رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أبفرودتس وجسارة مخاطرته ومن الغريب أن الرجل الرقيق المشاعر يمكن أن يكون جسوراً إلى أبعد الحدود ، كان رجلاً يجمع بين رقة الحمام ، وشجاعة الأسد ، كان رقيقاً كطفل ، وباسلا كبطل،وهذا من أدق الأمور وأصعبها فى حياة الإنسان ، إذ أن المرء فى العادة ، لنقصه وضعفه ، قلما يعرف التوازن ، ومن محنته أن صفة فيه تنمو على حساب صفة أخرى ، وفضيلة على حساب فضيلة غيرها ، فالحازم مثلا من أشق الأمور عليه أن يكون مرناً ، والناعم من أصعب الأوضاع أن يكون حازماً، وأنت لا تستطيع أن تجمع فى غالبية الناس بين النعومة والصرامة ، وبين الرقة والبسالة،.. لكن أبفرودتس كان من الشخصيات المتسعة ، فقد كان فى رقته كالحرير وفى حزمه كالسيف،.. ولعل السبب الأساسى فى هذا التوازن العجيب هو المحبة التى عندما تتمكن فى أرق الناس يمكن أن تجعلهم على أعلى مستو من الجسارة والمخاطره ، .. كانت إحدى السيدات تفزع من تصور ركوبها الطائرة ، وذات يوم وصلها النبأ أن ابنها فى البلد البعيد ، مريض وفى أقسى حالات المرض ، ... وركبت المرأة الطائرة ، ولم يعد فى ذهنها الخطر الذى يجسمه الخيال أو الوهم ، لأن كل أفكارها وعواطفها أضحت منصرفة إلى ابنها المريض المتألم فى المكان البعيد!!.. وهذا حق تعرفه المترفة المتنعمة الحنون التى تسهر الأيام والليالى دون كلل أو تعب ، أو ضن ببذل أو تضحية ، إلى جانب ابن تأخذه العلة أو تأكله الحمى ، بل كم من أباء يشقون ويضحون ويتعبون ، ويؤذيهم أن يذكرهم أحد بأنهم يفعلون هذا ، متى كان التعب من أجل ولد عزيز ، ويستوى فى ذلك العالم والأمى على حد سواء !! ... كان الأبوان لا يعرفان القراءة والكتابة ، وكرسا حياتها من أجل ابنهما ، ودات يوم جاء الأب الرقيق الحنون الحسن الطوية الدمث الأخلاق إلى أحد الرعاة وهو يقول : لا يخفى عليك أنى قضيت أنا وامرأتى شطراً كبيراً من العمر ونحن نسعى ونكد ونتعب لنتمكن من تعليم ابننا فى الجامعة ، ويسرنى أن أخبرك الآن أننا تلقينا مؤخراً بشرى فوزه بالدبلوم فأبرقنا إليه قائلين إن أباك وأمك يفتخران بك ، فورد علينا هذا الجواب ، وناولنى إياه لأقرأه فإذا به يأتى : إن برقيتكما يا والدى كادت تكسر قلبى فأرجو ألا تكتبا شيئاً فيما بعد على هذا النحو ... إنى لا أنسى أيديكما الحانية التى تصلبت واخشوشنت وتتشققت من جراء العمل الشاق المستمر . وكل ذلك ليمكنكما تعليمى فتضحيتكما العظيمة هى التى كانت سبب إحرازى قصب السبق ولذلك فالفخر بكما وليس بى !! .. فى حروب كورش الملك الفارسى القديم كان تيجرانس ملك الأرمن ، من الملوك الذين دوخوا جيوش فارس فى الدفاع عن مملكته ، واضطر كورش أن يذهب بنفسه لمقاتلة الملك الجبار العملاق حتى أسره وزوجته وأولاده ورجال بلاطه وقرر أن يعذبهم عذاباً أليماً لما سببوه له من متاعب ومعارك ، وجاء تيجرانس مصفد اليدين ، وكورش فى قصره وعلى عرشه العظيم ، ... ويبدو أن كورش أُخذ بمنظر الرجل فقال له : إذا عفوت عنك فماذا تدفع ثمناً لحريتك قال : أدفع نصف أموالى !!.. وإذا عفوت عن أولادك وماشيتك قال : أدفع النصف الآخر وقال : وإذا عفونا عن زوجتك .. وكان تيجرانس يحبها حباً مفرطاً فقال : أقدم نفسى فدية عنها ، ... تأثر كورش لهذه المشاعر وعفا عن تيجرانس وكل الذين معه ، .. وفى الطريق كان الجميع يتحدثون عن مكارم أخلاق كورش وشجاعته وشرفه وشهامته ، وظلت زوجة تيجرانس صامتة طوال الوقت فسألها زوجها : هل رأيت قصر كورش العظيم ؟! فقالت كلا !! .. وهل رأيت عرشه المهيب ؟ ، فأجابت بالنفى !! .. فسألها : إذاً ماذا رأيت وأين كانت عيناك وهو يخاطبنا بجلاله وهيبته الملكية .. أجابت : إننى لم أبصر إلا الشخص الذى كان على استعداد أن يمـــــوت من أجلى !! .. عندما تسيطر علينا عاطفة المحبة ونمتلئ بها ، يمكن أن نفعل ما يفعله أعظم الأبطال وأقوى الجبابرة ، .. كان أبفرودتس الرقيق المشاعر جندياً باسلا مغواراً ، لم يعتبره بولس أخاً فحسب ، بل بطلا من أبطال الخدمة المسيحية إذ كان : أولا - العامل : « العامل معى » ومهما عمل الرجل ، فهو لا يمكن أن يعمل عمل بولس ، ربما كان بولس يكلفه بهذا أو ذاك من الأعمال فى مدينة روما ، وكان بولس سجيناً ، وكان هو يستطيع أن ينوب عنه فى كثير من الأعمال ، ولكن بولس رفعه مع ذلك فى رقة بالغة وتقدير عظيم بقوله : « العامل معى » ، .. والعمل المسيحى ليس للقادة أو الأبطال أو الجبابرة أو ما أشبه ممن يأخذون الصفوف الأولى فى الخدمة فقد يكون فى آخر الصفوف من يقوم بالعمل الذى لا يمكن أن تقدره الأرض ، ولكن تعرفه السماء جيد المعرفة ... من أروع ما جاء فى مذكرات دكتور غوردون بوسطن قصة فتاة صغيرة اسمها « ونى لويس » ، دخلت عليه ذات يوم ، وكان معه اثنان من شمامسة الكنيسة ، وإذ سألها الدكتور عن الغاية من مجيئها ، أجابت بحياء وخجل بأنها تريد الانضمام إلى عضوية الكنيسة ، فقال لها أحد الشماسين : ولكنك صغيرة لا يمكن انضمامك إلى الكنيسة وعمرك لا يزيد عن ست سنوات فقالت له : كلا ياسيدى إن عمرى تسع سنوات ، فأنا أكبر مما يبدو علىَّ ، ثم توجهت إلى الراعى وقالت له : لقد ذكرت فى عظتك الأسبوع الماضى : أن الحملان يجب أن يكونوا داخل الحظيرة ، فأجابها ببشاشة : نعم ! ثم سألها عدة أسئلة أجابت عنها إجابة واعية مدركة ، فضمها إلى العضوية فى الأسبوع التالى !! .. وبعد فترة قصيرة من الزمن دعى غوردون ليصلى على جثمانها .. وذهب إلى بيتها ليرى عجباً... فهذا الفتى المقعد يبكيها بمرارة لأنها كانت تأتى له وتقدم له كتاباً مصوراً أو تفاحة أو شيئاً آخر وهو سيذهب إلى السماء تابعاً خطواتها المباركة ، ... وهذا ولد صغير مريض اسمه بوب كانت تزوره « ونى » فى مرضه وكان ترنيمها وحده هو الذى يسكته عن البكاء عندما لا يفلح شئ آخر ، ... وكان الجيران يبكونها لأنها كانت دائماً توزع النبذ عليهم وهى تذهب وتجئ، وهذه سيدة كان قد أضلها بعض المهرطقين ، وجاءت بها دموع « ونى » وتوسلاتها !!.. وهذا عم ونى الذى كان بعيداً عن اللّه ، ولكن الحياة القصيرة العظيمة لابنة أخيه ، كسرت قلبه القاسى فجاء إلى يسوع المسيح !! .. لم يخطر ببال دكتور غوردون قط أن أصغر عضو فى كنيسته يمكن أن يستخدمه اللّه بهذه الصورة العجيبة فى الخدمة المقدسة !! .. عندما دعى سبرجن ليصلى على جثمان امرأة عجوز كانت من أعضاء كنيسته ، ولم يكن لها من عمل سوى التطلع إلى الوجوه الغريبة التى كانت تراها فى الكنيسة كل أحد ، .. وكانت تعيش الأسبوع كله ، وهى تصلى لمن يبدو عليه الألم أو البؤس أو الحزن أو الحاجة أو من ينم وجهه عن شدة أو ضيق أو ارتباك !! .. وقال سبرجن عن المرأة وهو يتحدث عنها إنها كانت « أفضل مساعدة » لى ... كان أبفرودتس أحد العاملين والمساعدين الذين عملوا مع بولس وشاركوه خدمته ! إن العمل المسيحى واجب على كل مسيحى أن يقوم به ، إذ ليس فى المسيحية مكان للكسول أو العاطل أو المتفرج أو المتعلل بالنظريات الفلسفية دون مشاركة حقيقية فى الخدمة ... كان البرت شويتزر الطبيب الذى ذهب إلى أفريقيا ، وهو يحمل أعلى الشهادات العلمية ، يحفر بيديه أساس المستشفى الذى أقامه هناك ، وسأل غلاماً أفريقياً كان يتفرج عليه ، أن يأتى ويساعده ، ورفض الغلام بكبرياء وقال : أنا متعلم . ولم يكن يعلم أنه يكلم واحداً من أعظم حائزى الشهادات العلمية فى أوربا والغرب !! .. وما أكثر الذين يفعلون فعل الغلام تجاه العمل العظيم فى الخدمة المسيحية!! .. على أن الأمر كان عند أبفرودتس أكثر من ذلك ، إذ دعاه بولس « المتجند معى » ... إنه يقف مع بولس على خط واحد من نيران المعركة ولهيبها المتقد ، ... أو فى عبارة أخرى ، إن العمل المسيحى هو عمل الجندى فى المعركة ، ... وكما أن لقوات الظلام جنودها وجيوشها فكذلك أيضاً لقوات الحق والبر والنور والسلام ، والجيوش المسيحية فيها الضباط على مختلف عملهم ورتبهم، وفيها الجنود أيضاً ، ... ولكل واحد نصيبه فى المعارك إلى الدرجة التى يقول معها الرسول لتلميذه تيموثاوس : « فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح » ( 2 تى 2 : 3 ) .. والجندية ليست نوعاً من الترف أو التطوع ، بل هى الضرورة الموضوعة على كل مسيحى ، والتى تستلزم منه أعلى درجات القوة والحماس واليقظة والجهد، وهى ليست مرهونة بساعات فى اليوم ، كما يفعل الموظفون ، وبعدها يعودون إلى بيوتهم دون أن يلتزموا بما هو أكثر من ذلك وهى ليست تكليفاً بجهد محدود يمكن أن يتوقف عنده المرء ولا مزيد عليه ، إنها الجهد فى كل مكان وزمان ، وهو الجهد الذى لا ينتهى إلا بنهاية الحياة نفسها ، وهو الجهد الذى لا يتراجع أمام صعوبة أو قسوة أو مرض أو تعب أو خطر أو موت !! .. ولعلنا نستطيع فهم ذلك عندما نذكر ما قيل عن أبفرودتس : « لأنه من أجل عمل المسيح قارب الموت مخاطراً بنفسه لكى يجبر نقصان خدمتكم لى » ( فى 2 : 30 ) .. وبعض الترجمات ترجمت « مخاطراً » « مغامراً » .. وسواء كان الأمر مخاطرة أم مغامرة ، فهى تشير إلى النفس التى تقدم على أخطر الأعمال دون حساب للحياة أو الموت ، فإن عاش فهو فضل من اللّه ، وإن مات فهو مجد عظيم فى خدمة السيد ،.. كان أبفرودتس صورة رائعة لجنود المسيح وأبطاله ، الذين يغنون فى أقسى الظروف ، ويهتفون فى أرهب المعارك ، ويتقدمون بشجاعة عندما تتراجع أصلب الأعواد ، وما أكثر من عرفت روما قديماً منهم فى ساعات الشهادة والاستشهاد !! .. ولقد حدث أن أربعين جندياً فى أوائل التاريخ المسيحى اعتنقوا المسيحية فى عاصمة الرومان ، وإذ سمع الإمبراطور، حكم بالنفى عليهم إلى شمال إيطاليا ، فى بقعة من أسوأ البقاع وأقساها ، ومنحوا أربعاً وعشرين ساعة أن يرجعوا عن عقيدتهم وإلا تم نفيهم ، وأوكلت حراستهم لأحد الضباط ، وفى هدوء الليل استمع الضابط الحارس إلى أصوات تحملها الريح إليه ، وإذ ذهب رأى هؤلاء يصلون إلى السيد أن يعطيهم شجاعة وانتصاراً على ما يتهددهم به الإمبراطور ، وكانت صلواتهم حارة قوية جعلت الضابط يتعجب لأولئك الذين يرفضون أمر الإمبراطور لأجل سيدهم ، .. وفى الصباح جاء إلى الضابط واحد فقط من الأربعين وقال له : لقد رجعت عن إيمانى . فسأله : هل أنت الوحيد بينهم الذى فعل هذا !! .. قال : نعم ! . وإذا بالضابط يخلع ثيابه ويقدمها للرجل قائلاً : سآخذ أنا مكانك مع هؤلاء !! .. كم كشفت المسيحية عن أبطال امتلأوا بالقوة والجسارة ، وكان أبفرودتس واحداً منهم !! .. ومع أننا نلاحظ أن أبفرودتس أجهد نفسه فى الخدمة ، وعلى الأغلب كان ذلك لمساعدة بولس فى هذا أو ذاك من الخدمات الخاصة ، أو العامة ، وقد بلغ به الجهد أقصاه حتى سقط مريضاً ، واقترب به المرض من خط الموت ، ومع أن أبفرودتس كان محباً عظيماً لبولس ، ... لكنه كان يقوم على الخدمة لغرض أسمى وأعلى وأبعد ، لا من أجل بولس مهما كان حبه له ، بل من أجل عمل المسيح ... ومن أجل المسيح ، يحلو الجهاد ، ويحلو الاستشهاد !! .. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أي نوع من الرجال كان أبفرودتس |
أبفرودتس |
أبفرودتس |
أبفرودتس وإنكار الذات |
أبفرودتس مريضًا |