السجل النصراني للفرات الأوسط
الراهب عبد المسيح بن بقيلة يظهر من جديد
جريدة المستقبل العراقي
كاظم فنجان الحمامي
تشعب العرب في دياناتهم قبل الإسلام, فاختاروا الديانات المسيحية واليهودية والصابئية والوثنية, ومنهم من ظل متمسكاً بمذهب التوحيد حنيفاً مؤمنا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد على ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام. .
وتميزت أرض الرافدين في القرون الميلادية الأولى باحتضانها الكنائس والأديرة المسيحية من نينوى إلى البصرة, فتركت بصماتها الأثرية شامخة فوق الأرض كشواهد حية لحضارة الميزوبوتاميا, بيد أن أغلب الناس لا يعلمون أن مثلث الفرات الأوسط المحصور بين الكوفة والنجف والحيرة, ضم في العصور القديمة حوالي (33) موقعا أثريا للكنائس والأديرة, التي كانت تدين بالديانة النصرانية النسطورية على مذهب القديس (نسطوريوس Nestorius) المتوفى سنة (450) ميلادية,
ولا يعلمون ان الراهب العربي عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة ولد في الحيرة وعاش فيها ودفن في الكوفة وكان عمره عند وفاته (350) عاماً, وهو من أحكم حكماء العراق في زمانه, وله مواقف وحكايات طريفة ظلت تتناقلها المجالس الأدبية والفلسفية حتى يومنا هذا, لذا ستقتصر جولتنا هذه على زيارة المواقع القديمة للكنائس والأديرة النصرانية في النجف والحيرة والكوفة, وسنتعرف من خلالها على بعض المواقف الفكرية والسياسية للراهب الكبير عبد المسيح بن بقيلة. .
كنائس الكوفة وأديرة الحيرة
كان المسيحيون يتخذون من ظاهر الحيرة ملاذا لهم, يختلون فيه للتعبد, فبنوا كنائسهم ومعابدهم في بحر النجف, وثبتوا أركانها وأسوارها وجدرانها بالآجر والمرمر والجص والقرميد والحجر, وطوقوها بالأسوار الحصينة الشاهقة, حتى زاد عددها على (33) كنيسة. .
نذكر منها كنيسة (عاقولا), وكنيسة (هند الصغرى) على خندق الكوفة بمحاذاة نهر (كري سعدة), ودير (هند الكبرى) قرب أطلال قصر الخورنق, ودير (الأساقف), ودير (أبن مزعوق), ودير (الأعور), ودير (بيعة المزعوق), ودير (ابن براق), ودير (الأبلج), ودير (ابن وضاح) المعروف بدير (مار عبدا معري), ودير (أذرمانج), ودير (أبي موسى), ودير (بني صرينار), ودير (بني مرينا), ودير (بونا), ودير (الحريق), ودير (حنا), ودير (الأكيراح), ودير (الحرقة), ودير (الجرعة) المعروف بدير (عبد المسيح بن بقيلة), ودير (الجماجم), ودير (عبد يشوع), ودير (العذارى), ودير (اللجة), ودير (مار فانثون), ودير (الزرنوق), ودير (أم عمرو), ودير (سلسة), ودير (سرجس), ودير (الأسكون), ودير (مارة مريم), التي يصفها أبو الفرج الأصفهاني بهذه الأبيات:
بمارة مريم الكبرى وظل فنائها فقف
بقصر أبي الخصيب المشرف الموفي على النجف
فأكناف الخورنق والسدير ملاعب السلف
إلى النخل المكمم والحمائم فوقه الهتف
وانتشرت الأديرة في بحر النجف, وفي منطقة (الرهيمة), وبين (الحيرة) و(المناذرة), وربما ستكشف لنا التنقيبات المستقبلية المزيد من المواقع الأثرية للكنائس, ومن بين الاكتشافات الحديثة مقبرة مسيحية في ضاحية (أم خشم) تبلغ مساحتها (1416) دونم, تضم رفات العراقيين الذين افنوا أعمارهم على أديم هذه الأرض المباركة الطيبة. .
أشهر الرهبان والقساوسة
ربما كان الراهب عبد المسيح أكثرهم شهرة وأطولهم عمراً, ثم يأتي من بعده القديس (حنا بن يشوع), وهو من القبيلة التي ينتمي إليها النعمان بن المنذر ملك الحيرة, ثم القديس (مار يوحنا هوشاغ), الذي اشترك عام 410 ميلادية في الاجتماع الكنسي بحضور الجاثليق إسحاق, يليه شمعون بن جابر, الذي لعب دوراً كبيراً في بناء الكنائس عام 594 من الميلاد, ويتضح مما تقدم إن المناذرة كانوا على المذهب النسطوري النصراني. وان ملك الحيرة النعمان بن المنذر بن ماء السماء كان نصرانياً داعماً للكنيسة النسطورية في الفرات الأوسط. .
كان المسيحيون المناذرة من خيرة علماء الحساب والطب والمنطق وعلوم الفلك والملاحة, وبرعوا كثيرا في هندسة البناء, ومنهم المعماري الكبير (سنمار), الذي شيد قصر الخورنق. .
آخر الأديرة المكتشفة حديثاً
عثرت دائرة الآثار والتراث في محافظة النجف الأشرف على دير مسيحي يعود للراهب عبد المسيح بن بقيلة على بعد بضعة كيلومترات من الكوفة في موضع يقال له (الجرعة), وظهر من الفحص الموقعي ان العمر التخميني للدير هو (1700) سنة, وهناك من يقدر عمره الافتراضي بنحو 1450 سنة, لكن الثابت لدينا إن نصارى الحيرة هم الذين شيدوه قبل الإسلام, ووجد المنقبون قبر الراهب الحكيم عبد المسيح في مكان ما من الدير, وقد كتب على شاهد قبره عبارة تقول: ((رحم الله عبد المسيح)) باللغة العربية وبالخط الكوفي. .
كانت الكنيسة محصنة بسور رصين عرضه متر ونصف المتر, أقيمت حوله أبراج عالية على قطعة مربعة لا تزيد مساحتها على (3600) متر مربع, على اعتبار ان طول الضلع الواحد (60) متراً, وفيها أربع قاعات كبيرة, وردهة لإيواء الرهبان, وملاحق خدمية, وباحة كبيرة. .
من مواقف الحكيم الراهب
يعد الراهب عبد المسيح بن بقيلة من اكبر المعمرين سناً في عصره بإجماع معظم المؤرخين العرب والأجانب, وقالوا انه بلغ من العمر (360) سنة, وهو ابن أخت سَطِيح كاهن العرب, واسم بقيلة الحقيقي (الحارث) أو (ثعلبة), وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين, فقالوا له: ما أنت إلا بقيلة (تصغير كلمة بقلة من البقوليات الخضراء) فسمي هكذا, وذكر الكلبي وأبو مخنف وغيرهما انه عاش ثلاثمائة وخمسين سنة. .
يحكى أن كسرى رأى في عالم الرؤيا إن إيوانه ارتجس, فسقطت منه أربع عشرة شرفة, فخمدت نارُ فارس, ولم تخمد قبل ذلك بألف سنةِ, ورأى إبلاً صِعاباً تَقودُ خيلا عِراباً, حتى عَبرَتْ دِجلةَ, وانتشرت في بلاد فارس, فجلس كسرى على سرير ملكه, ولبس تاجه, وأرسل إلى النعمان أن ابعث إلي رجلا من العرب يخبرني بما أسأله عنه, فبعث إليه الراهب عبد المسيح, فقال له كسرى: هل عندك علمٌ مما أريدُ أن أسألك عنهُ؟, قال: يسألني الملك, فأخبره كسرى برؤياه, فقال عبد المسيح: علمه عند خال لي يسكن مشارف الشام, يقال له سَطِيحٌ, قال: فاذهب إليه, وسله, فاخبرني بما يخبرك به, فخرج عبد المسيح حتى قدم على سَطِيح, وهو مشرفٌ على الموت, فسلم عليه, فلم يجبه سَطِيحٌ, فأنشد عبد المسيح:
أصمٌ أم يسمعُ غِطَريفُ اليمن
أم فاز فَازلَمَّ به شأوٌ العَنَنْ
يا فاصل الخطةِ أعيتْ منْ ومنْ
إلى آخر القصيدة
فرفع سَطِيحٌ رأسه إليه, وقال: بعثك ملك بني ساسان, لارتجاس الإيوان, وخمود النيران, رأى إبلا صِعابا, تقودُ خيلا عِرابا, قد قطعت دِجلةَ, وانتشرت في بلاد فارس. ثم سكت برهة وقال: يا عبد المسيح, إذا ظهرت التلاوة (إذا نزل القرآن), وغارت بحيرة ساوة, وفاض وادي السماوة, وخرج صاحب الهراوة, فليس الشامُ بالشام, يملك منهم ملوك وملكات, على عدد الشرفات, وكل ما هو آتٍ آت. ثم مات سَطِيح, فقام عبد المسيح من موضعه, وهو يردد هذه الأبيات:
شَمِّرْ فإنك ماضِي الدهرِ شِمِّيرُ
لا يُفزعنكَ تشريدٌ وتغريرُ
فرُبما كان قد أضحوا بمنزِلَةٍ
يَهابُ صولَهُمُ الأسدُ المَهَاصيرُ
إلى آخر القصيدة الطويلة
التحاور مع راهب العرب المستنبطة
ويحكى أن خالد بن الوليد لما نزل بظاهر الحيرة, وتحصن منه أهلها, أرسل إليهم: ابعثوا إلي رجلا من عقلائكم, فبعثوا إليه بعبد المسيح, فأقبل يمشي حتى دنا من خالد.
فقال عبد المسيح: أنعم صباحاً أيها الملك.
قال خالد: قد أغنانا الله عن تحيتك, فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ ؟.
قال عبد المسيح: من ظهر أبي.
قال خالد: فمن أين خرجت ؟.
عبد المسيح: من بطن أمي.
خالد: فعلام أنت ؟.
عبد المسيح: على الأرض.
خالد: ففيم أنت ؟.
عبد المسيح: في ثيابي.
خالد: أتعقل أنت ؟.
عبد المسيح: أي والله وأقيد.
خالد: ابن كم أنت ؟.
عبد المسيح: ابن رجل واحد.
خالد: ما رأيت كاليوم قط, أسألك في شيء وتنحو في غيره.
عبد المسيح: ما أجبتك إلا عما سألت, فاسأل عما بدا لك.
خالد: أعرب أنتم أم نبط ؟.
عبد المسيح: عرب استنبطنا, ونبط استعربنا.
خالد: فحرب أنتم أم سلم ؟.
عبد المسيح: بل سلم.
خالد: فما هذي الحصون ؟.
عبد المسيح: بنيناها للسفيه نحذر منه حتى يجيء الحليم فينهاه.
خالد: كم أتى لك ؟.
عبد المسيح: خمسون وثلاثمائة سنة.
خالد: فما أدركت ؟.
عبد المسيح: أدركت سفن الهند والصين تمخر في هذا البحر (وأشار إلى بحر النجف), ورأيت المرأة تخرج من الحيرة وتضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفاً حتى تأتي الشام, ثم قد أصبحت خراباً يباباً, وذلك دأب الله في العباد والبلاد. ومكث عبد المسيح في ذلك الدير بعدما تصالح مع المسلمين حتى مات, فتعرض الدير للخراب بفعل تقادم الظروف والأيام, فظهر فيه أزج معقود من حجارة, فظنوه كنزاً, فإذا فيه سرير رخام عليه رجل ميت, وعند رأسه لوح مكتوب فيه: ((أنا عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي
ونلت من المنى فوق المزيد
فكافحت الأمور وكافحتني
فلم اخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال في الشرف الثريا
ولكن لا سبيل إلى الخلود
لقد كان بن بقيلة شريفا في الجاهلية, ومن أعيان المناذرة, كثير التفاخر والتباهي بعلومه وحكمته, قال:
لقد بنيت للحدثان بيتاً
لو أن المرء تنفعه الحصون
رفيع الرأس أحوى مشمخراً
لأنواع الرياح به حنين
ختاما يحق لنا أن نعتز ونفتخر بتاريخنا الزاخر بهذه الدرر والانجازات الحضارية الباهرة, التي سطرها أجدادنا العظام في القرون القديمة, ولا بد أن نقف وقفة إجلال واحترام أمام تفوقهم على الأقوام والشعوب الأخرى في العلوم والفنون والآداب, بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. .
ينبغي أن لا نبخس حقوق أشقائنا المسيحيين ودورهم التاريخي المشرف في صناعة هذا المجد الشامخ فوق أرض الميزوبوتاميا المقدسة, وينبغي أن لا يذهب هذا الإرث النفيس في مهب الريح, وأن لا نسمح لذوي النفوس الضعيفة بطمس هذه المواقع الأثرية التي تمثل إحدى الصور المشرقة لمهد الحضارات. . .
|