كان بولس كرجل لاهوتى يؤمن بالاختيار المطلق الإلهى ، وقد كان من أشد الواثقين المتعصبين له ، وإذا قيل بأن أوغسطينوس تابعه فى ذلك ، وكان من أهم الأسباب عند هذا الأخير ، هو أن اللّه جاء به وهو موغل فى الخطية ، وحسب المنطق البشرى ، كان لا يرغب بتاتاً فى المجئ إلى اللّه ، وكان يفزع كلما رأى أمه القديسة تصلى من أجله سنوات عديدة ، لئلا يستمع اللّه إلى صلواتها ، فيستجيب لها ، ويخرج هو من الحياة العالمية البهيمية التى كان يتلذذ بها ويرتع فيها .. كان بولس قد أوغل هو أيضاً فى الاضطهاد والتجديف والافتراء وهو ما عاش يذكره طوال حياته ، ومع ذلك جاء به ، إذ سمع أول ما سمع شهادة اللّه لحنانيا : « لأن هذا لى إناء مختار » ( أع 9 : 15 ) ... وقول حنانيا له : « إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه » ( أع 22 : 14 ) ... ولا شبهة فى أن الصورة التى تحدث فيها عن الفارق بين عيسو ويعقوب : « لأنهما وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً لكى يثبت قصد اللّه حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذى يدعو ... فماذا نقول ألعل عند اللّه ظلماً . حاشا. لأنه يقول لموسى إنى أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف . فإذاً ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل اللّه الذى يرحم ، لأنه يقول الكتاب لفرعون إنى لهذا بعينه أقمتك لكى أظهر فيك قوتى ولكى ينادى باسمى فى كل الأرض . فإذاً هو يرحم من يشاء ويقسى من يشاء . فستقول لى لماذا يلوم بعد . لأن من يقاوم مشيئته . بل من أنت أيها الإنسان الذى تجاوب اللّه . ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتنى هكذا . أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان» ( رو 9 : 11 - 21 ) .. هذه الصورة كانت ماثلة أمام عينيه ، سواء تحدثت عن الفارق بين عيسو ويعقوب ، أو موسى وفرعون ، .. أو كانت تتحدث عنه هو عندما اختاره اللّه إناء للكرامة ، .. ومن ثم نجده يقول فى رسالته إلى غلاطية : « ولكن لما سر اللّه الذى أفرزنى من بطن أمى ودعانى بنعمته » ( غل 1 : 15 ) .. وهذا واضح تماماً فى سائر كتاباته ورسائله ، ويكفى أن نشير هنا إلى ما كتبه للأفسسيين : « مبارك اللّه أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة » ( أف 1 : 4 و 5 ) .. « لأننا نحن عمله مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق اللّه فأعدها لكى نسلك فيها » ( أف 2 : 10 ) .. والكلمة عمله تترجم « مجده » أو « شعره » وتعنى الصورة الرائعة أو القصيدة الشعرية التى يبدعها اللّه فى حياتنا ، التى تتحول منظومة رائعة بين يديه ، .. وهو لا يترك هنا مجالا للصدفة أو العارض أو ما أشبه من الأمور أن تحكم حياتنا ، فإذا كان اللّه قد اختار بولس منذ الأزل ، وأفرزه وهو فــى بطن أمه ، .. فلنا أن نتبين كـيف أعــده وهو لا يدرى للعمل العظيم الذى كان عليه أن يقوم به ، كما قال اللّه لكورش : « نطقتك وأنت لم تعرفنى » ( إش 45 : 5).. وهى الآية التى اتخذ منها هوراس بوشنل موضوعاً لعظته العظيمة بعنوان : « حياة كل إنسان مشروع إلهى » .. وبقليل من التقصى نرى العناصر الثلاثة العظيمة التى دخلت فى حياة هذا الرسول من بطن أمه ، وهى الأصالة اليهودية ، والرعوية الرومانية ، والبلاغة اليونانية ، ... لقد ولد فى طرسوس عاصمة مقاطعة كيليكية ، وتقع إلى الشمال الشرقى من طرف البحر الأبيض المتوسط ، وإلى الجنوب من آسيا الصغرى وكانت بها جامعة من أشهر الجامعات فى ذلك الحين ، إذ كانت تقف على قدم المساواة مع جامعتى أثينا والإسكندرية ، وكانت تعتبر ممراً للغادين والرائحين من التجار والسياح بين الشرق والغرب ، وكانت بجمالها وعظمتها وحضارتها شيئاً يختلف تماماً عن الجليل ، واليهودية ، ويعطى الرسول بولس ميزة ربما لم تتوافر فى واحد من جميع الرسل الذين عاشوا مع المسيح !! .. ومن الثابت أن بولس نشأ نشأة دينية متعمقة ، إذ كان أبوه من أشد الفريسيين المتمسكين بتقاليد الأباء ، .. وكانت عادة اليهود المدققين أن يبدأوا تعليم أولادهم فى الرابعة من العمر ، فى بيوتهم ، ثم يرسلونهم إلى المجمع حتى الثالثة عشر ، وهناك يتعلمون تاريخ آبائهم والتقاليد اليهودية ، ونحن لا نعلم شيئاً عن أبيه وأمه ، وربما ماتت أمه وهو صغير ، وكان له أخت متزوجة فى أورشليم ، وأغلب الظن أنه سكن عندها ، عندما ذهب إلى أورشليم ليتعلم وليكون واحداً من الربيين بعد أن جلس عند قدمى غمالائيل ، الذى كان واحداً من المعلمين الذين عرفهم التاريخ اليهودى ، وقد تحدثنا عنه فى مناسبته الخاصة ، وكان فى وقت من الأوقات رئيساً للسنهدريم وكان حجة فى تفسير الكتاب ، وكان مذهبه متسعاً بعيداً عن الحرفية القاتلة ، وراء جده هليل ، على العكس من شمعى الذى كان يحرم على أتباعه مجرد تحية الوثنيين فى الأعياد ، ... وقد تقدم على الكثيرين من أترابه لا فى المعرفة الدينية فقط بل فى التمسك بغيرة بتقليد آبائه ، ... وقد وصفه روفس جونس فى كتابه « بولس البطل » وهو يكشف عن البطولة فى هذه السن المبكرة ، فإذا هو العبقرى المبرز فى وسط جميع تلاميذ غمالائيل ، وقال البعض ، إن هذا الولد سيكون مثل معلمه ، وقال آخرون بل سيتفوق عليه ، إذ لم يعرف له ضريب ، فى الصبر الدءوب على الدرس ، ولا يمكن أن يقف أمام صعوبة فكرية أو معضلة تستعصى على جميع أقرانه ، إلا ووجد لها حلاً ... كتب جيمس مالفيل يصف دافيد أليستون ، وهو يدرس مع مجموعة تبلغ ستة وثلاثين عالماً المنطق لأرسطو ، وغيره من كتب الفلسفة والعلم : « إن هذا الشاب كان يتفوق عليهم جميعاً ، ويحلق فى سماء العلم كالنسر وكنا جميعاً كفراخ العصافير بالنسبة له . وكان بولس فى مدرسة غمالائيل دافيد أليستون بالنسبة لجميع الذين يتعلمون معه ... إن اللّه لم يخترنى ويخترك فى ترتيبه الأزلى لنكتب رسالة رومية أو أفسس ، لكننا يمكن أن نفعل الشئ العظيم التالى إذا استطعنا أن نتفقه ونتعلم ونصل إلى الأعماق فى رسائل بولس ، وننادى ونبشر بها للناس ، .. ابذل كل جهد وادرس وإن أمكن بع ثوبك - إن لم يكن فى يدك مال - واشتر تفسير كلفن عن رومية ، ولوثر عن غلاطية ، وجدوين عن أفسس ، ودافيننت عن كولوسى ، وهوكر عن التبرير ، ومارشل عن « سرالتقديس فى الإنجيل » فإنك ستعطى إكليلا عظيما فى اليوم الأخير عن الأوقات الثمينة التى صرفتها فى مثل هذه الدراسات » ، ... قال بولس لتلميذه العزيز : لاحظ نفسك والتعليم » ( 1 تى 4 : 16 ) .. ولم يفقد بولس حبه للكتب حتى الموت كما يقول كلفن ، ولعلنا نلاحظ ما قاله توماس بوسطن عن اختباره : « كلما ثابرت على دراسة كتبى كلما أحسست أن قلبى ينبض بصورة أفضل . ولكن من العجيب أن بولس رغم هذه الدراسة الجبارة عند رجلى غمالائيل ، .. كان أعمى ، وقد قاده عماه إلى أن يأخذ طريقه العنيف ضد المسيحية التى أحبها وهام بها فيما بعد ، لقد كان مدققاً وبلا لوم فى حفظ الناموس ، ومع ذلك لم يتبين أنه كان مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ، .. كان بولس يحتاج إلى ثلاث سنوات فى العربية ليعيد التأمل فى كل شئ ، بعد أن سقطت القشور عن عينيه ، كانت الرسالة المكلف بها : « لفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى نور » ( أع 26 : 18 ) .. وكان هو أول الجميع يحتاج إلى العين المفتوحة ليقرأ القراءة الصحيحة لحياته وحياة الآخرين ، ولعل هذا هو ما جعله يكتب : « لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء . أين الحكيم . أين الكاتب . أين مباحث هذا الدهر . ألم يجهل اللّه حكمة هذا العالم . لأنه إذ كان العالم فى حكمة اللّه لم يعرف اللّه بالحكمة استحسن اللّه أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة » ( 1 كو 1 : 19 - 21 ) .
كان بولس رغم جبروته العلمى ، أحمق الحمقى وأجهل الجاهلين ، حتى قضى فى العربية ثلاث سنوات يعيد الدراسة ويجد المعرفة ، ويدرك كلمة اللّه فى النور الصحيح،وخرج على العالم والتاريخ والأجيال ، بالروائع الإلهية ، رسائل بولس الخالدة إلى الأبد !! .. إن أعظم فلاسفة الدنيا الذين حيروا الذهن البشرى بالفلسفات القديمة والحديثة ، كل منهم للأسف هو بولس - قبل العربية ، « إلى أن يفتقد اللّه الواحد منهم ليرى النور الصحيح ويقول : « كنت أعمى والآن أبصر » (يو 9 : 25 )
كان بولس إلى جانب الأصالة اليهودية لا ينسى أنه يحمل الرعوية الرومانية التى ولد فيها ، فهو إذاً من سلالة الوجهاء اليهود الذين ربما دفعوا مبالغ طائلة حتى حصلوا على هذه الجنسية أو ربما أدوا عملا لخدمة الإمبراطورية ، فاستوجبوا لهذا السبب أو ذلك شرف الانتماء إلى هذه الرعوية ، والتى كانت مغنما فى الحياة والموت ، فلا يجوز جلد رومانى أو الحكم عليه بالموت صلباً ، وقد استعمل بولس هذا الحق ، فهو إذاً لم يكن من الرعاع ، .. وقد اتسع أفقه بهذه الرعوية حتى تفهم الأوضاع الجارية فى عصره ، وكان إخلاصه للدولة صادقاً فهو الذى كتب تلك الأقوال العظيمة عن حقوق السلطة المدنية ، والدعوة إلى الصلاة لأجل الملوك وجميع الذين فى منصب ، كان اسمه العبرى شاول أي « المسموع » .. أى الذى جاء نتيجة الصلاة ، أما اسمه « بولس » فليس من المؤكد معرفة ما إذا كان قد أعطى له من الابتداء ومعناه « صغير» أو أعطى له بعد أن تعمد على يديه سرجيوس بولس أو عظيم غيره اهتدى بواسطته . يعتقد البعض أن بولس كان قصير القامة ، وأنه ربما سمى بالصغير نتيجة لذلك ولكن الواضح أنه رغم أنه عملاق الأجيال إلا أنه كان يحس أنه صغير تجاه اللّه والرسالة العظيمة التى وضعت عليه!!.. على أية حال ، إن بولس يعلمنا أنه يلزم استعمال الحق كلما كان ذلك مناسباً وهاماً ، كما استعمل هو حقه الرومانى مرات متعددة !! .. وقد أضاف بولس إلى الأصالة اليهودية ، والرعوية الرومانية ، الثقافة اليونانية . كان بولس من أبلغ المقتدرين فى الكلام والكتابة باللغة اليونانية ، .. وكانت طرسوس ميداناً واسعاً للدراسات اليونانية ، كان عند أبوابها تمثال جبار كتب أسفله : « كل واشرب وتمتع بالحياة ، فكل ما غير ذلك لا قيمة له » ... وعرف بولس هذا وندد به وهو يقول : « إن كان الأموات لا يقومون فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت » ( 1 كو 15: 32 ) .. وقد ظهر فى كتابات بولس اطلاعه الواسع على الحضارة اليونانية كالسباق ، وأكاليل الفوز ، ومواكب الظفر ، ومصارعات الوحوش ، والعادات المختلفة ، مما يشير إلى إدراكه للفلسفة اليونانية واستيعابه لكل ما هو طيب فيها ، ورفض مالا يتفق مع سمو الحياة والأخلاق المسيحية وهو القائل : « امتحنوا كل شئ . تمسكوا بالحسن » ( 1 تس 5 : 21 ) !! .