رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دبورة وقضيتها كانت هذه المرأة قاضية في جيلها وعصرها، وكم حكمت ولاشك بين المئات أو الآلاف من المتنازعين الذين وفدوا لكي تفصل بينهم فيما أثاروا من شكاوي أو خصومات، لكنها تحولت هي فيما بعد إلى قضية عامة تنتقل من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع، قضية المرأة، وهل من حقها أن تأخذ مكان القيادة أو الصدارة، وهل هذا الحق مطلق، وعام، وشامل!!؟ أم هو حق نسبي أو استثنائي لا يأتي إلا في أوقات خاصة، وظروف معينة!؟ ربما نكون أقدر على الأجابة أو أتيح لنا أن نمسك بها كقضية كتابية ندرسها بتأمل وعمق وإمعان في ضوء الحق الإلهي الظاهر من الوحي المقدس، وكلمة الله، وقضية دبورة على هذا الأساس تحمل الخصائص التالية : قضية إقناع وهذه الظاهرة الأولى في هذه القضية، فان أول أوصاف دبورة أنها «نبية» وهي ثاني نبية يذكرها الكتاب المقدس بعد مريم النبية «أخت موسى وهرون»، وهي النبية الوحيدة خلال أربعة قرون بين قضاة إسرائيل، وكان من المستحيل أن تظهر على المسرح إلا بعد اقتناعها واقتناع الشعب بصوت الله الذي جاء إليها، وليس في الكتاب ما يفصح عن النبوات التي تنبأت بها، فيما خلا إعلانها لباراق عن دعوة الله له ليقود المعركة، غير أنه من الواضح أن الشعب آمن بأنها تحمل رسالة الله، وأن صوت الله في فمها، وأن قوتها الصحيحة والحقيقية، بل إن شجاعتها الفائقة لم تكن كلتاهما صادرتين عن مجرد استعداد طبيعي في كيانها البشري، بل ليقينها الكامل بأنها مدفوعة من الله لغاية مقدسة... هذا هو الأمر الذي نطلق عليه في لغة الإيمان المسيحي بالدعوة العليا ومع أنه كما قال أحدهم : لم يعد من طبيعة المرأة أو من عملها أن تدعو إلى الحرب كما فعلت دبورة دفعاً للاستعباد أو الطغيان الذي وقع فيه الشعب بعد أن أسلمه الرب لأعدائه نتيجة لشرهم وخطاياهم، إلا أن الدعوة العليا في الرسالات المفتوحة أمام المرأة هي أول ما ينبغي أن تتحققه على نحو أكيد قاطع، لا يستشار معه كما يقول الرسول بولس لحم ودم، بل تندفع إليها بكل حماس ودون أدنى تردد، وقد جاءت أعداد كثيرة من النساء بعد دبورة، وتحققن من الرسالة التي وضعت عليهن وسرن وراء إعلانها الخاص وندائها الإلهي،... كانت ماري ريد مرسلة كسائر المرسلات اللواتي يعملن في الهند، ولكنها يوماً ما وقع نظرها على أبرص، فامتلأ قلبها ألماً ورأت الله يدعوها لخدمة البرص، فكرست حياتها لخدمتهم، وانتقلت اليها العدوى، ولكنها لم تجزع بل خدمت، وفنيت في خدمتهم، إذ كانت هذه رسالتها الموضوعة عليها في الأرض،... أبصرت جين ادامز متسولاً فقيرًا يلتقط قطعة من الكرنب من القمامة ويأكلها في الحي الشرقي في لندن، حي الفقراء، فآلمها المنظر وكرست حياتها لخدمة الضائعين المتشردين،... وهل يمكن أن ننسى خدمة اليزابيث فراى مع المسجونين وفلورنس نايتنجيل مع الجرحي، وفرانسيس ويلارد مع المدمنين والسكيرين، وهاريت بيتشر التي كتبت قصتها المشهورة «كوخ العم توم» للخلاص من الرق والعبودية، ومدام كوري مكتشفة الراديوم، وأمثالهن اللواتي كن نبيات عصرهن والعصور اللاحقة، فيما أدركن من رسالة عشن لها علي نحو عظيم ونبيل، لمجد الله، وخدمة الإنسانية، ورفع الألم والعار والتعاسة عن أعداد لا تنتهي من المعذبين في هذه الأرض!!.. قضية بيت وبيت دبورة لم يضع في زحام قصتها العظيمة، إذ كانت زوجة «لفيدوت» ومعنى اسمه كما ذكرنا «مصباح» وهذا المصباح لم ينطفيء أو يخفت نوره خلف شخصيتها العظيمة، كما أن بيتها حيث ألفت أن تجلس تحت ظل نخلة دبورة كان بيتًا شهيرًا ومعروفًا، وأمومتها تؤكد ما قاله بصدق د.م. مكاي عندما وصفها بالقول: «ما هو الشيء العام الذي نلحظة على دبورة، هذا الأمر العام، أنها كامرأة عاملة لم تفشل في حياتها الخاصة، ونجاحها في حياتها العامة لم يبن على أنقاض حياتها البيتية، إذ لم تتلمس شهرتها ومجدها على أساس قذارة بيتها أو عدم المحافظة عليه أو على الشقاء أو عدم العناية التي يمكن أن تصيب زوجها وأولادها، وقد تقول كيف عرفت ذلك أجيبك أني عرفته من قولها أقمت أنا أما، وهل تظنون أن دبورة كانت تقول هذا لو أنها كانت فاشلة في حياتها البيتية كلا، بل أنها تقول: لا تحسبونني شاذة أو نبية بدوية، لأني وإن كنت نبية فأنا كغيري امرأة وادعة....» ولا شبهة عند هذا كله، أن نذكر أن المكان الأول للمرأة في كل العصور هو بيتها.. وأنها تستطيع أن تقدم أعظم الخدمات للحياة والكنيسة والمجتمع البشري، إذا استطاعت أن تبني بيتها، وتحسن معونة زوجها، وتربية أولادها تربية روحية دينية صافية، كانت زوجة لأحد خدام الله الإنجليز، وكان زوجها فقيرًا، وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأولى بورن جونز الرسام العظيم، وتزوجت الثانية لورد بونيتير، وأصبحت أما للسير هوج بونيتير الكندي المشهور، وتزوجت الثالثة جون كبلنج وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأخيرة رجلاً اسمه بولدوين الذي كان أبًا لبلدوين رئيس وراء بريطانيا في يوم من الأيام،.. وفي كل بلد ووطن تستطيع الأم الصالحة أن تخلق جيلاً ممتازاً لخدمة الله ومجد الأوطان والجماعات والشعوب. قضية قيادة والآن نأتي إلى السؤال الهام والحيوي، هل من حق المرأة أن تأخذ المراكز القيادية، على انفراد أو مشاركة الرجل في كل ميدان، وهل يشجع الفكر المسيحي مثل هذا الاتجاه؟ وهل تلقى قصة دبورة مزيداً من النور علي الرأى الصحيح من هذا القبيل؟ وأيا كانت الأفكار المختلفة والمتباينة في الإجابة على هذا السؤال، فمما لاشك فيه أن هناك ظاهرة تستدعى الالتفاف، أنه بدراسة الوحي والتاريخ، نجد أن الشخصيات غير العادية من النساء كن يظهرن في وقت الأزمات والشدائد وليس هذا بالغريب، سواء نظرنا إلى الظاهرة من خلال التفكير الديني أو الاجتماعي على حد سواء، فمن الوجهة الدينية هناك قاعدة أكيدة ثابتة، أنه إذا كان البشر يفاجأون لمحدودية أنظارهم وأعمارهم بهذه الصور أو تلك من أزمات الحياة، فحاشا لله أن يفاجأ على الإطلاق، بأية آزمة بل أنه في عنايته الشاملة يعد للأزمة أبطالها من الرجال أو النساء، الذين ينسجهم في بطن الزمن أو التاريخ ليظهروا في اللحظة المناسبة، وفي الوقت الدقيق، أليس هو القائل للشعب: أرسلت أمامك موسى وهرون ومريم، وأليس هو الذي أعد أستير لمواجهة المؤامرة التي كانت وشيكة الوقوع، كما سنشير في إفاضة الى ذلك، عند عرض قصة هذه الملكة القديمة، وأليس هو الذي أعد الكثير من البطلات والشهيدات، في أقسى عصور الاضطهاد والآلام ليكتبن أروع ما يمكن أن يكتب من سطور العظمة والمجد، أما إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة بتفسيرها الاجتماعي، فإننا نعلم أن الضغط يولد الانفجار، والآلام تصنع البطولة والشدائد تخلق أنبل الناس وأعظمهم وأقواهم على الأطلاق. ولعل عيون الكثيرات من أصحاب النفوس النبيلة، عندما تفتحت على تعاسة الآخرين وآلامهم كانت أشبه بعيني السامري الصالح، وهو يرى المنكوب الجريح على حافة الطريق الذي كان يسير فيه. وفي مثل هذه الأزمات لا يهم عند الله أن يستجيب لندائه رجل أو امرأة، فاذا لم يجد الله الرجل، سيجد المرأة التي تكون كما قال أحدهم : قريبة إلى إراداته وقلبه، وتتحرك للخدمة المقدسة، إذا كان الرجل غارقًا في هوانه أو ضعفه أو مشغولاً بالتافة أو الحقير من أوضاع هذه الحياة، وهذا ما كان عليه اليهود تماماً في عصر القضاة إذ تركوا الرب إلههم الحي الحقيقي ليعبدوا آلهة حديثة، وانحطوا إلى أبعد حدود الانحطاط دينيًا وأدبيًا واجتماعياً، فانفصل عنهم وتركهم، وباعهم، لينالوا ما وصلوا إليه من ضيق واستعباد وآلام وتعاسات. والأزمات بهذا المعنى لا يمكن أن تؤخذ قياسًا مطلقًا يبني عليه المبدأ أو يتوسع فيه، كما ينبغي أن نلاحظ أن دبورة لم تعمد حتى في قلب هذه الأزمة، إلى أن تنشيء جيشًا أو تقوده كما فعلت جان دارك في التاريخ الفرنسي، بل رأت أن تدعو رجلاً إلى مكان القيادة، وعندما رفض الرجل أن يذهب إلى المعركة بمفرده، رضيت أن تذهب معه، على أن يدرك الفارق الطبيعي بين الرجل والمرأة، فهي لم تخلق للقتال كما يفعل الرجل، لكن رسالتها أن تقف خلف المقاتلين لتقوى وتشجع وتحفز وتدفع إلى الأمام. ومن ثم فمن الطبيعي أن ندرك أن الأزمات تضع تحفظًا مضاعفا على ما ينادون بمساواة المرأة والرجل في الأعمال أو الوظائف أو الخدمات العامة، وهي أكثر من ذلك في نظر الفريق الأخر، استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يجوز الأخذ به أو القياس عليه!! بل على العكس هو الضرورة التي لا يتجه إليها إلا في أضيق الحدود وأدق الأوقات. فاذا طرحنا القضية في معناها الواسع، وليس فقط في حدود العهد القديم، بل ونحن نطل على المرأة في العهد الجديد، وفي التاريخ المسيحي على بعد أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنًا من المرأة القديمة، كان لنا أن ندرك باديء ذي بدء أن مبدأ المساواة في المسيحية بين الرجل والمرأة أمر لا خلاف عليه، وأن الحضارة العظيمة التي وصل إليها الإنسان كان من العسير أن تتحقق من غير هذه المساواة، وأن نظرة واحدة بين ما كانت عليه المرأة أيام الحضارة الأغريقية أو الرومانية وما هي عليه الان ترينا مدى ما وصلت إليه من حرية لم تكن تحلم بها على الاطلاق، وقد أشرنا إلى هذا، عند الحديث عن شخصية بريسكلا، ويكفي أن نذكر هنا أن المسيح حطم كل الحواجز بين المرأة والرجل، أو كما يقول الرسول بولس : ليس ذكر ولا أنثى، وأوضحها بالقول : «غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب...» غير أن هذه المساواة لا تعني الاندماج العملي أو الوظيفي في كل شيء، بل أن هناك أشياء يعملها، في الأصل، الرجل، وليس من السهل أن تعملها المرأة، والعكس صحيح، والتنظيم الوظيفي أمر يلفت الرسول النظر إليه في معرض هذه القضية عندما يقول : «أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل ان كان يرخي شعره فهو عيب له، وأما المرأة ان كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر قد أعطى لها عوض برقع...» فوظيفة المرأة أو تكوينها أو طبيعتها أو نوع حياتها كأنثى، شيء يختلف تماما عما للرجل، وقد وضع الله من هذا القبيل القيادة للرجل، اذ وضعه موضع الرأس من الجسد كما يقول الكتاب : «لأن الرجل رأس المرأة» ولا يعني هذا للحظة واحدة معنى السيادة أو السيطرة أو التسلط بل بالأحرى التحرك والعمل على نظام ثابت دقيق، فالرأس لا يستطيع الاستغناء عن الجسد أو الانفصال عنه، أو أخذه بأي أسلوب من الشدة أو العنف أو القسوة، دون أن يرتد هذا الأثر عليه هو أولا وقبل كل شيء، إن العلاقة بين الرأس والجسد كالعلاقة بين أي رئيس وأمته أو أي قائد وجيشه، علاقة وظيفة لا يمكن أن يتصور فيه سوى الرابطة التي تحكم الاثنين، على وجه التكامل والتناسق والترتيب. وقد أحكم السيد المسيح هذه القاعدة، وطبقها بالمعنى الكامل الدقيق، ففي الوقت الذي جمع فيه حوله من الأتباع الرجال والنساء على حد سواء، دون أدنى تفرقه، كان هناك التلاميذ، وكانت هناك النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن، وفي الوقت الذي ظهرت فيه العلاقة بين الجميع على أرفع وأرقى لون حضاري عرفه الإنسان حتى يومنا الحالي، وطبقته الكنيسة المسيحية عندما كانت المرأة تسير جنبًا إلى جنب إلى جوار الرجل، في أورشليم واليهودية والسامرة، وفيلبي وكورنثوس وتسالونيكي وروما وسائر الكنائس التي ظهرت في آسيا وأوروبا معًا.. لم يمنع هذا من التمييز بين العلاقة الوظيفية والتنظيمية بين الرجل والمرأة سواء في داخل الكنيسة أو خارجها وعلى النحو الواضح الملحوظ في الإنجيل أو التاريخ!! فمثلاً لماذا لم يختر المسيح من بين تلاميذه الاثنى عشر أو السبعين امرأة واحدة أو أكثر ولماذا قصر هذا على الرجال دون غيرهم، ولماذا لم يختر للكنائس المختلفة امرأة لتكون أسقفًا أو شيخًا، أو لماذا لم يكن ملاك واحدة من الكنائس السبع من بين النساء، رغم وجود الكثيرات اللواتي كن من أعظم الشخصيات، وكان أثرهن في الكنيسة في بعض الأوقات أعمق وأقوى من أثر الرجال، كليدية وأفودية وسنتيخي في فيلبي، وبريسكلا التي كانت الكنيسة تنتقل في بيتها بانتقالها من مكان إلى آخر، وكانت على قدرة تعليمية، مكنتها من تعليم أبلوس العظيم طريق الرب بأكثر وضوح، ومع أن بولس في ختام رسالة رومية بعث بتحياته إلى مجموعة من النساء وصفهن في الخدمة والعمل بأجل الأوصاف، ومع أن يوحنا الرسول كتب رسالته الثانية إلى كيرية المختارة، فاننا لا نعثر في الكنيسة الأولى على وظيفة قيادية للمرأة، ما خلا فيبي التي ذكر أنها خادمة الكنيسة في كنخريا ويمكن أن تترجم الكلمة «شماسة» وتاريخ الكنيسة الأولى لا يتحدث كمبدأ عام عن استخدام النساء كشماسات، وحتى لو جاز هذا فان هذه الوظيفة، وقد أخذتها المرأة على هذا النطاق الاستثنائي، لا تؤخذ بالمفهوم الكتابي المطلق.. |
|