رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
آساف "لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" (مز 73: 3) ربما لا يجد المرء في كل ما خطه القلم البشري، وصفا أروع وأبلغ من وصف المؤمن عندما يسقط فريسة الشك، مما كتبه يوحنا بنيان في كتاب: "سياحة المسيحي"، إذ صور هناك السائح المسيحي ومن معه يسيرون، ليجدوا أنفسهم وهم لا يدرون في أرض غريبة، وإذ ينامون ليلتهم يستيقظون في الصباح ليجدوا أنفسهم في قبضة جبار عات اسمه "جبار اليأس".. وقد أمسك بهم ليطوحهم في عنف وقسوة، في جب مظلم رهيب اسمه "قلعة الشك" ولعل بنيان وهو يصور هذه الحقيقة، كان يكشف عن خبيئة نفسه، عندما أحاط به الشك العاصف، بعد أن دخل السجن في 12 نوفمبر عام 1660م بعد أن اقتحم رجال الشرطة الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها وكانت عظته في ذلك اليوم مما جاء في إنجيل يوحنا: "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجاً فوجده وقال له أتؤمن بابن الله" يو 9: 35 .. وكان بينان يقول للحاضرين مخاطباً كل فرد فيهم. "أتؤمن بابن الله"؟ فأخذته الشرطة وقدمته للمحاكمة إذ كان شارل الثاني ملك انجلترا يحارب ويضطهد المؤمنين الأحرار الذين لا يريدون أن يخضعوا أنفسهم سوى لصوت الله والكتاب المقدس والضمير، وقد طلب القضاة من بنيان أن يمتنع عن الوعظ التبشيري مقابل أن يتمتع بالحرية والأمن، ولكنه رفض ليبقى في السجن اثنى عشر عاماً ذاق خلالها كل أنواع التجارب والآلام والأهوال، كانت زوجته وأولاده يزورونه في السجن، وكان أشد ما يؤلمه رؤية ولده الصغير الأعمى ولقد صاح مرة: “يا طفلي المسكين.. ما أكثر ما ترى في حياتك من مأساة، وإن كنت لا أستطيع أن أتحمل مر النسيم عليك”!. وخاض بنيان معركة الشك، وانتصر فيها الانتصار الحاسم، وكتب كتاب “سياحة المسيحي” و “الحرب المقدسة” من زنزانة السجن ودون أن تناله الهزيمة بأية صورة من الصور،.. وقبل بنيان بما يقرب من ستة وعشرين قرناً، دخل آساف ذات المعركة، وهو يرى مظاهر الصراع القاسي بين الخير والشر، وخرج إلى العالم بمزاميره المنتصرة. ولعل قصته يمكن أن تعطينا لذلك أغلى الدروس: آساف وتجربته ليس هناك من شك أن المزمور الثالث والسبعين قد كتبه آساف النبي المرنم في إسرائيل، وأن عشرة مزامير أخرى تحمل اسم آساف، وقد يختلف الشراح في نسبة بعضها إليه،.. ولكن الطابع العام المتقارب في هذه المزامير يكشف عنه المزمور الثالث والسبعون، وهو التجربة التي أحس بها آساف تجاه مشكلة الشر في الأرض، وقد أثرت ظاهرة الشر في أفكار الرجل، وعواطفه، وكانت على وشك أن تغير مساره وتاريخه بالتمام، كيف يمكن تفسير ظاهرة الشر مع وجود الله الكلي الحكمة، والقدرة، والمحبة؟ وكيف تبدو هذه الظاهرة فيما تترك من طابعها المدمر الرهيب الملحوظ بين الناس!!.. لقد بدت عند آساف أولاً: في ثروة الأشرار المتزايدة: "هوذا هؤلاء هم الأشرار ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة".. وبدت عند أيوب من قبل يوم قال: "عندما أتذكر أرتاع وأخذت بشرى رعدة لماذا تحيا الأشرار ويشيخون نعم ويتجبرون قوة، نسلهم قائم أمامهم معهم وذريتهم في أعينهم بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله ثورهم يلقح ولا يخطيء، بقرهم تنتج ولا تسقط يسرحون مثل الغنم رضعهم وأطفالهم ترقص".. وبدت في لغة المسيح سيدنا في صورة مؤلمة قاسية مثيرة: "كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز ويتنعم كل يوم مترفهاً وكان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروباً بالقروح ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه".. ولست أعلم لماذا يضع الله الرجلين جنباً إلى جنب وفي مكان واحد، وعلى هذه الصورة الرهيبة من التباين والتباعد! وهل قصد المسيح أن يصور حال الدنيا على هذا الوضع الغريب الذي يتقابل فيه فقر المؤمنين مع غنى الأشرار، ولئن كان لعازر لم يتحدث إلينا عن الآلام النفسية العميقة التي كانت تملأ قلبه، وهو يقارن بين حاله وحال الغني الذي يتنعم كل يوم وهو على قيد خطى قليلة منه،.. غير أن آساف تحدث عن عمق ألمه وتجربته، وهو لا يرى مجرد الأغنياء فحسب، بل تزايد ثرواتهم على نحو رهيب، وكلنا مرات كثيرة "آساف" في الحياة المعاصرة، ويكفي أن تقرأ الصحف أو الكتب أو المجلات، لكي نرى مدى الصعود الغريب السريع لأشر الناس في الأرض، وهم يتحولون من أصحاب الآلاف إلى عشرات الألوف إلى مئات الألوف إلى أصحاب الملايين، والبلايين والمليارات،.. وهل نقرأ عن الأموال التي لا تعد ولا تحصى، ويحصل عليها الناس بأشر الأساليب، وأفحش الوسائل، وأقسى السبل، وليذهب الحق والخير والفضل والهدوء والراحة والسلام، إلى الجحيم ما داموا يصلون إلى معبودهم الذي رفعوه إلى مستوى الله، وعبدوه بكيفية يمكن أن يقال معها بكل يقين ما قاله السيد: "لا تقدروا أن تخدموا سيدين الله والمال"؟!. إن المال عند الأشرار وخلفه الحروب والمفاسد والشرور التي قلبت كل الأوضاع في الأرض، فأعطت من لا ينبغي أن يأخذ، وأخذت ممن ينبغي أن يساعد وبنت قلاعاً للشيطان ينبغي أن تهدم،.. وهدمت قلاعاً لله ينبغي أن تقوم وترتفع!!.. كل هذا يمكن أن يقترب بالمؤمن من خطوة الانزلاق ليقول. "أما أنا فكادت تزل قدماي لولا قليل لزلقت خطواتي" "هوذا هؤلاء هم.. الأشرار يكثرون ثروة".. وكانت التجربة الثانية أمام آساف: راحة الأشرار: ".. ومستريحين إلى الدهر".. وقد بدت هذه الراحة أمامه: "إذ رأيت سلامة الأشرار لأنه ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يصابون".. فإذا ترجمنا هذا الكلام، فإننا نجد عاموس واحداً من أبرع المترجمين القدامى إذ يقول: "ويل للمستريحين في صهيون والمطمئنين في جبل السامرة.. أنتم الذين تبعدون يوم البلية وتقربون مقعد الظلم المضطجعون على أسرة من العاج، والممتدون على فراشهم، والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف"... وإذا حولناه إلى لغة العصر الحديث، فإنه يعطي صورة للإنسان الذي اخترع المخترعات الحديثة، الإنسان الذي يطلق عليه "إنسان الأزرار، فهو يمد إصبعه ليضغط على الزر، وهو متمدد في مكانه، أو جالس على نغم الموسيقى، في أمكنة التكييف، وقد طوع لنفسه كل شيء في السفر، والسكن، والملبس والمشرب، ولا يكلفه هذا كله، سوى أن يضغط بطرف إصبعه على الزر، والدنيا كلها عند قدميه، وهو يرى نفسه في راحة ما بعدها راحة وفي عز ما بعدها عز،.. هذا في وقت قد يشقى فيه المؤمن، وهو يجد لقمته بصعوبة بالغة في أرض العرق والدموع!!.. وهو قد يعاني من هذا أو ذلك، فيجف نهره في أرض المجاعة، وهو يتنقل في حاجته بين عطايا الغربان أو مساندة أرملة فقيرة تقش عيدانها، باحثة عن لقمة عيش ستأكلها هي وابنها الصغير، ثم يموتان جوعاً بعد ذلك،.. كلنا آساف في بعض المواطن ونحن نرى هذا الوضع المقلوب في الأرض!!.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن آساف رأى شيئاً، إذ رأى الكبرياء المذهلة التي تتملك الأشرار: "تقلدوا الكبرياء.. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض".. أي أنهم لبسوا الكبرياء كالقلادة في العنق، إذ يبدو عنقهم ملتوياً، وأفواههم شامخة إذ يتكلمون بكبرياء المرتفعين في لغة نبوخذنصر القائل: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟"، دون أن يعلموا أن العلي متسلط في مملكة الناس،.. أو في لغة آدوم الذي قيل عنه: "تكبر قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجي الصخر رفعة مقعده القائل في قلبه من يحدرني إلى الأرض".. والكبرياء دائماً ساخرة مستهزئة، تتعالى على الله والناس، وهي أشبه بقبضة الغلام الصغير الذي رفع عينيه نحو السماء، ولوح بقبضته مهدداً القدير،.. ومن المتصور أن يحتمل كل هذا كما يحتمل عبث الأطفال. ولكن المشكلة عند آساف أن هذا قد انصرف إلى الظلم البين الرهيب الذي وقع المؤمنون ضحيته، إذ: "لبسوا كثوب ظلمهم،.. ويتكلمون بالشر ظلماً من العلاء يتكلمون".. أو في لغة حبقوق: "حتى متى يا رب ادعو وأنت لا تسمع أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص لم تريني اثما وتبصر جورا وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً":.. ألم يدفع هذا سليمان إلى القول: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر أماهم فلا معز لهم فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس".. وقد فاضت الكأس آخر الأمر عند آساف بأن الأشرار في كل هذا قد طرحوا الله وراء ظهورهم، فهم لا يكادون يرونه أو يبالون به: "وقالوا كيف يعمل الله وهل عند العلي معرفة".. إنهم يعيشون ويفعلون دون أن يقيموا للقدير حساباً، أو يروا فيه رقيب الناس المطلع على الظاهر والخفي في الحياة!!.. آساف المصاب هذه المظاهر الشريرة انتهت بآساف إلى الحالة الشقية التعسة التي وصل إليها في القول: "وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح".. لقد أدرك آساف بأن هذه المظاهر الشريرة لابد أن تصيب أحداً، إذ هي غير طبيعية، وغير متفقة مع ناموس العدالة الإلهية، فإذا كان الأشرار: "ومع البشر لا يصابون".. فإن الإصابة بدورها تتحول إلى المؤمنين، وهي إصابة دائمة و متكررة، إذ أنها اليوم كله وتتجدد كل صباح، أو في لغة أخرى: إنها كالمرض المزمن العميق الذي تظهر له مضاعفات متعددة على الدوام،.. مرض المؤمن برؤية الشرير في الأرض،.. عاد هنري دراموند ذات يوم إلى بيته، ووجهه ناطق بالأسى والألم العميق، وإذا سأله أحدهم: هل أنت مريض؟.. أجاب: نعم أنا مريض بالناس وبشرهم وخبثهم وحقدهم وقساوة قلوبهم ووحشيتهم التي لا تنتهي!!.. فما هو نوع المصاب الذي وصل إليه آساف؟ لقد أصيب أولاً بالحسد: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار"... ولقد صور واحد من المؤمنين هذه الغيرة في القول: إنه كان شريكاً مع آخر في شركة تجمعهما معاً،... وذات مرة دعاه شريكه إلى عمل آخر، غير أنه رفض إذ أن هذا العمل لا يمكن أن يتم إنجازه مع الاحتفاظ بالمباديء الصحيحة السليمة، وبعد فترة وكان الآخر قد ذهب إلى العمل، وأصاب نجاحاً مادياً كبيراً- فرق بينه وبين شريكه من الوجهة المادية إلى حد بعيد،.. أرسل المؤمن إلى أحد الرعاة يقول له: ها أنا قد تمسكت بالمباديء المسيحية العلمية!!.. ولكن ماذا كانت النتيجة!!؟.. أليست هذه صرخة الكثيرين من أبناء الله، الذين يصابون بالألم العميق، عندما يؤخذ حقهم ليعطي لمن لا يستحق؟، والذين كلما تمسكوا بالحق والشرف والأمانة والصدق، كلما واجهوا السجن والآلام، والتشريد، والمتاعب، وما أشبه؟! كتب أحدهم مقالاً عن ابراهام لنكولن تحت عنوان "الفاشل العظيم" وهو يروي قصة المتاعب التي لاقاها الرجل حتى مصرعه الأخير، نتيجة تمسكه بالمبدأ، ورغبته في عدم التخلي عنه مهما كان الثمن... عندما سقطت الظلمة على عيني ملتون قال له الأطباء: ينبغي أن تكف عن العمل إذا رمت أن تبقى على بصرك، أما هو فأجاب: كلا أن أكون أعمى وأتمم عمل الله وإرادته، خير عندي من أن أبصر بعيداً عن هذا العمل والإرادة،.. قد يفقد الشاب شيئاً ما، كان يمكن أن يحصل عليه، لو سلك السبيل العالمي، وقد يأتيه الشيطان ليهمس في أذنه، والآن ماذا أخذت؟!! وقد يصل إلى النقطة التي وصل إليها آساف: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار"... وثمة أمر آخر ضاعف الألم والصعوبة عند الرجل القديم، هو أنه المصاب الذي لم يحصد نتيجة سريعة يمكن أن تعطيه تعويضاً عما ضاع منه أو فاته إلى الدرجة التي اهتزت معها الأسس الدينية عنده: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي"... وإنها مصيبة، وأية مصيبة أن يتقوض في أعماق الإنسان الإحساس الداخلي بقيمة الدين أو فائدته!!... إن مثوبة الحق الأولى والأهم، ليس في أنه يمكن أن يعطي مغنماً مادياً أو أدبياً، بل لأنه أولاً وقبل كل شيء هو الحق، ونقاوة القلب في حد ذاتها هي أهم مكافأة للإنسان حتى ولو عذب أو مات شهيداً،.. لكن المؤمن مع ذلك يعيش منتظراً نتيجة محسوسة لحياته الدينية في مواجهة المتطلبات والمشاكل التي تربطه بالعالم!!.. فإذا أضيف إلى ذلك أن المصاب كان قاسياً وشديداً، لأنه كان مكبوتاً: "لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك".. وقد يهون المصاب إذا وجد المتألم أذنا تسمعه أو تعطف عليه،.. لكن آساف تحول إلى مرجل مكبوت شديد الغليان، ولعل مشاعره كانت ذات المشاعر التي أصابت إرميا عندما تحدث إلى الله قائلاً: "قد أقنعتني يا رب فاقتنعت وألححت علي فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي لأني كلما تكلمت صرخت ناديت ظلم واغتصاب لأن كلمة الرب صارت للعار وللسخرية كل النهار فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع". لم ينجح إرميا في الاحتفاظ بالصمت، والامتناع عن ذكر اسم الله، إذ ملأت النيران قلبه، وحاصرت عظامه، حتى تكلم ونطق،.. وكانت المشكلة بالنسبة لآساف تختلف إلى حد ما، فهو لا يريد أن يتكلم، وعلى وجه الخصوص أمام الشباب، لأنه لو تحدث إليهم عن الشكوك التي تملأ نفسه وصدره، لأجهز على إيمانهم الغض الحديث بالله،.. وقد انتهى الموقف بالنسبة للمصاب أنه أضحى واقفاً على حد الضياع والكارثة، وقد أضحت الطريق أمامه رخوة زلقة، كادت تزل معها قدماه، ولولا قليل لزلقت خطواته،.. لقد أضحى آساف أشبه بالمريض الذي يقف على الخط الفاصل بين الحياة والموت!!.. كان مرضه عميقاً، وكان مرضه خطيراً!!.. آساف والعلاج كيف أمكن أن يجد آساف علاجاً لهذا الضياع الذي أوشك أن يلم به؟؟ لقد وجد العلاج في تأدية الواجب رغم الشكوك العميقة التي كانت تملأ صدره، لقد كان آساف نبياً، ورائياً، وموسيقياً،.. وربما استمر سنوات متعددة يحيط الضباب برؤياه، وتحيط الأحزان بصنوجه وموسيقاه،.. لكنه لم يكف عن الخدمة، أو يتقاعس عن الرسالة أو يطوح بآلاته الموسيقية حتى يعود مرة أخرى إيمانه بالله،.. كانت المعركة الداخلية بينه وبين نفسه أمام الله،.. وكان أشبه بالواعظ الإنجليزي العظيم فردرك روبرتسن، الذي كانوا -لفرط بلاغته وإبداعه- يطلقون عليه "واعظ الوعاظ"، إذ كانت عظاته نموذجاً رائعاً يمكن أن يتعلم منه الوعاظ كيف يتكلمون ويعظون!!.. هذا الرجل خاض في حياته معركة من أقسى معارك الشك، حتى انتصر دون أن يتراجع أو يتقهقر عن الرسالة والخدمة،.. إن أعظم علاج للشك، هو الاستغراق في الخدمة، وبذل الجهد المتواصل فيها، إذ أن التجربة تفرخ دائماً في أحضان الفراغ والبطالة، والجندي الذي يشغل نفسه بالصراع في المعركة، ليس عنده من الوقت أو المجال ما يجعله ينساق هنا أو هناك وراء أحابيل الخطية أو شراكها المخادعة!!.. على أن آساف -مع ذلك- وجد المكان العظيم للانتصار على الوساوس والشكوك "مقادس العلي" حيث دخل هناك إلى الشركة العميقة مع الله،.. لقد عزل نفسه عن العالم، إذ أنه لا يستطيع أن يرى الرؤية الصحيحة، وزيف العالم أمام عينيه، ولا يستطيع أن يسمع صوت الله، وضجيج العالم يملأ أذنيه،.. ومن ثم فهو في حاجة إلى المكان الهاديء العميق في بيت الله، إلى الخلوة الصحيحة مع سيده وإلهه دون مقلق أو مزعج،.. ولعله السيد المسيح كان يقصد هذا المعنى عندما قال: "ادخل إلى مخدعك واغلق بابك"... فليس يكفي أن ندخل المخدع، بل نغلق الباب على كل ما يصل بيننا وبين العالم الخارجي بغروره وشروره وأوهامه وخياله، وهناك نتحدث إلى الله، وهناك نسمع صوته،.. هل نستطيع في الكنيسة والمخدع والعزلة مع الله، أن نواجه كافة المتاعب والمخاوف، والشكوك والصراع، ونجد الحل الذي نفتقر إليه ولا نجده في أي مكان آخر؟.. وقد وجد المصاب علاجه في صفاء الرؤية: “حتى دخلت مقادس العلي وانتبهت”.. لقد سقطت القشور عن عينيه، وانتبه، وماذا رأى؟.. لم يعد يرى المظاهر المخادعة، بل أضحى يبصر الرؤيا الحقيقية، ولم يعد الأشرار أمامه بالصورة القديمة، رآهم في سقوطهم الكامل العظيم،.. رأى مزالق الضياع، رأى البوار بل رأى الخراب المباغت، رأى الاضمحلال، رأى الدواهي المضنية، رآهم كالحلم العابر الذي ذهب كالخيال عند التيقظ،.. ولقد ملأت هذه الرؤية قلبه ونفسه، حتى أدرك أنه كان بليداً ولا يعرف وكان أشبه بالبهيم فيما تصور،.. لقد عرف كل ذلك عندما أدرك فكر الله ورأيه وهدايته في قلب المخاوف والوساوس،.. في الكلمة "انتبهت" الفرق الحاسم بين البصر والبصيرة، وبين ظاهر المنظر وعمق الحقيقة، ولعل هذا هو الذي دعا المرنم أن يقول: "اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك".. إذ لا يمكن أن يعثر الإنسان على الحقيقة من تلقاء نفسه دون مساعدة أو مساندة الله، في مقادس العلي!!.. عش حياة التأمل والصلاة، وادخل إلى عمق الشركة، وهناك تعثر على الحقيقة التي لا شك فيها!!... آساف والأغنية انجابت الزوبعة عن قلب الرجل، وصفا الجو من الغيوم الكثيفة التي حجبت الشمس، ورفع الرجل صوته مغنياً للرب الصالح، واستهل مزموره بالقول: "إنما صالح الله"، أو يمكن أن تكون العبارة: "بالتأكيد صالح الله".. أو أنه ليس هناك شك أو ريب في الله الصالح، أليس هذا عين ما قاله إرميا في مراثيه: "طيب هو الرب للذين يترجونه للنفس التي تطلبه" وقاله حبقوق بعد العاصفة النفسية التي اجتاحته: "فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المذاود فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي الرب السيد قوتي ويجعل قدمي كالأيائل ويمشيني على مرتفعاتي".. من عهد غير بعيد حدث زلزال مروع في الجزء الغربي من الولايات المتحدة، وقد دمر هذا الزلزال كثيراً من المباني والممتلكات، غير أنه عوض أصحابها تعويضاً لم يكن في الحسبان إذ كشف في قلب الأرض التي مزقها عن مناجم غنية بالذهب،.. وكم تأتي التجارب القاسية بغنى الاختبارات، التي تؤكد أن الرب طيب وصالح وإلى الأبد رحمته!!... لقد تحدثنا في مطلع الأمر عن يوحنا بنيان، وما من شك أن دخوله إلى السجن كان بمثابة الكارثة المروعة له،.. لقد أراد أن يبشر جيله، في الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها، وشاء له الله أن يمنع من ذلك، ليتكلم إلى عالم أوسع وأعظم، وأكثر امتداداً فيما كتب عن الرحلة الخالدة، من مدينة الهلاك إلى جبل صهيون وقاد أجيالاً وراء أجيال في سياحته العظيمة إلى المدينة الخالدة التي صانعها وبارئها الله!!... كان الرب صالحاً وهو يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة!!... كشف آساف في الدراما الخالدة التي كتبها لا عن الفصل الأول فقط في حياة الأشرار بل عن الفصل الأخير أيضاً، وقد تأكد الرجل أن الشر قد يكسب معركة، ولكنه لابد أن يخسر الحرب، وقد كان دقيقاً في التصوير إذ ربط بين يد الله الخفية، وبين المظهر الفجائي، ففي الوقت الذي نرى فيه يد الله في القول: "حقاً في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار".. نجد الحوادث الظاهرة، أو أسباب الثانوية المباشرة: "كيف صاروا للخراب بغتة اضمحلوا فنوا من الدواهي".. وقد يتعجب الناس للسقوط المفاجيء، الذي قد يأتي في أوج المجد والقوة، حسب المظهر الخارجي،.. ولكن الشر أشبه بالنمل الأبيض، الذي يدخل في جسم الخشب ليأكل لبه، وعندما يستعمل الخشب في بناء المنازل أو الكباري، لا تلبث أن تنهار، وبهذا المعنى ينخر الشر والفساد والخطية في حياة أي فرد أو أمة، وتقوضها فجأة أبشع تقويض!!.. وقد رأى آساف كل هذا، وأمكنه أن يرى الله خلف كل هذه النهاية الرهيبة الداوية في حياة الأشرار،... وإذا قرأنا المزامير الأخرى خلاف المزمور الثالث والسبعين -والتي يعتقد أن آساف كاتبها- نجد الله لا يبدو في صورة الساكن الذي لا يتحرك أمام آثام الأشرار أو خطاياهم، بل نراه شديد القوة والبطش: "الله معروف في يهوذا اسمه عظيم في إسرائيل كانت في ساليم مظلته ومسكنه في صهيون هناك سحق القسى البارقة المجن والسيف والقتال".. "اللهم في القدس طريقك أي إله عظيم مثل الله أنت الإله الصانع العجائب عرفت بين الشعوب قوتك فككت بذراعك شعبك بني يعقوب ويوسف أبصرتك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت ارتعدت أيضاً اللجج سكبت الغيوم مياها أيضاً سهامك طارت صوت رعدك في الزوبعة أضاءت المسكونة ارتعدت ورجفت الأرض في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وآثارك لم تعرف هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهرون".. وغنى آساف آخر الأمر بالمكان الذي اختاره في هذه الدراما العظيمة، إذ أخذ مكانه إلى جانب الله: "ولكني دائماً معك أمسكت بيدي اليمنى برأيك تهديني وبعد إلى مجدك تأخذني" لم يعد يرى في السماء أو الأرض إلا شخص الله: "ونصيبي الله إلى الدهر" "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك".. أين هذا من المكان الآخر مكان الأشرار، ممن ابتعدوا عن الله، وكانوا بهذا كمن يرتكب الفسق والزنا "لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزني عنك".. "لأن خارجاً الكلاب والسحرة و الزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذباً"... هل تعرف أيها القاريء الصديق: أين مكانك في مسرحية الحياة؟؟. كان هناك مبشر في نيويورك تعود أن يطرق نوافذ البارات، وعندما يطل السكارى والمعربدون يسمعونه يقول لهم: "لأن أجرة الخطية هي موت"... وهي الكلمة التي يستطيع آساف أن يقولها لكل البعداء عن الله،.. وفي الوقت عينه يستطيع أن ينادي المؤمنين، ولو في قلب المتاعب والآلام والتجارب... "وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا!!"... |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
آساف المرنم ابن برخيا | آساف اللاوي المرتل |
آساف والأغنية |
آساف والعلاج |
آساف وتجربته |
آساف |