رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
رحبعــــام "خنصري أغلظ من متني أبي" (1مل 12: 10) مقدمة اشتهر رحبعام بن سليمان بأنه الرجل الذي أضاع مملكة بلسانه،.. وسيقف رحبعام مثلاً في كل التاريخ، للقدرة المدمرة الهائلة للسان البشري، وإن كنت في شك من الأمر، فاقرأ ما كتب الرسول يعقوب عن اللسان: "هكذا اللسان أيضاً هو عضو صغير ويفتخر متعظماً هوذا نار قليلة أي وقود تحرق" فاللسان نار عالم الإثم هكذا جعل في أعضائنا، اللسان الذي يدنس الجسم كله ويضرم دائرة الكون ويضرم من جهنم لأن كل طبع للوحوش والطيور والزحافات والبحريات يذلل وقد تذلل للطبع البشري، وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلله. هو شر لا يضبط مملوء سماً مميتاً"...، وبمفهوم المخالفة أو على حد التعبير العكسي كما يقولون، أو بما قال الرسول يعقوب في استهلال الحديث عن اللسان: "إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذلك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً".. ولعل هذا يذكرنا بالمثل الفارسي القائل أن فيلسوفاً أرسل تلميذه إلى السوق طالباً منه أن يشتري أردأ ما في السوق، فعاد الغلام. وقد اشترى "لساناً" من السوق!!... وإذا أعاده الفليسوف ليشتري أفضل ما في السوق أيضاً، فعاد الشاب وقد اشترى "لساناً" من السوق!!.. وفي سوق الحياة ليس هناك ما هو أردأ من اللسان أو أفضل من اللسان،... لأنه في الواقع من فضلة القلب يتكلم اللسان،... ونحن لم نكشف في قصة رحبعام عن لسانه أو بالأحرى اتساخ لسانه، بل سنتعمق أكثر إلى ذهنه الفارغ، وحياته القبيحة التي لم يكن اللسان سوى تعبير صادق عن كليهما في شخصيته ومن ثم يصح أن نرى رحبعام من الجوانب التالية: رحبعام ونشأته عندما ولد رحبعام أطلق عليه سليمان هذا الاسم الذي يعني "مرحب الشعب" أو موسع الشعب، ولعله سليمان كان يحلم لابنه ما يحلمه في العادة الأباطرة بالنسبة لأولادهم،.. ولعله فردرك الأكبر الذي جاء بولده قبل أن يموت، وقال له: ها أنا يا ولدي أسلمك امبراطورية عظيمة، فلا تسمح أن يضيع منها شيء، وإلا ضحكت عليك في قبري!!... ولا أعلم إن كان شيء من هذا المعنى في ذهن سليمان، وهو يتوق أن يرى الامبراطورية العظيمة، التي أنشأها، وجعلها حلماً من الأحلام، لا في اتساع رقعتها فحسب، بل في الثروة الخيالية التي ملأ بها أورشليم، والمباني والقصور الشاهقة، والتجارة العظيمة، والفن، والمعمار، والموسيقى،.. وهو يتمنى أن ولده يتسلم هذه جميعاً، ليجعلها أضعافاً مضاعفة،.. على أي حال إن هذا حلم كل أب لابنه، وهو الحلم الذي يتمشى مع أعماق الطبيعة البشرية التي تتغلغل فينا جميعاً، وقد ذكره بناياهو بن يهوياداع لداود في قوله: "كما كان الرب مع سيدي الملك كذلك ليكن مع سليمان، ويجعل كرسيه أعظم من كرسي سيدي الملك داود"... وأغلب الظن أن عيني داود في تلك اللحظة ومضتا بنور لامع، وارتسمت الابتسامة على شفتيه، ولعله رفع صوته إلى الله، ليقول آمين يا رب ليكن هكذا!!... وجاء سليمان ووسع، وفعل، وعمل، الكثير، وولد له الولد الذي على الأغلب كان جميلاً كجمال أمه، وأبيه،.. وأطلق عليه الاسم "رحبعام"، وهو يحلم له بالرحب والسعة، من كل جانب من جوانب حياته ونفسه،.. وقد كان من الممكن أن يكون الشاب هكذا، وقد كانت معه الإمكانيات الكثيرة التي تساعده على ذلك، إذ كان له السهم الذهبي، الذي وضعوه شعار لأمير ياباني قيل أنه كان سيتغرب عن بلده فترة من الوقت، وكان هذا السهم يذكره أينما يتجه ويذهب بالأصل الذي ينتمي إليه، والأسرة التي ينحدر منها، وسواء صحت القصة بالنسبة للياباني أم لم تصح، فإن رحبعام بن سليمان كان يمكن أن يعود إلى آبائه وأجداده ليرفع رأسه، كأعلى ما يكون الارتفاع، وأسمى ما يكون العلو والمجد، ولعله سمع عن جده داود من القصص والأحاديث ما يمكن أن يصنع منه بطلاً لو ترسم خطى هذا الجد أو سار في سبيله، أو سلك سلوكه، وكان يمكنه أن يتوفر على الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد التي خرج بها سليمان إلى العالم، لينهل منها البشر أروع الحكم وأمجد الأمثال، وكان من المتصور أن النبع وقد بدأ من بيته ليجري في تيار الإنسانية كلها، أن يكون هو أول من يرتاده وينهل منه،.. وأعظم من هذا كله، كان هيكل الله على قيد خطوات منه،.. وكان يمكنه أن يجد سبيله إلى هذا الهيكل وهو يغنى: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله"... "ما أحلى مساكنك يارب الجنود تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي، العصفور أيضاً وجد بيتاً والسنونة عشاً لنفسها حيث تضع أفراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي، طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك... لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار"... على أن رحبعام -رغم هذه الامتيازات كلها- لم يحتج سليمان إلى أن يموت ويضحك عليه في قبره، إن صح أن الموتى يضحكون في قبورهم، فإن سليمان الحكيم بكى في حياته، وهو يرى ابنه يأخذ سبيله إلى الشباب والرجولة،.. لقد خضع الشاب لعوامل أعتى وأقسى وأقدر على الهدم والتحطيم، وكان لسليمان اليد الطولى في كل هذه العوامل،.. لقد تزوج سليمان نعمة العمونية، وهي أميرة عمونية يقطن أهلها الصحراء الواقعة شرقي الأردن، ويبدو أنها كانت ذات جاذبية وتأثير عميق على الملك، حتى أنه بنى مرتفعة لمولك رجس العمونيين من أجلها،...، وإذا كانوا قد قالوا أن خلف كل ولد عظيم أم عظيمة، وإذا كان الأمريكيون في تقديرهم لهذه الحقيقة قد أقاموا نصباً تذكار ية لأم واشنطون، وأم ابراهام لنوكلن... فمن الجانب الآخر يمكن أن نقيم تمثالاً بشعاً للخراب والدمار لرحبعام بن سليمان، هو في الحقيقة نعمة العمونية الآتية من وراء الأردن تحمل معها ملوك رجس العمونيين، وعجز الشاب رحبعام عن أن يعرف السبيل إلى إله إسرائيل، لأن أمه أرضعته الوثنية على مرتفعة ملكوم رجس العمونيين!!... وقد ضاعف النكبة والمأساة سلوك الأب تجاه ابنه، ولو سئل رحبعام الأحمق: لماذا جاء في حماقته على العكس من أبيه الحكيم الذي كان مضرب الأمثال في الحكمة؟ لربما جاء الجواب، كما ذكره ذلك الشاب الذي اقتيد إلى المحاكمة لارتكابه جريمة مروعة، وكان أبوه من أشهر القضاة في البلد، وإذ قيل له: كيف يمكن أن يرتكب مثل هذا الجرم، وأبوه من أعظم رجال العدالة والقضاء،.. قال: وهذه هي المأساة... لقد كان أبي غارقاً في كتب القانون دون أن يكون له متسع من الوقت لكي يعلمني ويهذبني وينبهني ويرعاني،.. لقد ترك سليمان الغلام، دون أن يعني به، لأنه كان مشغولاً عنه بالمهام التي تواجهه كل يوم في امبراطوريته العظيمة الواسعة،.. أجل وهذه هي المأساة المحزنة، لقد ترك الأب المجال والميدان للأم العمونية، لتصنع من ابنها الإنسان الوثني القلب، والجالس على عرش يهوذا،.. وهي مأساة تتكرر بهذه الصورة أو تلك في قلب البيوت المسيحية، حتى أن الناس تتعجب. كيف يحدث أن أبناء القادة المسيحيين والرعاة والخدام والشيوخ يكونون على النقيض تماماً من قصة آبائهم أو حياتهم أو سيرتهم،.. وقد نسى بيته وأولاده بالتمام،.. أو أنه لا توجد الأم التي يمكن أن تصنع التعويض، أو تملأ الفراغ في هذا المجال... كان سليمان يحلم لابنه بالأحلام العظيمة الوردية، وكان يمكنه أن يحول هذه الأحلام إلى الواقع، حتى ولو كان مشغولاً، بأن يفعل ما فعله أبوه فيه، عندما سلمه للنبي ناثان، ليتولى إرشاده ورعايته وتهذيبه وتعليمه،.. كان من الممكن أن يجد له المعلم الأمين الصادق الذي يتولى الصغير، بما يمكن أن يجعل حياته متمكنه الشركة والارتباط العميق بالله،.. ولكننا لا نعرف أن سليمان فعل شيئاً من هذا القبيل فإذا أضيف إلى ذلك ما يقولونه: "لقد تزوج سليمان ألف امرأة، وكان له ابن، وكان هذا الابن للأسف أحمق"... ويكفي أن ينشأ أي غلام في قصر فيه ألف امرأة، وهو محاط بالترف، والتنعم، والحياة الشهوانية الصاخبة،... وهو يطلب فيجاب طلبه في الحال، وهو يتكلم فيمتدح كلامه، حتى ولو كان أسخف كلام، وهو يشير بإصبعه، فيجد عشرات أو مئات الخدم والحشم تلبي النداء، مثل هذا الشاب الترف المدلل، كان أحوج الكل إلى ما قاله سليمان في أمثاله: "من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له التأديب" "لا تمنع التأديب عن الولد لأنك إن ضربته بعصا لا يموت تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية"... ولو أن سليمان مد عصاه إلى ظهر رحبعام، لربما تغير تاريخه وتاريخ المملكة بأكملها لكنه لم يفعل، فمهد له بحياته وتصرفاته وتدليله الطريق الرهيب إلى الضياع الذي وصل إليه فيما بعد!!.. ولا يمكن أن ينسى أخيراً في هذا المجال نكبة المعاشرات الردية، في ذلك المجموع الكبير من الزمان والصحاب الذين خالطوه وداهنوه وتملقوه، ووصفوا بالقول: "الأحداث الذين نشأوا معه ووقفوا أمامه"... هذه هي العوامل المتعددة التي أثرت في رحبعام، لينشأ فتى متكبراً أنانياً ضعيفاً ضيق الأفق، أو كما وصفه ابن سيرا: "وافر الحماقة ويعوزه الفهم!!.. رحبعام وسياسته هل كان رحبعام في الحادية والعشرين من العمر أم في الحادية والأربعين؟؟ لقد أورث هذا ارتباكاً عند البعض، مع أن هذا الارتباك في حد ذاته يعطينا تمسكاً بالكتاب أكثر، إذ الأرقام في اللغة العبرية كانت تكتب عادة بالحروف، والحرف الذي يشير إلى الحادية، هو حرف واحد في الحالين الألف في الأبجدية العبرانية، أما الحرف الذي يشير إلى العشرين، وهو حرف الكاف، والآخر الذي يشير إلى الأربعين وهو حرف الميم فإنهما في الكتابة العبرانية قريبان جداً من بعضهما، حتى أنه ليصعب مرات كثيرة أمام المخطوطات التي عاشت آلاف السنين أن تتبين في المخطوطة الفرق بين الحرفين، وحتى يكون الكاتب أميناً فإنه يرسم الحرف الذي أمامه دون أدنى تغيير، ويبقى الاحتمال الثاني ويشار إليه في الهامش،.. ومن المرجح لهذا أن رحبعام كان في الحادية والعشرين من عمره في السن التي يقال عنها في أيامنا سن الرشد،.. ولكنها في الحقيقة هي السن التي تحتاج أمام المشاكل والمتاعب، إلى أمرين أساسيين يخطيء الإنسان إذا تجاوزهما، ولم يتمسك بهما، تمسكه بالحياة نفسها،... وهما: الإرشاد الإلهي، وخبرة الذين جازوا الصعاب والمتاعب المشابهة من قبلنا، أو الذين حنكتهم الأيام، وأورثتهم الفطنة والحذر والتأمل... وإذا عجز الإنسان عن أن يملك الأمرين، وإذا قدر له أن يتخلى عن واحد منهما،... فعليه أن يطلب بكل إلحاح وإصرار مشورة الله،... وعلى وجه الخصوص، عندما يقف على مفترق الطرق، وأمام أقسى المخاطر، وأشد الأزمات، وأصعب السبل،... ولو أن رحبعام بن سليمان طلب من الشعب مهلة الثلاثة الأيام ليرجع فيها إلى الرب، ليعطيه التصرف الناجح الحكيم- لكانت بكل تأكيد النتيجة تختلف تمام الاختلاف عما وصل إليه،.. عندما اعتلت الملكة إليزابيث الثانية ملكة انجلترا الحالية عرش بلادها، قالت في حفل التتويج لشعبها: إن تتويجي هذا ليس رمزاً للقوة والأبهة التي ستذهب وتنتهي في يوم من الأيام، ولكنه إعلان عن آمالنا في المستقبل وعن السنين التي يتيحها الله لي برحمته ونعمته أن أحكم بينكم، وأخدمكم كملكة!!. كان رحبعام الملك في حاجة إلى مثل هذا الروح وهذا الأسلوب، عندما اتجه الشعب جميعاً إلى تتويجه في شكيم،... وكان في حاجة قبل أن يتحدث مع أحد، أن يتحدث مع الله، وقبل أن يأخذ رأي إنسان أن يأخذ رأي الله،... لقد ضاعت مملكة الرجل، بضياع الصلة التي تربطه بالله،.. وفي الحقيقة إنه كان في حاجة لسؤال الله، لسبب أعمق من ذلك كثيراً، لأن مصير المملكة كان يتعلق أساساً بموقفها من الله، وهذا الشرخ الرهيب الذي حدث فيها، لم يكن مرده الشكوى من معاملة سليمان للشعب، مع أن هذا هو السبب الظاهر، لكن السبب الحقيقي مدون بكل وضوح وجلاء: "ولم يسمع الملك للشعب لأن السبب كان من قبل الرب ليقيم كلامه الذي تكلم به الرب عن يد أخيا الشيلوني إلى يربعام بن نباط"... إن مصير المملكة يرتبط بتوبتها وعودتها إلى الله،... ولو عاد رحبعام إلى الله، بعد أن يحطم المرتفعات ويبدأ بمرتفعة ملوكم التي بناها سليمان خصيصاً من أجل نعمة أمه، ولو عاد ليقول ما قاله جده فيما مضى: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني".. لو عاد ليقول هذا، أو شيئاً يشبه هذا لوجد حنان الله ورفقه ورحمته، وجوده وحبه، لكنه للأسف نسى الله أو تناساه، أو جهل الطريق إلى بيته فلم يعرفه إلا شكلاً أو طقساً أو لماماً، ولم يعرف الأساس الصحيح لأية سياسة ناجحة في حياة الإنسان على هذه الأرض!!.. أيها الشاب الذي تقف على أعقاب الحياة، وقد تشعبت أمامك الطرق، واستبدت بك الحيرة واستغلق عليك السبيل، لا تخط في أي مجال خطوة واحدة دون أن تسترشد بالله، وتقف الموقف الصحيح منه في عالم الحياة!!... ربما نقول: أنا لست رحبعام، ولم أرث مملكة، ولا أظن أني سأكون ملكاً في يوم من الأيام،.. إنك إن تصورت هذا تخطيء أفدح الخطأ، وتصبح رحبعام الأحمق بعينه،.. كل واحد منا له مملكته. وكل واحد منا ملك بمعنى من المعاني، أنت ملك في مملكة نفسك، وأنت ملك في مملكة بيتك، وأنت ملك في مملكة الرسالة التي أعطيت أن تقوم بها على هذه الأرض، وليس المهم أن تكون مملكتك صغيرة أو كبيرة، إنما المهم أن تعلم أنك -كأي ملك- ممسوح من الله على هذه المملكة، وأنه لا يجوز لك أن تتصرف في أي تصرف إلا بالعودة إلى الله، ليرشدك إرشاده الصالح، ويعلمك كيف تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك!!.. على أن الإرشاد الإلهي، قد يأتينا مباشرة من الله بصورة متعددة على قدر ما نعي أو نتعلم أو نسمع الصوت الإلهي، وقد يأتي إلينا في المشورة الصادقة الصحيحة التي تأتي من الآخرين، ومهما كان الإنسان حصيفاً كيساً فطناً، فإنه من الحماقة ألا يستعين بمشورة الآخرين من غيره من الناس، وذلك لأن الإنسان بمفرده مهما كانت قدرته، فهو محدود النظرة، وضيق الاختبار، وأنه لابد له من المختبرين أو في تعبير آخر "الخبراء" ومن هنا نشأت في كل ممالك الأرض فكرة المشيرين المتخصصين الأكفاء، والذين قد يتنبهون إلى الزوايا المختلفة من الموضوع أو المشكلة، والتي ربما لا يستطيع أبرع الناس وأقدرهم من الانتباه إليها، أو الإحاطة بأعماقها وخباياها!!... على أن المشكلة في العادة في اختيار المشيرين وتقدير أفكارهم ومشورتهم، وقد استعان رحبعام بنوعين من المشيرين، هم الشيوخ، والشباب، وكان الاثنان على طرفي نقيض!!.. ولا سبيل إلى اللقاء بينهما على وجه الإطلاق، وهنا نتبين أهمية المشورة، وصعوبتها، ودقتها، والحاجة الماسة إليها، وأن الإنسان لا يستطيع كقاعدة عامة إهمالها أو التخلي عنها!!... ومع أننا لا نستطيع أن نقول إن كل شيخ لابد أن يكون حكيماً، وأن كل شاب لابد أن يكون نزقاً طائشاً، فما أكثر ما يتبادل الاثنان المواقع، لكن القاعدة العامة مع ذلك، أن الشيخ أميل إلى تحكيم العقل والتجربة والاختبار، في الوقت الذي يندفع فيه وراء لهيب المشاعر والأحاسيس والعواطف، ومن هنا كان لابد أن تتباعد المشورتان تباعداً كاملاً أمام عيني رحبعام!!... كان العظمة عند الشيوخ تقوم على أساس الخدمة والرفق والحنان والكلمة الحلوة، وأن الإنسان في أي مكان ومجال لا يمكن أن يهزه قدر الموادعة والاتضاع من أي إنسان آخر مقابلة، فهو يمكن أن يستعبد الآخرين عندما يبدو أمامهم عبداً لهم خاضعاً مطيعاً لرجائهم وانتظارهم، وكان الشيوخ -ولا شك- يدركون مدى المعاناة القاسية التي عاناها الشعب أيام سليمان، وأنه قد سلم رحبعام المملكة بركاناً يوشك أن ينفجر، وأنه وإن لم يكن سليمان قد وسع رقعة الأمة، وملأها بالفضة والذهب، وحول خيامها إلى قصور، وأعطاها مجداً لم تعرفه من قبل،... لكن صرخة الإنسان الدائمة في كل العصور هي الحرية، وأنك يوم تحصره أو تضعه في قفص، ولو من ذهب، فإنه لا يلبث أن يتحول وحشاً يحطم كل شيء، ولا يبالي بعد ذلك حتى ولو حطم نفسه وهو يبحث عن الخلاص والحرية، ولعل الشيوخ وقد عاصروا داود وسليمان، وأدركوا الفرق بين الرجلين، إذ كان داود خادم الشعب والمكافح والمغامر بحياته من أجله، والذي ساسه بالصبر واللين والحكمة والوداعة، فأحبه وخدمه والتف من حوله،.. على العكس من سليمان الذي ملأ بطنه طعاماً، وألهب ظهره بالسياط، فبذر بذور العداوة والحقد والفرقة والانقسام بين يهوذا وإفرايم، وقد جهل بغباء أن سبط بنيامين لا يمكن أن ينسى أن العرش كان له وتحول إلى سبط آخر،... وإذا أدركنا إلى جانب هذا كله أن طلبات الشعب لم تكن مغالية، بل كانت على العكس وديعة متواضعة، فهم لا يطلبون الشطط، وهم استعداد لخدمة الملك الجديد، متى خفف النير القاسي الموضوع على أعناقهم!!... كانت العظمة عند الشباب شيئاً يختلف تماماً عن هذا التصور أو هذا التعبير، إذ أن العظمة في عرفهم تقوم على التسلط والاستبداد، وأنه كلما أمعن الملك في الأمرين، كلما دانت له العامة، وسارت القافلة دون توقف لا تلوي على شيء... نرى هل كان رحبعام يؤمن بنظرية الحق الإلهي في حكم الشعوب؟؟ الحق الذي عندما أسيء استغلاله، في عصر شاول جلب الخراب والدمار على الأمة،.. وعندما أساءت أوربا استعماله في الكثير من الأوضاع والظروف حولها إلى بركة مليئة بدماء الملوك والعامة معاً،... قال أحدهم: إذا كانت رغبتك أن تملك أكثر مما تعطي، وإذا كنت تطمع في القوة لتأمر أكثر مما تبارك، وإذا كان ما تصبو إليه السيادة أكثر من المحبة، ورغبتك أن تكون الأعظم من أن تكون الأقل، الأول بدلاً من الأخير... فإنك بذلك تخدم العدو الأعظم الذي هو الموت، وستنال إكليله بالدود الذي يرعى جسدك ويتقبل مصيرك".. لقد جاء سيدنا ليلقن العالم كله الطريق الأمجد للعظمة: من أراد فيكم أن يكون عظيماً فليكن لكم خادماً ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن عبداً"... كان رحبعام كما أشرنا -إلى جانب هذا كله- الملك الذي أضاع مملكته بلسانه، ومن الملاحظة أن تهديده كان أجوف أخرق لا معنى له، وأنه لم يكن في حاجة إلى أن ينتظر ثلاثة أيام ليعد الجواب، فيما لو كانت نظرية الاستبداد هي النظرية التي ستحكم عمله، لأن المستبد الفطن، لا يترك الشعب يتجهز للتمرد والثورة ثلاثة أيام، ويعد نفسه في حالة التصادم والرفض، كما فعل ياهو بن نمشي عندما أراد الفتك بأنبياء البعل، إذ لم يكشف عن رغبته، بل بالحري غطاها بالدعوة إلى حفل كبير للطعام، وكان حريصاً ألا يكون بينهم واحداً من أنبياء الله،.. أو كما فعل محمد على عندما أراد الفتك بالمماليك. إذ دعاهم إلى حفل كبير تختلط فيه لحومهم باللحم الوافر الشهي الذي أعده لها!!.. كما أن رحبعام لم يكن في حاجة إلى أن يثير الشعب، حتى بعد ذلك بالقول القاسي الذي قاله لهم، قبل أن يرتب أمره ويدبر خطته، ويعد جيشه لقمع الثورة في حال نشوبها،... وليس أدل على ذلك من عجزه في التصرف ومواجهة الثورة عند قيامها، إذ يرسل أدورام القائم على التسخير، ليزيد من انفعال الشعب الذي قام برجمه، وكان موشكاً أن يفتك بالملك نفسه، لولا أنه أسرع في مركبته هارباً إلى أورشليم، كان الملك في الواقع غراً أحمق، أقدر على الكلام منه على التصرف والفعل!!.. ومن المؤسف أن رحبعام لم يكن له من العقارب إلا عقرباً واحدة أطلت من لسانه، وويل للإنسان الذي يتحول لسانه عقرباً،.. لقد صور لهم أنه يملك قدرة محزة تعسة، قدرة العنف والقسوة، ولا يمكن أن تقارن هنا قدرة أبيه بقدرته، إذ أن أباه يبدو من هذا القبيل أصغر وأضأل، إذ أن خنصره أغلظ من متني أبيه، وإذا كان أبوه قد أدبهم بالسياط، فسيؤدبهم هو بما هو أقسى وأشر، إذ سيستعمل آلة تسمى بالعقرب، وهي عبارة عن سوط بعدة أطراف، وفي كل طرف قطعة من الحديد أو الرصاص، وعندما يضرب بها شخص يناله من الأذى كما لو أن عقرباً قد لدغته!!.. ما أبعد الفرق بين الكلمة الآسرة، واللفظ القاسي، ومن أجمل ما يتمتع به الإنسان، ضبط النفس، وحلاوة اللفظ، ولقد قيل أن قيصر لم يكن قائداً مغواراً فقط، بل كان ذا لسان حلواً آسر رقيق، وفي ذلك قالوا عنه: لقد كسب قيصر صداقة الكثير من الناس في روما بفصاحته في الدفاع عن قضاياهم، وقد أحبه الناس للطريقة التي كان يتحدث بها إلى كل إنسان.. كما قالوا أنه ذهب مرة إلى ضيافة صديق من أصدقائه، وأخطأ الخدم فوضوعوا في طبق السلطة زيتاً من زيوت الشعر بدلاً من الزيت العادي الذي يستعمل في الطعام، فأكل قيصر دون تأفف، ودون أن يكشف الأمر أمام صديقه مراعاة لعواطفه وشعوره!!... رحبعام ونهايته كانت نهاية رحبعام معلومة من البداءة، ولكن الله مع ذلك أعطاه أكثر من فرصة... لقد أعانه الله في السنوات الثلاث الأولى من حكمه فبنى مدناً وحصنها، وجاءه الكثيرون من الكهنة واللاويين الذين هربوا من يربعام، وما من شك بأن مجيئهم كان يحمل بركات مضاعفة لمملكة يهوذا، وكان للملك أن يبارك الله لأجل تحسن الظروف التي أحاطت به، لكنه للأسف، حدث العكس، إذ يقول الكتاب: "ولما تثبتت مملكة رحبعام وتشددت ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل معه".. وهذا ما يحدث -للأسف- مع الكثيرين إذ يتمسكون بالله إلى أن تضحى ظروفهم أكثر توفيقاً ويسراً، وعندئذ يتركونه!!.. وقد توالت عليه الكوارث فيما بعد، على قول النبي إرميا "أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون.. الحائدون عني في التراب يكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية!!".. وهل لنا بعد ذلك أن يمتد بنا القول: "اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص لأنك أنت تسبيحتي؟!!… |