لا يستطيع الإنسان أن يفهم الضمان الإلهى لباروخ إلا إذا ذكر أن هذا الضمان جـــاءه فى عام 605 ق . م . عندما قام نبوخذ ناصر بغزواته الواسعة ، فقضى على اشور فى عام 613 وتحول إلى مصر فى موقعه كركميش المشهورة ، وانتصر على فرعون نخو ، وكان نبوخذ ناصر فى اكتساحه للأمم والممالك ، أشبه بهتلر فى اكتساحه لغرب أوربا فى الحرب العالمية الأخيرة حيث ترك وراءه الفزع والرعب والحيرة والقلق فى كل مكان ، ولا شبهة فى أن باروخ كان كإرميا مشغولا بمصير بلاده ووطنه ، وزادته نبوات إرميا حزناً على حزن ، وألماً على ألم ، وعندما كانت بنفسه أفكار العظيمة التى يحلم بها ، ولماذا لا يكون على الأقل مثل أخيه فى القصر الملكى ؟ ... أعطاه اللّه الصورة المروعة للخراب الذى ستصل إليه بلاده ، ... : " هأنذا أهدم ما بنيته ، واقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض " ( إر 54 : 4 ) ولعله قد أبصر المصير التعس الذى سيذهب إليه أخوه نفسه ، الذي سيهوى مع الملك صدقيا من حالق ، ويساق وإياه إلى السبى القاسى فى بابل ، وهو لن يأسف على العظمة الضائعة لبلاده فحسب ، بل على المصير المحزن للاخ الذى تاق أن يكون مثله !! .. وقد قصد اللّه أن يريه قصة العظمة البشرية التى مهما علت ، فإنها فى سبيلها إلى الحضيض والرماد ، ... ولست أظن أن هناك صورة تتفوق على ماكتبه إرميا عن مصير بابل المؤكد مما أشرنا إليه قبلا ، وكيف أن المدينة ، فى أعلى مجدها وقمته ، ستغرق إلى الأبد دون أن تقوم لها قائمة إذ هى رمز للشر والفساد اللذين مهما علا فعلهما وامتد ، فإنه سيسقط ، كما صاح الرائى فى روياه العظيمة : " سقطت سقطت بابل العظيمة .. من أجل ذلك فى يوم واحد ستأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي يدينها قوى . وسيبكى وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها ، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين : ويل ويل . المدينة العظيمة بابل المدينة القوية ، لأنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك " .. " رؤ 18 : 2 و 10 "وكل عظمة بشرية ، طال الزمان عليها أو قصر ، مصيرها إلى الضياع والهلاك ، لأن يد اللّه القوية تتعقبها فى كل مكان ، وتغرقها كالحجر الذى يسقط فى نهر الفرات !! ..
على أنه على قدر ما يحدث من اضطراب أو فزع لجميع الشعوب والناس ، فإن المؤمن سيبقى على الدوام محروساً باللّه مضموناً بقدرته وقوته ، وأينما يذهب باروخ وأينما يتنقل ، وفى الوقت الذي يجلب فيه اللّه الشر على كل ذي جسد : " أعطيك نفسك غنيمة فى كل المواضع التى تسير إليها " .. " إر 45 : 5 " فإذا كان إرميا قد طوحت به الحياة ، وباروخ معه ، ورأيا روى العين ، الهجوم الذي دمر أورشليم ، والجماعات التى ألزمتهما بالذهاب معها إلى مصر ، .. فهما فى أى مكان فى الأرض ، وفى وسط الحروب والقلاقل والفزع الذى يكتسح العالم بأجمعه يعلمان تمام العلم ، أن المؤمن آمن لأنه فى قبضة يمين القادر على كل شئ ، ... ولعلهما غنياً معاً ، أو غنى الواحد منها : " الساكن فى ستر العلى فى ظل القدير يبيت أقول للرب ملجأى وحصنى إلهى فأتكل عليه . لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر . يخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى - ترس ومجن حقه - لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير فى النار ، ولا من وبأ يسلك فى الدجى ولا من هلاك يفسد فى الظهيرة ، يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك . إليك لا يقرب إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار " .. " مز 91 : 1 - 8 " .