ذراع موسى عن رفعها، وهو يتعلم من هذا كله كم يفعل الإيمان في حياتنا، عندما نؤمن بإله عظيم!!.. وقد كان ليشوع الشجاعة الخارقة التي استندت إلى الإيمان العميق، فإذا كان من مشيئة الله أن يعيش طوال عمره محارباً،.. فإن حربه دائماً ترتكز على الثقة والإيمان بالله!!..
كانت نعمة هذا الإنسان مع كل هذه الوداعة الهائلة، فهو خادم لموسى مخلص غيور وديع متضع، لا يكاد يرى نفسه أهلاً أن ينحني ويحل سيور حذاء قائده العظيم، وأنت لا تسمع منه فخرآً بالانتصار على عماليق، ولا ترى منه مكاناً إلا حيث يأمره موسى، أو حيث يجلس في خيمة الاجتماع دون أن يبارحها وكأنما يستمع إلى صوت من موسى يأتي بعد خمسة عشر قرناً من الزمان: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم!!. كان يشوع بن نون الشاب المجهز بالتواضع لخدمته العظيمة!!.