29 - 03 - 2013, 11:56 AM
|
|
..::| مشرفة |::..
|
|
|
|
|
|
البابا إسحق (إيساك)
(الحادي والأربعون في عداد بطاركة الإسكندرية)
(681-684م)
- 2 -
+ تكملة السيرة التي نُشرت في العدد الماضي (سبتمبر 2004، ص 28-31). وقد توقَّفنا عند ذِكْر ظروف إقامة البابا إسحق ورسامته.
فرح شعب الكنيسة بتحقيق رغبته في انتخاب الراهب إسحق (إيساك) بطريركاً. وقد رُسم البابا إسحق (إيساك) سنة 681م أسقفاً على مدينة الإسكندرية وصار بابا الكرازة المرقسية الحادي والأربعين في عداد بطاركة كرسي الإسكندرية. ويصف كاتب سجل ”تاريخ البطاركة“ أن ”الرب كان معه يُعينه“. وكان أول أعماله بعد رسامته:
إعادة إقامة كاتدرائية القديس مرقس بالإسكندرية:
فقد كانت هذه الكاتدرائية قد مالت جدرانها وآلت للسقوط، كما كاد كرسي الأسقفية فيها أن ينهدم. كما جدَّد البابا إسحق كنائس عديدة لم يتمكن المؤمنون من بنائها للظروف القاسية التي مرُّوا بها منذ الحُكْم البيزنطي وبعد الغزو العربي. كما بنى كنيسة في حلوان على اسم العذراء. وكانت ظروف بناء هذه الكنيسة في هذا المكان النائي الذي يبعد عن القاهرة حوالي الثلاثين كيلومتراً، أن الوالي عبد العزيز أقام لنفسه فيها قصراً، وأمر أراخنة الصعيد وسائر الأقاليم بأن يبني كل واحد منهم لنفسه مسكناً حول قصره. فرجاه الوالي أن يبني في حلوان عدداً من الكنائس والأديرة.
محاولة إجراء الصُّلح بين ملك إثيوبيا وملك النوبة:
كانت هاتان الدولتان يرأسهما ملوك يتبعون كنيسة الإسكندرية، حيث كان بابا الإسكندرية يُرسل لهما الأساقفة ويُتابع تعليمهما بالإيمان الأرثوذكسي. وحدث أن قام نزاع بين الملكين لوجود خلاف بينهما. فلما بلغ البابا قيام هذا النزاع أرسل لهما رسالة لكي يصطلحا.
وكما ذكرنا أنه بعد دخول الغازي العربي، نشأت فئة أو أفراد ذوو نفوس ضعيفة تحاول أن تلتمس لنفسها قدراً ونفوذاً لدى الحاكم الأجنبي الجديد. وهكذا انتهزوا فرصة هذه الرسالة وسَعَوْا إلى الوالي عبد العزيز وادَّعوا أن هذه الرسائل التي أُرسلت للملكين تحمل إساءة للإسلام. والحقيقة أن ملك النوبة كان يسعى إلى محاربة ملك إثيوبيا متفقاً مع العرب الغُزاة بغية الحصول على العبيد المخصصين للجزية السنوية التي تعهَّد بها للغزاة مقابل عدم غزوهم بلاده، وفي الوقت نفسه ولنفس السبب كان يُظهر العداوة للمسيحيين. فكتب إليه البابا إسحق طالباً منه التصالُح مع ملك إثيوبيا، كما كتب لملك إثيوبيا للكفِّ عن التشاحُن بينه وبين ملك النوبة. وكتب لملك النوبة يُحذِّره: ”إن عليك مسئولية عظمى تجاه الله إذا عملت على تعطيل بشارة الخلاص وتسبَّبتَ في خراب الكنائس في الجنوب واضمحلالها“، كما يبدو أنه حذَّره من التحالف مع الغزاة. فسعى هؤلاء إلى الوالي يَشُون بالبابا البطريرك بأنه كتب لملكَي النوبة وإثيوبيا ليتحد معهما على خلع نير الغزاة عن مصر. فغضب الوالي وقبض على البابا البطريرك، وتعاون الأراخنة مع البابا ليُجنِّبوا الكنيسة أي ضرر نتيجة ما ورد في هذه الخطابات من كلمات تخص الغزاة العرب، فأظهروا نسخاً من رسائل البابا للملكَين وحذفوا ما يخص الغزاة. لكن الرسائل لم يكن فيها طبعاً ما أَوشى به الواشون من أنه طلب الاتحاد معهما ضد الغزاة.
وقبل أن يصل البابا إلى الوالي، عرَّفوا الوالي أن الرسل حضروا ومعهم الخطابات، فأسرع في طلبهم، وقرأ الرسائل. فلما وقف على ما فيها ولم يجدها تذكُر ما ذكره الواشون، سكن غضبه، وأمر بإعادة البابا البطريرك إلى الإسكندرية مقر كرسيه، ولكنه حرمه فيما بعد من مزايا كثيرة: إذ أمر بنزع كل الصلبان من على الكنائس ومن داخلها، كما أمر بوضع إعلانات على أبواب الكنائس بما يعتقده المسلمون عن المسيح. وكما يقول كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”إنه حدث اضطراب بين مسيحيي مصر بسبب هذا الأمر“.
من فضائل البابا إسحق: كيف تعامل مع الخصوم؟
فقد كان من بين كَتَبة ديوان الوالي عبد العزيز رجل اسمه ”أثناسيوس“، هذا الرجل أظهر تجاه البابا من الجفاء ما ملأ قلوب المخلصين أسىً وألماً. وحزن البابا إسحق من هذا العقوق المفاجئ، فصار يُصلي ليل نهار ضارعاً إلى الآب السماوي أن يشرق في قلب عبده أثناسيوس بالسلام تجاهه.
وحدث بعد ذلك بشهور قليلة أن مرض الابن الأكبر لأثناسيوس مرضاً خطيراً حتى قارب الموت. وكان البابا لا يزال مداوماً على الصلاة لأجل هذا الكاتب. فظهر للبابا ملاك الرب في حلم وقال له: ”إن أنت أقنعتَ أثناسيوس بالوثوق من شفاعتك، فإن الله سيمنح ابنه الشفاء“.
فلما أصبح الصباح، أخذ الأنبا إسحق يُفكِّر ملياً في الحلم الذي رآه. ثم نادى شماسه الخاص وسأله: ”أيوجد أحد من الأساقفة في الإسكندرية“؟ فأجابه الشماس: ”إنه يوجد ثلاثة أساقفة الآن هم: الأنبا جاورجيوس، والأنبا غريغوريوس، والأنبا بيامون أسقف دمياط“. فاستدعاهم البابا، وأعلمهم بالحلم الذي رآه. ولكن الأنبا غريغوريوس قال له: ”أنت تعرف يا سيدي البابا أن قلب هذا الرجل أثناسيوس قد تحوَّل عنك بصورة غير طبيعية. كما أننا لا نعرف بعد إن كان الحلم الذي رأيته هو من الله أم أن عدو الخير قد تراءى لك ليُسيئ إلى سمعتك“. لكن البابا إسحق كان أعلى وأسمى من هذه الإحساسات والمشاعر البشرية، إذ كان يفوقهم جميعاً في علوِّ روحانيته وثبات محبته. فابتسم البابا في هدوء وسطع وجهه بالنعمة، وقال في ثقة رجال الله ذوي البصيرة المستنيرة والذهن القادر على الإفراز والتفريق بين ما هو من الله وما هو من الشيطان، وردَّ قائلاً: ”أنا عارف أن ملاك الرب قد جاءني بهذا الحلم، وموقن بأنه أمر صادر من أبي القديس مرقس كاروز ديارنا المصرية الذي ائتمنني على رعاية أولاده“! ولم يَسَعْ الأساقفة الثلاثة بإزاء هذه الثقة التامة، إلاَّ أن يذهبوا على الفور إلى دار الكاتب أثناسيوس.
وحين دخلوا إليه، وجدوه يذرف الدموع السخينة، لأن ابنه قد بلغ آخر مراحل الخطر. فأطلعوه على رسالة البابا إسحق. ولم يكد يسمعها حتى نادى على زوجته وركع كلاهما أمام الأساقفة ضارعين إليهم أن يسرعوا في العودة إلى البابا الجليل ويستعطفوه من أجلهما.
وعاد الأساقفة لساعتهم إلى الدار البابوية حيث قصُّوا على خليفة مار مرقس كل ما جرى. وما إن سمع كلماتهم، حتى خرج معهم قاصداً دار الكاتب أثناسيوس. ولما وصلها، دخل على الفور إلى حجرة الشاب المريض ووضع يده على رأسه، وأخذ يُصلي في حرارة وقوة. ولم يكد ينتهي من صلاته ويقول: ”آمين“، حتى قام الشاب من سريره ممتلئاً صحةً وحبوراً، وكأنه لم يمرض ساعة واحدة. فأمر البابا إسحق أن يؤتى بالطعام له، ذاك الذي كان مشرفاً على الموت. ومجَّد الجميع الله، وقد شاركه أبواه في تسبيح الله، كما رفع البابا الإسكندري والأساقفة صلاة شكر للآب السماوي على تحنُّنه على خليقته. ومنذ تلك اللحظة أعلن الكاتب أثناسيوس ولاءه جهاراً للبابا إسحق، وظل طيلة حياته وفياً له. وانتهز البابا هذه الفرصة السعيدة وأبدى رغبته أمام أثناسيوس في أن يرى كنيسة ”الإيفانجيليون“ مبنية مرة أخرى كما كانت قبل دمارها. فسارع أثناسيوس إلى تحقيق رغبة باباه المحبوب. وبنى الكنيسة من جديد وزيَّنها بالرسوم الفنية البديعة.
رائحة فضائل البابا تفوح في قصر الوالي:
وحدث أن دعا الوالي الأنبا إسحق ليقضي في قصره بضعة أيام، فلبَّى الدعوة. وفي ثاني يوم الضيافة قالت زوجة الوالي له بأن رائحة البخور تنبعث من الغرفة المخصصة للبابا الإسكندري. فأجابها بأن الرجل من أصفياء الله، فلا غرابة في أن تُعبَّق الغرفة التي يأوي إليها برائحة البخور. وازداد تقدير الوالي للبابا إلى حدِّ أن طلب منه أن يُشيِّد في حلوان عدداً من الأديرة والكنائس (كما تذكر ذلك مخطوطة قبطية محفوظة في باريس، ترجمها المستشرق الفرنسي آميلينو سنة 1890، ص 61-63)( ).
تشييد الأديرة والكنائس في حلوان:
وقد استجاب البابا إسحق وشعبه لهذا المطلب الصادر من الوالي، وأخذوا يبذلون الجهد والمال وكل ما لديهم من فن ليجعلوا من كنائسهم وأديرتهم آيات فنية رائعة.
رجوع البابا إلى الإسكندرية، ومرضه، ثم نياحته:
وبعد أن بدأ البابا في تكريس الكنائس والأديرة الجديدة، وشعر بفيض من الغبطة، ورفع التسبيح لله على نِعَمه؛ حتى بدأ يشعر بالمرض يدبُّ في جسده. فطلب من الوالي أن يعفيه من الاستمرار في البقاء في حلوان، ليعود إلى الإسكندرية. فحزن الوالي لهذا النبأ وأمر بإعداد سفينة كاملة المعدات لتحمل البابا إلى عاصمة الكرازة المرقسية.
فلما سمع الأساقفة والشعب بالأمر، أسرعوا إلى الإسكندرية يصحبهم عدد غير قليل من الرهبان قدموا من برية شيهيت. وأحاط به الجميع، حيث خدموه في ولاء وسكينة إلى أن أَذِن الرب بأن يُسلِّم روحه في يدي الله. وكان ذلك في 9 هاتور من عام 684م، حيث قضى سنتين و11 شهراً على الكرسي المرقسي.
وقد سجَّل مترجم سيرته، المستشرق آميلينو (المشار إليه أعلاه)، هذه الكلمات في ختام السيرة: ”والآن يرقد جسده في الأرض، وتُقيم روحه في السماء“.
فليمنحنا الله أن نجد رحمة أمامه في يوم الدين، بصلوات هذا الأب المضيء الممتلئ محبة، وبصلوات جميع الآباء القديسين، آمين.
+ + +
من الشخصيات المرموقة التي عاصرت البابا إسحق:
الأنبا زكريا أسقف سايس وأب رهبان برية شيهيت. وكل ما يعرفه التاريخ الكنسي عن هذا الأسقف الجليل هو أنه كان ابن كاهن يُدعى يؤانس. ومع أن يؤانس هذا كان كاهناً، إلاَّ أنه كان كاتباً في ديوان الوالي أيضاً. وكان زكريا ابنه كثير التأمُّل في الإلهيات، فمال بكل حرارة شبابه إلى الحياة الرهبانية. ولم تكن وظيفة أبيه العالمية كافية لأن تجتذبه إلى العالم لعلَّه هو أيضاً يظفر بمثلها، بل سارع إلى الترهُّب في دير القديس يؤانس القصير. وهناك قابل شيخين جليلين من أطهر آباء الرهبنة في جيلهما وهما أبرآم وجَوَرجي الناسكان اللذان ملآ أرجاء الوادي بعبير قداستهما ولا يُعرف كم من السنين قضاها زكريا في الدير، لكنه اختير لأُسقفية سايس حيث قضى فيها ثلاثين عاماً مُعلِّماً ومرشداً لشعبه في وداعة وأمانة. ثم كتب سيرة القديس يؤانس القصير ليجد فيها المؤمنون قدوةً ومثالاً يقتفون أثره. كما كتب عدداً من المقالات والعظات التي تُعبِّر عن اشتياق النفس نحو الله.
بركة صلوات الجميع تكون معنا جميعاً، آمين.
|