تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب
صموئيل ثاني 19 - تفسير سفر صموئيل الثاني
عودة داود للمُلك
عقوق أبشالوم ودخول إسرائيل في حرب مع رجال داود سبب جراحات كثيرة على مستوى بعض الشخصيات الهامة كما بين الأسباط وبعضها البعض، فقد انكشفت نية البعض كخونة لداود بينما سقط البعض في الخيانة تحت الضغط... كان أمر رجوع داود إلى المملكة يحتاج إلى حكمة في التصرف ولقاءات هامة...
١. يوآب يخرج داود من حزنه
[١-٨]. ٢. يهوذا يلتقي بداود
[٩-١٥]. ٣. شمعي وصيبا يلتقيان بداود
[١٦-٢٣]. ٤. مفيبوشث يلتقي بداود
[٢٤-٣٠]. ٥. برزلاي يلتقي بداود
[٣١-٤٠]. ٦. ثورة الأسباط على يهوذا
[٤١-٤٢].
١. يوآب يخرج داود من حزنه:
اعتبر يوآب حزن داود المفرط على ابنه العاق أبشالوم إهانة للشعب الذين خاطروا بحياتهم في الحرب من أجله، وكانوا يتوقعون كلمة شكر واحتفالًا بالنصرة بفرح وبهجة. لهذا دخل يوآب إلى الملك ليتحدث معه بلكمات جارحة وفي غير لياقة قائلًا له: "قد أخزيت اليوم وجوه عبيدك منقذي نفسك وأنفس بنيك وبناتك وأنفس نسائك وأنفس سراريك بمحبتك لمبغضيك وبغضك لمحبيك، لأنك أظهرت اليوم أنه ليس لك رؤساء ولاعبيد، لأني علمت اليوم أنه لو كان أبشالوم حيًا وكلنا اليوم موتى لحسن حينئذ الأمر في عينيك".
بالغ يوآب في الحديث عندما ذكر أن داود أحب مبغضيه لأنه لو انتصر أبشالوم لقتل داود وبنيه ونساءه ورجاله خاصة الجبابرة كيوآب، لكن داود لم يبغض محبيه كما ادعى يوآب.
في جسارة طلب يوآب من الملك قائلًا: "قم واخرج وطيب قلوب عبيدك" [٧]. لقد خشى أن يتركه الكل ويطلبوا ملكًا آخر لأنه فضل ابنه العاق عن كل رجاله، فيحل الشر بداود.
لسنا ننكر رقة مشاعر داود مع الجميع خاصة ابنه أبشالوم، لكن كان يليق به أن يتخطى العلاقات الشخصية والعائليه من أجل حبه ورعايته للشعب؛ حزنه الشديد على ابنه العاق حطم نفسية رجاله، لأنهم ما كانوا يتوقعون منه ذلك. على أية الأحوال، أراد الكتاب المقدس أن يبرز أنه يصعب على الإنسان التخلص من الجوانب الشخصية وأثر العلاقات الأسرية حتى بالنسبة لكبار الأنبياء والقديسين.
٢. يهوذا يلتقي بداود:
صار الموقف مربكًا فكل الأسباط تذكر دور داود منذ صباه في الدفاع عنهم أيام شاول الملك، وكيف قابل عداوة شاول بالسماحة، وأيضًا خدمته الناجحة كملك. ومع هذا إذ ثار عليه ابنه وانضم إليه كثيرون حزن على موت ابنه العاق... والآن مات أبشالوم وصاروا بلا ملك، ولا يعرفون ماذا يفعلون خاصة سبط يهوذا الذي كان يساند أبشالوم في فتنته وخشوا نقمة داود منهم.
أرسل داود الكاهنين صادوق وأبيأثار إلى يهوذا ليسرعوا إلى داود، يعلنون خضوعهم له. لكي لا يتحرجوا من الموقف ذكَّرهم داود أنهم إخوته من عظمه ولحمه كما أرسال إلى عماسا رئيس جيش أبشالوم ليعده بأن يقيمه رئيسًا على الجيش عوض يوآب لكي يكسب الشعب الذي تعلق بأبشالوم، ومن جانب آخر ربما أراد أن يستريح من يوآب الذي قتل أبنير وأبشالوم وتحدث بخشونة مع داود، لأنه يحمل ذلة على داود بخصوص قتل أوريا الحثي.
بالفعل جاء داود إلى الأردن بينما جاء رجال يهوذا إلى الجلجال (بين أريحا والأردن) لملاقاة الملك وحراسته أثناء عبوره الأردن.
كان داود حكيمًا في إرساليته هذه ليهوذا لكي يكسبهم لصفه، وإن كان هذا له أيضًا جانبه السلبي، فقد أثار هذا الموقف بقية الأسباط إذ حسبت أن يهوذا يميل إلى الانعزالية حاسبًا داود ملكه الخاص لأنه من ذات السبط.
أرسل داود الكاهنين صادوق (= صديق أو بار) وأبيأثار (= أب الثراء) لكي يجتذب بالحب سبطه إليه، وفي ملء الزمان جاءنا ابن داود بنفسه كلمة الله المتجسد ليجتذبنا إليه خلال حياته الفائقة القداسة والأبوة الإلهية الغنية في الحب ليقيمنا أعضاء جسده، عظمه ولحمه، كنيسته المقدسة.
من كان فينا كعماسا له دور قيادي شرير لحساب أبشالوم (رمز إبليس) يحوله بنعمته الإلهية ليصير قائدًا لحساب ملكوت المسيح، كما فعل مع شاول الطرسوسي الذي كان يضطهد الكنيسة فصار بنعمته رسولًا أمينًا وكارزًا بالمسيح.
كما اهتم داود الملك بيهوذا كسبط وأيضًا بعماسا كشخص هكذا يهتم السيد المسيح بكنيسته كجماعة مقدسة عروسه الواحدة دون تجاهل لكل عضو فيها. بنيان الكنيسة هو لحساب نمو كل عضو فيها، وبنيان كل عضو إنما لحساب نمو الجماعة ككل، بلا فصل بين الحياة الكنسية الجماعية والخبرة الشخصية لكل عضو فيها.
٣. شمعي وصيبا يلتقيان بداود:
داود الملك والنبي مع مفيبوشث (مريببعل ابن يوناثان) حفيد شاول الملك
أسرع شمعي وصيبا لمقابلة داود، الأول سبه عند هروبه من أورشليم (١٦: ٥-١٣)، والثاني كذب عليه حينما ادعى أن مفيبوشث يطمع في الكرسي الملكي (١٦: ١-٤). خرج الأول معه ألف رجل من بنيامين وجاء الثاني معه بنوه الخمسة عشر وعبيده العشرون. خاضوا الأردن ليلتقوا بالملك.
رأى أبيشاي أن الوقت مناسب للانتقام من شمعي، أما داود فحسب أن الوقت هو وقت فرح وتضميد جراحات واتساع قلب للجميع، وقت حب وسماحه وعفو!
ما أعجب شخصية داود، مع كل نجاح أو نصرة لا يطلب سلطة وإن نالها لا يسيء استغلالها، بل يحول السلطة إلى حب ورعاية. يرى في الكرسي الملوكي مجالًا للجمع والمصالحة والاتحاد لا لإثارة تصديع وانشقاقات. بعفوه عن شمعي كسب كل سبط بنيامين بل واستراحت قلوب الأسباط الأخرى من أجل هذه الروح السمحة!
إن كان هذا بالنسبة للملك، فماذا نقول عن الأسقف أو الكاهن أو أي قائد روحي؟! الكهنوت أبوة ورعاية وليس سلطة ودكتاتورية! الكهنوت حب في المسيح وليس عجرفة وكرامة زمنية!
* إن شرف الكهنوت عظيم، ولكن إن أخطأ الكهنة فهلاكهم فظيع.
* لا يخلص الكاهن لأجل شرفه، إنما إن سلك بما يليق بشرفه.
القديس إرونيموس[120]
٤. مفيبوشث يلتقي بداود:
نزل مفيبوشث من بيته في جبعة بنيامين إلى أورشليم ليلتقي بالملك داود، حيث لم يعتن برجليه ولا بلحيته منذ ترك داود الكرسي، فوجد باب الملك مفتوحًا أمامه! كان قلب داود مفتوحًا وأبواب قصره مفتوحة للجميع حتى بالنسبة لمقاوميه والمسيئين إليه. التقى بشمعي الذي سبه وصيبا الذي خدعه وها هو يلتقي بمفيبوشث الذي أوضح الأمر أمامه مؤكدًا أن صيبا خدعه إذ أخذ الحمارين وتركه وهو أعرج بلا مطية (١٦: ١-٤). لقد عاتبه داود عن عدم خروجه معه، لكنه ترك له المجال للدفاع دون أخذ حكم مسبق، وحينما أدرك أن صيبا قد وشى بسيده صفح عن مفيبوشث وحكم بتقسيم الحقول - ربما قصد محاصيل الحقول - بين مفيبوشث وصيبا. لم يحكم ضد صيبا ولا طرده من خدمته لأنه صنع معه معروفًا وقت شدته.
تأثر مفيبوشث من كلمات داود وحواره فأعلن اهتمامه بمجيء الملك لا برد نصف الممتلكات إليه. حسب رجوع الملك إلى أورشليم لا يقارن بأية مكاسب أخرى.
كان داود رمزًا للسيد المسيح الذي جاء إلى عالمنا خلال مزود بقر بلا أبواب ومتاريس، مفتوح للجميع لكي ندخل ونحاوره، وإذ نسمع صوته نحسب مجيئه إلى أورشليمنا الداخلية أفضل من كل بركة أو مكسب نناله! حلوله فينا أعظم من أن يقارن بأية بركة مهما كانت قيمتها! مسيحنا يسكن في قلوبنا فيشبع كل احتياجاتنا.
٥. برزلاي يلتقي بداود:
كان برزلاي الجلعادي قد شاخ جدًا، ابن ثمانين سنة، نزل من روجليم وعبر الأردن مع الملك ليشيعه عند الأردن. طلب منه الملك أن يأتي معه إلى أورشليم ليكرمه مقابل اهتمامه بالملك عندما هرب وجاء إلى محنايم حيث قدم مع شوبي وماكير فرشًا وطسوسًا وآنية خزف وحنطة وشعيرًا ودقيقًا وفريكًا وفولًا وعدسًا وحمصًا مشويًا وعسلًا وزبدةً وضأنًا وجبن بقر (١٧: ٢٧-٢٩).
اعتذر برزلاي لشيخوخته أنه لم يعد يميز بين طعام وطعام، ولا يسمع لصوت المغنين والمغنيات وإنما يستعد للرحيل ليدفن في قبر والديه. اكتفى بأن يرسل ابنه كمهام مع الملك ليفعل معه الملك ما أراد بالنسبة لأبيه برزلاي، وقد أوصى داود به سليمان (١ مل ٢: ٧). يبدو أنه جعله حاكمًا في بيت لحم (إر ٤١: ١٧)، ويظن البعض أن السيد المسيح ولد في منزله.
خلال اللقاءات المذكورة في هذا الأصحاح نرى في داود رمزًا للسيد المسيح الذي التقى بالفئات التالية: أولاً: بالكنيسة ككل مرموز لها بسبط يهوذا لتنعم بالاتحاد معه كجسده الواحد، في نفس الوقت اهتم بعماسا علامة اهتمامه بكل عضو. ثانيًا: بالنفوس الساقطة التائبة كشمعي الذي سبق فسب داود. ثالثًا: بالنفوس التي كذبت وخدعت وها هي قادمة بالتوبة مثل صيبا. رابعًا: بالنفوس المحطمة المظلومة مثل مفيبوشث. خامسًا: بالنفوس التقية المنشغلة بخروجها من العالم مثل برزلاي الجلعادي. سادسًا: بالنفوس الحديثة في الإيمان مثل كمهام بن برزلاي، ليهبها سلطانها ويحل في داخلها.
٦. ثورة الأسباط على يهوذا:
أرسل الملك إلى سبط يهوذا الكاهنين صادوق وأبيأثار ليسرعوا بمقابلة الملك، وكان يهدف من ذلك استمالتهم بعدما حرضهم أبشالوم ضده. جاءوا إلى الجلجال. وجاء بنيامينيون مع شمعي، وأيضًا جاء بعض ممن يسكنون شرقي الأردن من أسباط رأوبين وجاد ومنسي، أما بقية الأسباط البعيدة في الغرب فجاءت متأخرة، وحسبت ذهاب يهوذا قبلهم دون انتظارهم إهانة واستخفافًا بهم. أجابهم سبط يهوذا إنهم لم يفعلوا هذا لمصلحة خاصة بالسبط وإنما لمجرد قربهم منه من جهة الموقع، إذ قالوا: "هل أكلنا شيئًا من الملك؟! أو وهبنا هبة؟!".