أبفراس
" يسلم عليكم ابفراس الذى هو منكم
عبد للمسيح مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات"
(كو 4 : 12)
مقدمة
وصف أحدهم الكنيسة التى يريدها فقال : هذه هى كنيسة أحلامى ، الكنيسة المقتدره على الواجب ، الكنيسة الحارة القلب ، المفتوحة الذهن ، ذات الروح الجسور ، الكنيسة التى تهتم ، الكنيسة التى تشفى الحياة المريضة ، والتى تعزى الأشياخ ، والتى تتحدى الأحداث والشباب ،... والتى لا تعرف تفرقة لثقافة أو جنس ، ... ليس فيها فواصل جغرافية أو اجتماعية ، ... الكنيسة التى تطلب وتدفع ، تنظر إلى الأمام كما تنظر للخلف ، كنيسة السيد ، وكنيسة الشعب أيضاً ، ... الكنيسة المرتفعة ، والكنيسة العريضة ، والكنيسة المنخفضة مرتفعة كمبادئ المسيح ، منخفضة كاتضاع البشر ، كنيسة عاملة ، كنيسة جذابة ، كنيسة تفسر الحق بعبارات الحق ، وتوحى بالشجاعة لهذه الحياة والرجاء للحياة الآتية ، كنيسة شجاعة ، كنيسة الناس الأبرار ، كنيسة اللّه الحى !! ... وإذا كنا لا نعرف مثل هذا الرجل الحالم بالكنيسة العظيمة المثالية ، إلا أن الدراسة التى نحن بصددها تؤكد لنا أن أبفراس عاش طوال حياته بأفكاره وأحلامه وآماله وآلامه ونضاله، لأجل شئ واحد ، لأجل كنيسة المسيح فى الأرض ، ... وعند ما تذكر أبفراس اذكر الكنيسة ، وعندما تفكر فى الكنيسة فى أوضاعها المختلفة لا تنس أن تذكر أبفراس ، فأبفراس والكنيسة لم يكفا ولا يمكن أن يكونا منفصلين متباعدين أحدهما عن الآخر ، بل هما كيان مندمج متلاحم متحد فى الواحد الذى هو يسوع المسيح ، ... ومن الغريب ، أن غالبية الناس لا يستطيعون أن يدركوا هذه الصورة لأبفراس ، مع ما فيها من جلاء ووضوح ! .. ويهمنا لذلك أن نتابع القصة فيما يلى:
أبفراس مؤسس الكنائس
يقول الرسول بولس فى مطلع الرسالة إلى كولوسى عن الإنجيل : « الذى قد حضر إليكم كما فى كل العالم أيضاً وهو مثمر كما فيكم أيضاً منذ يوم سمعتم وعرفتم نعمة اللّه بالحقيقة . كما تعلمتم أيضـاً من أبفراس العبد الحبيب معنا الذى هو خادم أمين للمسيح لأجلكم » ( كو 1 : 6 ، 7).. وقد شجع هذا الشراح على اليقين بأن كنيسة كولوسى هى ثمر خدمة أبفراس الذى جند نفسه لإنشائها وتأسيسها ، بل يبدو أنه أنشأ أيضاً كنيستى لاودكيه وهيرابوليس إذ يقول الرسول عنه : « فإنى أشهد فيه أن له غيرة كثيرة لأجلكم ولأجل الذين فى لاودكية والذين فى هيرابوليس » (كو 4 : 13) .
لكل إنسان هواية ما تستولي عليه وتملأ حياته وفراغه وعمره ، فتصرفه بقصد أو بغير قصد عن سائر الهوايات الأخرى ، فإذا كان يهوى المال ويعبده ، فهو يعيش ويكد ويموت ، وقبلته الذهب ، وإذا كان عبداً للجاه والمنصب ، فهو يحارب ويقاتل ويحيا باحثاً عن المركز الأول ، وهو كما يقول ملتون عن الشيطان يرغب أن يكون الأول فى جهنم ولا يرغب أن يكون الأخير فى السماء ، ... وإذا انصرف بحياته إلى عادة أو غواية ما ، فهو يرى الحياة كلها ، ولا شئ غيرها فى هذه الهواية أو الغواية التى استحوذت عليه ، ولنضرب مثلا من اختبارات شاب كان يهوى الملاكمة ، وأصبح واحداً من أبطالها العالميين ، وسجل اختباراته قائلاً : لقد بدأت حياتى دون أن أهتم بالدين ، وعشت حتى الرابعة عشرة من عمرى ، ولم أسمع شيئاً قط عن الكتاب المقدس ، وكنت أجهل كل شئ عن وجوده ورسالته ، وبما أنى كنت لا أعرف اللّه ، واستيقظ فى قلبى عطش إلى الحياة والسعادة ، حاولت أن أروى هذا العطش بالانكباب كلية على ميادين الألعاب الرياضية متوهماً أنى عندما أصبح بطلاً رياضياً ستصفق لى الجموع ، وتعجب بى الجماهير ، ويسيل المال بين يدى سيلا ، ... وبدأت أتمرن على سباق الدراجات ، ثم أخذت أمارس الملاكمة ، .. وكملاكم مقتدر نلت إعجاب أصدقائى ، ولكن رغم نجاحى فى فن الملاكمة، فإن قلبى ظل غير مكتف فهو على الدوام يطلب المزيد ، بل شعرت فى الحقيقة ببطلان المجد العالمى الذى يذبل ويضمحل وبتعاسة الحصول على المال الذى يبهر ويخدع ، ... وإذ أخذت أعد نفسى لفتوحات جديدة لأصل إلى أهداف أعلى ، وقف اللّه أمامى ليكشف لى الطريق إلى ينبوع السعادة الصحيحة الوحيدة فى الحياة ، كان ذلك عندما بلغت العشرين من العمر ، وتوقفت عند باب إحدى الكنائس التى عرفت فيما بعد أنها إنجيلية ، وقد كُتب هذا الإعلان .. «أجرة الخطية هى موت وأما هبة اللّه فهى حياة أبدية فى المسيح يسوع ربنا » وعلى مقربة منها: إن ساعة الموت ستدق دون أدنى شك لكل إنسان ، وأما ساعة الحياة فإنها ستدق فقط للذين يؤمنون بالرب يسوع !! .. استهوانى الإعلان وأخذ بمجامع قلبى ، وإذ تبينت أن اجتماعاً سيعقد فى الليلة التالية ، كنت على أشد الرغبة فى أن أعرف المزيد عن الموضوع ، ولم ألبث أن أخبرت أربعة من أصدقائى ، وكان اثنان منهما ملاكمين ، واستمعنا فى اليوم التالى لأول مرة لرسالة الإنجيل المباركة ، وما لبثت أن تجددت مع صديقى الملاكمين وهجرنا الألعاب الرياضية، واتجهنا إلى الإنجيل بكل شغف ، وإذ قرأت حديث المسيح للسامرية : « كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد.. » ( يو 4 : 13 ، 14 ) وكان هذا القول أعظم إعلان لقلبى االظمآن ، فالبئر التى جلست عليها السامرية تمثل العالم حيث يستقى البشر لكى يرووا عطشهم ، ومنه استقيت أنا سنين عديدة ، أما الماء الذى يعطيه المسيح فهو حياته الإلهية الأبدية ... وإذ قرأت : « مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ » ( أع 20 : 35 ) لم أكن أعلم أنى أتمم هذا دون أن أدرى فى حلبة الملاكمة ، ... لكننى أحسست وأنا أنتقل إلى الحلقة الروحية أن هناك ميدانى الصحيح ، فأختبر عطاء العشور للّه ، ثم ازداد عندى الإحساس بأنى يلزم أن أقدم نفسى وذاتى كلية ، ... فأعطيت حياتى ووقتى كله للكرازة بالإنجيل فى وطنى وخارج وطنى وأدركت صدق قول المسيح : « من أراد أن يخلص نفسه يهلكها . ومن يهلك نفسه من أجلى ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها » ( مر 8 : 35 ) . إن كل الأمجاد البشرية تتضاءل وتضمحل ، « أما المجد السماوى والأفراح التى ينفحنا بها الإنجيل فإنها تبقى إلى الأبد » ... نحن لا نعلم ما الذى كان يستهوى أبفراس قبل أن ينال الحياة الجديدة ، وما هى الرغبة أو الرغبات التى كانت تأخذ بجماع قلبه ، لكننا نعلم بكل يقين أن الكرازة بالإنجيل وربح النفوس وتأسيس الكنائس كانت حلمه وهمه وشغله الشاغل ليل نهار فى كولوسى ولاودكية وهيرابوليس وفى روما وفى غيرها من الأماكن ، ... وهو يذكرنا برجلين عاشا فى الهند ثلاثين عاماً ، وقال الأول لقد عشت هذه السنوات وأنا أصطاد النمور ، وقال الثانى وكان مرسلاً: وأنا عشت فى الهند هذه السنوات أيضاً دون أن أرى نمراً واحداً !! .. كان أبفراس الخادم الذى لا ينى أو يكل عن بناء الكنيسة روحياً ومادياً ، وكان عرقه المتصبب فى الخدمـــــة نهراً ينبع من حبه لسيده وخدمته لكنيسته ... !
أبفراس المتألم
على أن القصة تكشف لنا عن وجه آخر من حياة أبفراس إذ هو الإنسان المتألم العميق الألم ، ولعله سافر من كولوسى إلى روما ، وهو لا يريد أن يغيب لحظة واحدة عن مدينته بالنسبة للأخطار التى تحف بالكنيسة هناك ، والتى يلزم دفعها ومكافحتها ، ولكنه ربما ذهب ليتعلم من بولس كيف يواجهها ويعالجها،... لقد دخل الهراطقة إلى الكنيسة فى كولوسى ، وامتلأت لاودكيه بالفتور الروحى ، وتسلل العالم إلى دااخل الكنيسة ، وهو يحتاج إلى بولس لكى يرشده ويسنده . وأغلب الظن أنه دخل على بولس فى سجنه ، وأبصره الرجل وقد استولى عليه الحزن العميق والهم القاتل ، ... وإذ استفسر عما يعانى حدثه عن هذين الخطرين اللذين يعصفان بقلبه عصفاً ، وكتب بولس ، وقد ثار هو أيضاً لهذه الهرطقات : « فإنى أريد أن تعلموا أى جهاد لى لأجلكم ولأجل الذين فى لاودكية وجميع الذين لم يروا وجهى فى الجسد .. انظروا أن لا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة وبغرور باطل حسب تقليد الناس حسب أركان العالم وليس حسب المسيح ، فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ... فلا يحكم عليكم أحد فى أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت ، التى هى ظل الأمور العتيدة وأما الجسد فللمسيح . لا يخسركم أحد الجعالة راغباً فى التواضع وعبادة الملائكة متداخلاً فى ما لم ينظره منتفخاً باطلاً من قبل ذهنه الجسدى وغير متمسك بالرأس الذى منه كل الجسد بمفاصل وربط متوازراً ومقترناً ينمو نمواً من اللّه . إذاً إن كنتم قد متم مع المسيح عن أركان العالم فلماذا كأنكم عائشون فى العالم تفرض عليكم فرائض لا تمس ولا تذق ولا تجس التى هى جميعها للفناء فى الاستعمال حسب وصايا وتعاليم الناس التى لها حكاية حكمة بعبادة نافلة وتواضع وقهر الجسد ليس بقيمة ما من جهة إشباع البشرية ( كو 2 : 1 ، 8 ، 9 ، 16 - 23 ) ... وأظننا لا ننسى ما جاء فيما بعد من توبيخ فى سفر الرؤيا لملاك كنيسة لاودكية لتسرب الروح العالمية القاتلة إلى الكنيسة !! .. ولا شئ أقسى على الخادم الأمين من تسرب الهرطقات أو الروح العالية داخل الكنيسة ... فى كتاب السيف والمعركة والذى يصور حال الكنيسة أمام مارتن لوثر يقول أحد الرهبان الذين استناروا بكلمة اللّه وامتلأ بالحزن والغم ، لآخر كان قد وضع فى السجن لأنه ندد بالفساد : « إن لى هنا كما أخبرتك أكثر من أربعين عاماً ، ومع أنى لا أعرف كثيراً من أحوال العالم إلا أنى أرى أشياء غريبة ، لا سبيل إلى نكرانها ، ولا سبيل إلى كتمانها ، ... لقد رأيت حياة الكثيرين من الأخوة ، وبكيت فى السر كثيراً ، أيها السيد الشاب : إن الكنيسة ممتلئة بالفساد . ممتلئة بالعقائد الكاذبة ، وممتلئة بالأضاليل ، ولقد قيل إن عينى لوثر فتحت بقراءة كلمة اللّه ، وأنا أيضاً أقرأ كلمة اللّه ، لقد قرأت الإنجيل المبارك مرات ومرات وليس فقط لكى أتعلم كلمات الرب بل لكى أرى ما إذا كانت الكنيسة تسير وفق مشيئته ... وماذا رأيت ؟! . لم أر إلا شبهاً ضئيلا بين الكنيسة كما أشاهدها وبين حياة وتعاليم سيدنا ، وليغفر اللّه لى إن كنت مخطئاً ، لكنى أتكلم بما أحس به ، إنها نار تتلظى بين جوانحى ولا أستطيع السكوت !! .. هنا مثلا رئيس أساقفتنا أمير ، متلاف ، عالمى لا يعنى قط بنفوس الناس ، والأساقفة كلهم ، إلا النادر منهم ، لا يهتمون إلا بالمال واللهو والمجد العالمى ، ... لم تعد الكنيسة مسكناً ليسوع الوديع المتواضع ، بل أضحت مؤسسة كبيرة فاسدة ... الخطايا الحقيقية يغض الطرف عنها ، والأمور الصغيرة البريئة ينظر إليها كخطايا ، إن من يرتكب الفسق والفجور يمكن أن تغفر له خطاياه ، أما أن يفكر الإنسان فهذا ذنب لا يغتفر، وأن يسأل هذا أو ذاك أسئلة عن المعتقدات فأبواب الجحيم تفتح له . لو أن مارتن لوثر عاش حياة مستبيحة ، لو أنه سكر أو فتح خاناً للمعربدين لما حدث له شئ ، ولم تنسب له فضائح وعيوب ، أما أن يقف ضد تجارة فاسدة كتجارة صكوك الغفران ، فالرهبان يجأرون ضده حتى تبح أصواتهم ، والأساقفة يلعنونه ، ورؤساء الأديرة ينعتونه بأشر النعوت !!.. وهل يمكن أن يستريح أبفراس ويهدأ لحظة واحدة وهو يرى الهرطقة والفساد ينخران فى الكنيسة ، كما ينخر السوس فى العظام !! ..
أبفراس المصلى
من العجيب أن أبفراس وهو يكافح الهرطقة والفساد ، كانت معركته الأولى ، وصراعه الأعظم ، مع اللّه ، وليس مع الناس ، إذ كان هذا الرجل يؤمن إلى أبعد الحدود بقوة الصلاة ، ... وكان يؤمن أن الجهاد الحقيقى ليس بين الإنسان والإنسان ، بل بين الإنسان واللّه ، وأن يعقوب عندما أراد أن يكسب معركته مع عيسو صارع مع اللّه وغلب ، وأن نحميا عندما واجه الصعاب القاسية وهو يفكر فى مدينته المحبوبة ، وهو مكمد الوجه أمام الملك ، والملك يسأله : « لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض . ما هذا إلا كآبة قلب . » ( نح 2 : 2 ) .. تحول فى الحال من الملك الأرضى إلى الملك السماوى وهو يجيب ، فصلى إلى إله السماء ، ومع أن أبفراس ترك كولوسى ولاودكية وذهب إلى روما ليلتقى ببولس هناك ، إلا أنه فى عاصمة الرومان ، لمن يكن قلبه أو عينه أو عاطفته متجهة إلى مناظر روما الخلابة ، لأنه كان منصرفاً كل الانصراف بجهده وكيانه ومشاعره وصلواته إلى ما يحدث فى كولوسى ولاودكية وهيرابوليس : « مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات لكى تثبتوا كاملين وممتلئين فى كل مشيئة اللّه » ( كو 4 : 12 ) .. قال أحدهم : إن أرشميدس لما اكتشف قانون العتلة قال أعطنى عتلة ومكاناً أركزها عليه وأنا أرفع الأرض . وهذه العتلة بالنسبة للمؤمن هى الصلاة التى إذا ما وجهت نحو اللّه وارتكزت فى السماء تستطيع أن تنقل الأرض إلى السماء ، وتحيل الأفكار الأرضية أوامر سماوية ، وتحول الجسد إلى روح ، والطبيعة الجسدية إلى طبيعة روحية ، والأرض إلى سماء !! .م.. وكان الربيون يعلمون بوجوب الإقلال من الصلاة لئلا يتعب المولى من كثرتها ، وأما السيد المسيح فيقول : « ينبغى أن يصلى كل حين ولا يمل » !! ( لو 18 : 1 ) والصلاة المصارعة المثابرة تنتصر أخيراً ، إذ قد يتمهل اللّه على أولاده ، وفى تمهله بركات ، ولكنه لا يترك أولاده بل سينصفهم سريعاً ، .. وقال الكردينال نيومان : من لا يصلى يسقط حقه المدنى فى السماء ، وقد يكون من ورثة الملكوت ولكنه يعيش كما لو كان طفلا على الأرض !! .. فإذا تصور أحد أن اللّه لا يسمع الصلاة ، لأنه لا يجيب عندما نطلبه لأول مرة ، يكون تفكيره مضاداً للكتاب المقدس والاختبار ، لقد جاهد يعقوب ليلة بكاملها ، وصلى دانيال وصام ثلاثة أسابيع ، وصرف يسوع الليل كله فى الصلاة ، وصلى دانيال وصام ثلاثة أسابيع ، وصرف يسوع الليل كله فى الصلاة ، وصلى التلاميذ عشرة أيام قبل حلول يوم الخمسين ، وصلى جورج مولر فنال بالصلاة خمسة ملايين دولار ، وشهد بأنه فى بعض الأشياء لم ينل الإجابة قبل مرور عشرين سنة !! .. وشبه أحدهم الصلاة الحية بالسهم إذ قال : إذا جذبت السهم قليلا فإنه لا يندفع إلا مسافة قليلة ، أما إذا جذبته لآخره فإنه ينطلق إلى مسافة بعيدة ، هكذا الحال مع صلواتنا إذا ألقيت من شفاه غير مكترثة فإنها لا تلبث أن تسقط تحت أقدامنا . فإن لجاجتنا وعمق صراخنا وشدة أشواقنا هى التى ترسل أصواتنا إلى السماء وتجعلها تخترق طبقات السحب .. إن اللّه لا يهتم فى صلواتنا بحسابها وكم عددها ، ولا ببيانها وما مقدار فصاحتها ، ولا بهندستها وكم طولها ، ولا بموسيقاها وبعلو أصواتنا فيها ، ولا بمنطقها وما مقدار حجمها ، ولا بنظامها وكيفية ترتيبها ، كل هذه قد توجد مع الصلاة ومع ذلك تكون بلا فائدة ، إذ لا يغنى شئ عن قوة حرارتهـــا فى صعودها إلى اللّه!!..
يقول الرسول عن أبفراس : « مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات » وهو يكشف بذلك عن الرجل الراكع على ركبتيه أو المنبطح على وجهه ، طوال النهار والليل يصارع من أجل الكنيسة التى أحبها والتى يقوم بالخدمة فيها ، ... وهو يصلح بذلك أن يكون نموذجاً للخادم الأمين الناجح فى الصلاة ، والذى يعطيها المكان الأول فى الخدمة ... وهناك نماذج ممتازة كثيرة ذكرها أ.م. باوندز فى كتابه العظيم عن قوة الصلاة ، والذى ترجم فيما أعلم إلى العربية ، ويحسن بكل مؤمن وخادم أن يقرأه ليرى أثر الصلاة وفاعليتها فى حياة المؤمنين والكنيسة ، ... وقد قال عن أبطال الصلاة الكثير!!.. كان تشارلس سيمون يكرس من الرابعة صباحاً إلى الثامنة للصلاة أمام اللّه ، وكان ويسلى يستيقظ فى الرابعة ويقضى ساعتين مع اللّه ، وقد وصفه أحد عارفيه بالقول : إنه كان يعتقد أن الصلاة هى أعظم شئ عنده ، وأكثرها أهمية ، وقد رأيته يخرج من مخدعه يشع منه الصفاء !! .. وكان جون فيلتشر يرطب جدران غرفته بنسمات صلواته ، وكان يقضى فى بعض الأحايين الليل كله فى الصلاة ، بحماس ، وغيرة ، وقوة ، ... لقد كانت حياته كلها صلاة ، وهو لا ينهض من مقعده دون أن يرفع قلبه إلى اللّه !! .. وكان لوثر يقول : إذا فشلت فى أن أقضى ساعتين فى الصلاة كل صباح ، فسينتصر الشيطان علىّ طوال اليوم ، إن عندى من الأعمال الكثيرة ، مالا أستطيع إنجازه دون أن أقضى ثلاث ساعات فى الصلاة ! .. والأسقف أسبرى كان ينهض فى الرابعة ليقضى ساعتين فى الصلاة والتأمل ... وصموئيل رزرفورد كان يعيش فى غنى الشركة ثلاث ساعات فى الصباح ، وكتب قديس اسكتلندا العظيم روبرت مارى مكشين : « يلزم أن أصرف أفضل ساعاتى مع اللّه ، .. وهى أنبل عمل أقوم به وأكثر أثماراً ، ولا يمكن أن استغنى عن ذلك ، إن ساعات الصباح من السادسة إلى الثامنة هى أفضل اللحظات الهادئة التى ينبغى أن أقتنصها دون إزعاج ، وبعد الشاى ، أخصص ساعة أصرفها مع اللّه ، .. وفى المساء لا يجوز أن أطرح عادتى القديمة المفضلة عادة الصلاة قبل النوم ، وعندما استيقظ فى الليل يلزم أن أنهض وأصلى » .. ومما يؤثر عن جون ولش أنه كان يقضى يومياً ثمانى ساعات فى الصلاة ، وقد اشتكت زوجته إذ رأته منطرحاً على الأرض يبكى فأجابها : يا امرأة !! إن فى عنقى ثلاثة الآف نفس - سأسأل عنهم ولا أعرف كيف يكون الجواب !!
ابفراس المعلم
لم تكن الصلاة هى الشئ الوحيد الذى واجه به أبفراس الهرطقات والتعاليم الكاذبة والمفاسد ، لقد دفعته غيرته إلى أن يذهب إلى بولس يسأله المشورة والرأى والنصيحة ، وعاد من عند الرجل ومعه تيخيكس وأنسيمس ورسالة كولوسى وما تحمل من تعاليم وعقائد لمواجهة الهرطقة والأكاذيب والأضاليل ، وأدرك أبفراس أن التعليم العقائدى من أهم الضرورات وألزمها للكنيسة المسيحية ، وأنه ليس هناك ما يمكن أن يطرد خفافيش الظلام أفضل من أن ترسل الضوء القوى الهادئ ، والرسول بولس يملأ رسالته إلى أهل كولوسى بالعقائد فى حب وحزم ، فهو وإن كان قد هاله تسلل بعض الهرطقات إلى كنيسة كولوسى ، إلا أنه بدأ الحديث معهم دون أن تتبدد ثقته فيهم إذ قال : « كما تعلمتم أيضاً من أبفراس العبد الحبيب معنا الذى هو خادم أمين للمسيح لأجلكم . الذى أخبرنا أيضاً بمحبتكم فى الروح . من أجل ذلك نحن أيضاً منذ يوم سمعنا لم نزل مصلين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته فى كل كلمة وفهم روحى ، لتسلكوا كما يحق للرب فى كل رضى مثمرين فى كل عمل صالح ونامين فى معرفة اللّه متقوين بكل قوة بحسب قدرة مجده لكل صبر وطل أناة بفرح » ( كو 1 : 7 - 11 ) .. والمبدأ الأساسى عند بولس فى أية أحاديث هو أن تتم فى جو الحب والثقة ، دون التحول إلى المجادلات السخيفة الغبية !! .. وهو لابد أن يكسب أذن الكولوسيين وثقتهم ، ويبحث عن الجانب المنير فيهم ، قبل أن يحذر أو يوبخ أو يندد بشئ ما ، وهو يقبل التسامح ، لكنه لا يقبل التساهل ، وهو يتسامح فى غير الجوهريات ، ويبدو غاية فى المرونة فيها ، لكنه لا يتحول قيد أنملة عن الحق فيتساهل فى الجوهريات ، فإذا جاء أحد ليضللهم عن مركز المسيح ولاهوته ، فهو هنا يبدو أصلب من الصليب نفسه ، .. وإذا أراد أحد أن يتحول بهم إلى عبادة الملائكة بدعوى التواضع ، فهو لا يتردد بأن يذكرهم بأن فى ذلك ضياع لهدفهم ، وهو يقول لهم : « لا يخسركم أحد الجعالة » ... ولعل أبفراس عاد من رحلته وهو يحمل معه هذه الروح يكافح بها الهرطقات والشرور الذى يحاول الشيطان أن يدخلها إلى الكنيسة بهذه الصورة أو تلك ، ... وليت هذا يكون سبيلنا على الدوام فى التعليم العقائدى ، الذى يقع فى العادة بين غلطتين أساسيتين فى الكنيسة المسيحية ، فهناك كنائس لا تهتم بتعليم العقائد ، وهى تظن أن هذا التعليم يثير الجدل والمشاحنات والمتاعب ، والتى يحسن فى تصورهم الاستغناء عنها ، وقد تبين فى كل التاريخ أن الكنيسة التى لا تعرف العقيدة الصحيحة هى مهددة على الدوام بالخرافة والضعف والضياع ، وأن المنبر الذى يهجر التعليم العقائدى ، هو المنبر الذى لا يمكن أن يطمئن إلى سلامة الكنيسة ونموها وصمودها أمام الزوابع والعواصف والأعاصير . والعقائد الجوهرية ينبغى أن تلقن لمختلف مراحل الحياة لجميع الأعضاء . على أن الخطأ الآخر المقابل هو أن تتحول الكنيسة إلى المغالاة صباحاً ومساء لا للانشغال بالعقائد الرئيسية الجوهرية فحسب بل بالعقائد الثانوية ، وتعطيها من الاهتمام ما يحجب خدمة ورسالة الخلاص والتعــبد ومفهـــــــوم الحياة المسيحية العملية !! ... ومن الواجب المسيحى أن نقف فى الدفاع عن الجوهريات فى الإيمان المسيحى دون لين أو هوادة .، وفى الوقت عينه لا تعوزنا المرونة فى الأمور الثانوية أو التى لا تتعارض مع الخلاص والحياة المقدسة !!..
وعلى أية حال يبقى أبفراس فى كل الأجيال مثالا رائعاً فى خدمة الكنيسة ، وربح النفوس ، وتحمل المتاعب والمشقات والكفاح من أجلها ، كعبد ليسوع المسيح ، وخادم مخلص أمين،مهما بذل من جهد أو قدم من ثمن أو أعطى من مال ووقت وحياة !!